فهرس الكتاب
شرح النووى على مسلم - بَابُ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ
باب صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ
[ سـ :3438 ... بـ :1783]
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الصُّلْحَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَتَبَ هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا لَا تَكْتُبْ رَسُولُ اللَّهِ فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ امْحُهُ فَقَالَ مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ فَمَحَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ قَالَ وَكَانَ فِيمَا اشْتَرَطُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلُهَا بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّانَ السِّلَاحِ قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَقَ وَمَا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ قَالَ الْقِرَابُ وَمَا فِيهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيٌّ كِتَابًا بَيْنَهُمْ قَالَ فَكَتَبَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ بِنَحْوِ حَدِيثِ مُعَاذٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ
بَابُ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ
فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَالْجِعِرَّانَةِ لُغَتَانِ : التَّخْفِيفُ وَهُوَ الْأَفْصَحُ ، وَالتَّشْدِيدُ ، وَسَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ .
قَوْلُهُ : ( هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَى قَاضَى هُنَا فَاصَلَ وَأَمْضَى أَمْرَهُ عَلَيْهِ ، وَمِنْهُ قَضَى الْقَاضِي ، أَيْ : فَصَلَ الْحُكْمَ وَأَمْضَاهُ ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ تِلْكَ السَّنَةُ عَامَ الْمُقَاضَاةِ ، وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ ، كُلُّهُ مِنْ هَذَا ، وَغَلَّطُوا مَنْ قَالَ : إِنَّهَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ لِقَضَاءِ الْعُمْرَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ الْمَصْدُودِ عَنْهَا إِذَا تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ فِي أَوَّلِ الْوَثَائِقِ وَكُتُبِ الْإِمْلَاكِ وَالصَّدَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا ( هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ ، أَوْ هَذَا مَا أَصْدَقَ ، أَوْ وَقَفَ ، أَوْ أَعْتَقَ ، وَنَحْوَهُ ) وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ وَجَمِيعِ الْبُلْدَانِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِالِاسْمِ الْمَشْهُورِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ : الْمَذْكُورِ وَأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَنَسَبِهِ .
وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الصُّلْحَ عَلَى مَا رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ .
وَفِيهِ احْتِمَالُ الْمَفْسَدَةِ الْيَسِيرَةِ لِدَفْعِ أَعْظَمَ مِنْهَا أَوْ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِذَلِكَ .
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : امْحُهُ ، فَقَالَ : مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ ( بِالَّذِي أَمْحَاهُ ) وَهِيَ لُغَةٌ فِي ( أَمْحُوهُ ) وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ بَابِ الْأَدَبِ الْمُسْتَحَبِّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتِيمَ مَحْوِ عَلِيٍّ بِنَفْسِهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ ، وَلَوْ حَتَّمَ مَحْوَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَلِيٍّ تَرْكُهُ ، وَلَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ .
قَوْلُهُ : ( وَلَا يَدْخُلُهَا بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ ) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ : ( جُلُبَّانُ السِّلَاحِ ) هُوَ الْقِرَابُ وَمَا فِيهِ ، وَ ( الْجُلُبَّانُ ) بِضَمِّ الْجِيمِ ، قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ : ضَبَطْنَاهُ ( جُلُبَّانُ ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ، قَالَ : وَكَذَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِإِسْكَانِ اللَّامِ ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ ، وَصَوَّبَهُ هُوَ وَثَابِتٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ثَابِتٌ سِوَاهُ ، وَهُوَ أَلْطَفُ مِنَ الْجِرَابِ يَكُونُ مِنَ الْأُدُمِ ، يُوضَعُ فِيهِ السَّيْفُ مُغْمَدًا ، وَيَطْرَحُ فِيهِ الرَّاكِبُ سَوْطَهُ وَأَدَاتَهُ ، وَيُعَلِّقُهُ فِي الرَّحْلِ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَإِنَّمَا شَرَطُوا هَذَا لِوَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : أَلَّا يَظْهَرَ مِنْهُ دُخُولُ الْغَالِبِينَ الْقَاهِرِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ عَرَضَ فِتْنَةٌ أَوْ نَحْوُهَا يَكُونُ فِي الِاسْتِعْدَادِ بِالسِّلَاحِ صُعُوبَةٌ .
قَوْلُهُ : ( اشْتَرَطُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثًا ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : سَبَبُ هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْمُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْإِقَامَةِ ، وَأَمَّا مَا فَوْقَهَا فَلَهُ حُكْمُ الْإِقَامَةِ ، وقَدْ رَتَّبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا قَصْرُ الصَّلَاةِ فِيمَنْ نَوَى إِقَامَةً فِي بَلَدٍ فِي طَرِيقِهِ ، وَقَاسُوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً .
[ سـ :3439 ... بـ :1783]
حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ جَمِيعًا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَاللَّفْظُ لِإِسْحَقَ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ وَلَا يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ قَالَ لِعَلِيٍّ اكْتُبْ الشَّرْطَ بَيْنَنَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا فَقَالَ عَلِيٌّ لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرِنِي مَكَانَهَا فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا أَنْ كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ قَالُوا لِعَلِيٍّ هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ فَأْمُرْهُ فَلْيَخْرُجْ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ فَخَرَجَ وَقَالَ ابْنُ جَنَابٍ فِي رِوَايَتِهِ مَكَانَ تَابَعْنَاكَ بَايَعْنَاكَ
قَوْلُهُ : ( لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَيْتِ ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا ( أُحْصِرَ عِنْدَ الْبَيْتِ ) وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ جَمِيعِ الرُّوَاةِ سِوَى ابْنِ الْحَذَّاءِ ، فَإِنَّ فِي رِوَايَتِهِ ( عَنِ الْبَيْتِ ) وَهُوَ الْوَجْهُ ، وَأَمَّا الْحَصْرُ وَحُصِرَ فَسَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَرِنِي مَكَانَهَا ، فَأَرَاهُ مَكَانَهَا ، فَمَحَاهَا وَكَتَبَ : ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : احْتَجَّ بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ ذَلِكَ بِيَدِهِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، وَقَالَ فِيهِ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ فَكَتَبَ ، وَزَادَ عَنْهُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ " وَلَا يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ فَكَتَبَ " قَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ إِمَّا بِأَنْ كَتَبَ ذَلِكَ الْقَلَمُ بِيَدِهِ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يَكْتُبُ ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَهُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ حَتَّى كَتَبَ ، وَجَعَلَ هَذَا زِيَادَةً فِي مُعْجِزَاتِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا فَكَمَا عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ مِنَ الْعِلْمِ ، وَجَعَلَهُ يَقْرَأُ أوَيَتْلُو مَا لَمْ يَكُنْ يَتْلُو ، كَذَلِكَ عَلَّمَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا لَمْ يَكُنْ يَكْتُبُ ، وَخَطَّ مَا لَمْ يَخُطَّ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ، أَوْ أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ ، قَالُوا : وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي وَصْفِهِ بِالْأُمِّيَّةِ ، وَاحْتَجُّوا بِآثَارٍ جَاءَتْ فِي هَذَا عَنِ الشَّعْبِيِّ وَبَعْضِ السَّلَفِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَتَبَ . قَالَ الْقَاضِي : وَإِلَى جَوَازِ هَذَا ذَهَبَ الْبَاجِيُّ ، وَحَكَاهُ عَنِ السِّمَنَانِيِّ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى مَنْعِ هَذَا كُلِّهِ ، قَالُوا : وَهَذَا الَّذِي زَعَمَهُ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُبْطِلُهُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ ، قَالُوا : وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : ( كَتَبَ ) مَعْنَاهُ : أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ ، كَمَا يُقَالُ : رَجَمَ مَاعِزًا ، وَقَطَعَ السَّارِقَ ، وَجَلَدَ الشَّارِبَ ، أَيْ : أَمَرَ بِذَلِكَ ، وَاحْتَجُّوا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( فَقَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اكْتُبْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ) قَالَ الْقَاضِي : وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ لَمْ يَتْلُ وَلَمْ يَخُطَّ ، أَيْ مِنْ قَبْلِ تَعْلِيمِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مِنْ قَبْلِهِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يَتْلُوَ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ ، وَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا إِذْ لَيْسَتِ الْمُعْجِزَةُ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا ، فَإِنَّ الْمُعْجِزَةَ حَاصِلَةٌ بِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلًا كَذَلِكَ ، ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ ، وَبِعُلُومٍ لَا يَعْلَمُهَا الْأُمِّيُّونَ ، قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ظَاهِرٌ ، قَالَ : وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا : ( وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكْتُبَ فَكَتَبَ ) كَالنَّصِّ أَنَّهُ كَتَبَ بِنَفْسِهِ ، قَالَ : وَالْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ مَجَازٌ ، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ ، قَالَ : وَقَدْ طَالَ كَلَامُ كُلِّ فِرْقَةٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَشَنَّعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ عَلَى الْأُخْرَى فِي هَذَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا ( يَوْمُ الثَّالِثِ ) بِإِضَافَةِ ( يَوْمٍ ) إِلَى الثَّالِثِ ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ ، وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ : جَوَازُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ : تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ مِنْهُ ، أَيْ يَوْمُ الزَّمَانِ الثَّالِثِ .
قَوْلُهُ : ( فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ ، قَالُوا لِعَلِيٍّ : هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ فَأْمُرْهُ أَنْ يَخْرُجَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ : نَعَمْ : فَخَرَجَ ) هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ حَذْفٌ وَاخْتِصَارٌ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَقَعْ فِي عَامِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ ، وَكَانُوا شَارَطُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَجِيءَ بِالْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَعْتَمِرَ وَلَا يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَجَاءَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، فَأَقَامَ إِلَى أَوَاخِرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، فَقَالُوا لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَذَا الْكَلَامَ ، فَاخْتَصَرَ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْإِقَامَةَ وَهَذَا الْكَلَامَ كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، وَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ بِكَوْنِهِ مَعْلُومًا ، وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أَحْوَجُوهُمْ إِلَى أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُمُ الْخُرُوجَ وَيَقُومُوا بِالشَّرْطِ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا الطَّلَبَ كَانَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بِيَسِيرٍ ، وَكَانَ عَزْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَلَى الِارْتِحَالِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ ، فَاحْتَاطَ الْكُفَّارُ لِأَنْفُسِهِمْ وَطَلَبُوا الِارْتِحَالَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ بِيَسِيرٍ ، فَخَرَجُوا عِنْدَ انْقِضَائِهَا وَفَاءً بِالشَّرْطِ ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِيمِينَ لَوْ لَمْ يُطْلَبِ ارْتِحَالُهُمْ .
[ سـ :3440 ... بـ :1784]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا بِاسْمِ اللَّهِ فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَكِنْ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَقَالَ اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَاتَّبَعْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا قَالَ نَعَمْ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ سُهَيْلٌ : أَمَّا بِسْمِ اللَّهِ فَمَا نَدْرِي مَا ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ) وَلَكِنِ اكْتُبْ : بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَافَقَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ كِتَابَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَأَنَّهُ كَتَبَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَتَرَكَ كِتَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْنَا دُونَ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا وَافَقَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّةِ الْحَاصِلَةِ بِالصُّلْحِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ، أَمَّا الْبَسْمَلَةُ وَبِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ، وَكَذَا قَوْلُهُ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ أَيْضًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ وَصْفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ ، وَلَا فِي تَرْكِ وَصْفِهِ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا بِالرِّسَالَةِ مَا يَنْفِيهَا ، فَلَا مَفْسَدَةَ فِيمَا طَلَبُوهُ ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ تَكُونُ لَوْ طَلَبُوا أَنْ يَكْتُبَ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا شَرْطُ رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ ، وَمَنْعِ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِكْمَةَ فِيهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ : مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ثُمَّ كَانَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ اللَّهُ لِلَّذِينَ جَاءُونَا مِنْهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَيْهِمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ، وَهَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَالْمَصْلَحَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى إِتْمَامِ هَذَا الصُّلْحِ مَا ظَهَرَ مِنْ ثَمَرَاتِهِ الْبَاهِرَةِ ، وَفَوَائِدِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ ، الَّتِي كَانَتْ عَاقِبَتُهَا فَتْحَ مَكَّةَ ، وَإِسْلَامَ أَهْلِهَا كُلِّهَا ، وَدُخُولَ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَبْلَ الصُّلْحِ لَمْ يَكُونُوا يَخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَتَظَاهَرُ عِنْدَهُمْ أُمُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هِيَ ، وَلَا يَحِلُّونَ بِمَنْ يُعْلِمُهُمْ بِهَا مُفَصَّلَةً ، فَلَمَّا حَصَلَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ اخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِينَ ، وَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَكَّةَ ، وَحَلُّوا بِأَهْلِهِمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَسْتَنْصِحُونَهُ ، وَسَمِعُوا مِنْهُمْ أَحْوَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّلَةً بِجُزْئِيَّاتِهَا ، وَمُعْجِزَاتِهِ الظَّاهِرَةَ ، وَأَعْلَامَ نُبُوَّتِهِ الْمُتَظَاهِرَةَ ، وَحُسْنَ سِيرَتِهِ ، وَجَمِيلَ طَرِيقَتِهِ ، وَعَايَنُوا بِأَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ ، فَمَا زَلَّتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ حَتَّى بَادَرَ خَلْقٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا بَيْنَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ ، وَازْدَادَ الْآخَرُونَ مَيْلًا إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ لِمَا كَانَ قَدْ تَمَهَّدَ لَهُمْ مِنَ الْمَيْلِ ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ فِي الْبَوَادِي يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ إِسْلَامَ قُرَيْشٍ ، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمَتِ الْعَرَبُ فِي الْبَوَادِي . قَالَ تَعَالَى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا .
[ سـ :3441 ... بـ :1785]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ح وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا وَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ قَالَ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ قَالَ بَلَى قَالَ فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَقَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا قَالَ فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيِّظًا فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ قَالَ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ قَالَ بَلَى قَالَ فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَقَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا قَالَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ فَتْحٌ هُوَ قَالَ نَعَمْ فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ
قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ ) هُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتُ مُخَفَّفَةٍ ثُمَّ أَلِفٍ ، ثُمَّ هَاءٍ فِي الْوَقْفِ وَالدَّرْجِ عَلَى وَزْنَيْ مِيَاهٍ وَشِيَاهٍ .
قَوْلُهُ : ( قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى آخِرِهِ ) أَرَادَ بِهَذَا تَصْبِيرَ النَّاسِ عَلَى الصُّلْحِ ، وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا يُرْجَى بَعْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ ، فَإِنَّهُ يُرْجَى مَصِيرُهُ إِلَى خَيْرٍ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ فِي الِابْتِدَاءِ مِمَّا تَكْرَهُهُ النُّفُوسُ ، كَمَا كَانَ شَأْنُ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَإِنَّمَا قَالَ سَهْلٌ هَذَا الْقَوْلَ حِينَ ظَهَرَ مِنْ أَصْحَابَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَرَاهَةَ التَّحْكِيمِ ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا جَرَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ كَرَاهَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ الصُّلْحَ ، وَأَقْوَالِهِمْ فِي كَرَاهَتِهِ ، وَمَعَ هَذَا فَأَعْقَبَ خَيْرًا عَظِيمًا ، فَقَرَّرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصُّلْحِ مَعَ أَنَّ إِرَادَتَهُمْ كَانَتْ مُنَاجَزَةَ كُفَّارِ مَكَّةَ بِالْقِتَالِ ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا ) هِيَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ ، أَيْ : النَّقِيصَةُ ، وَالْحَالَةُ النَّاقِصَةُ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : لَمْ يَكُنْ سُؤَالُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَلَامُهُ الْمَذْكُورُ شَكًّا ; بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ ، وَحَثًّا عَلَى إِذْلَالِ الْكُفَّارِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَمَا عُرِفَ مِنْ خُلُقِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقُوَّتِهِ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ وَإِذْلَالِ الْمُبْطِلِينَ .
وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعُمَرَ بِمِثْلِ جَوَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ عَلَى عَظِيمِ فَضْلِهِ ، وَبَارِعِ عِلْمِهِ ، وَزِيَادَةِ عِرْفَانِهِ وَرُسُوخِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ ، وَزِيَادَتِهِ فِيهِ كُلِّهِ عَلَى غَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
قَوْلُهُ : ( فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأهُ إِيَّاهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ ) الْمُرَادُ أَنَّهُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا وَكَانَ الْفَتْحُ هُوَ صُلْحَ يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَالَ عُمَرُ : أَوَفَتْحٌ هُوَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ . لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا .
وَفِيهِ إِعْلَامُ الْإِمَامِ وَالْعَالِمِ كِبَارَ أَصْحَابِهِ بمَا يَقَعُ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ ، وَالْبَعْثِ إِلَيْهِمْ لِإِعْلَامِهِمْ بِذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
[ سـ :3442 ... بـ :1785]
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ بِصِفِّينَ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَنِّي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَدَدْتُهُ وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ قَطُّ إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ إِلَّا أَمْرَكُمْ هَذَا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ نُمَيْرٍ إِلَى أَمْرٍ قَطُّ وَحَدَّثَنَاه عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَقُ جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ ح وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ كِلَاهُمَا عَنْ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَفِي حَدِيثِهِمَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا
قَوْلُهُ : ( يَوْمُ أَبِي جَنْدَلٍ ) هُوَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَاسْمُ أَبِي جَنْدَلٍ : الْعَاصِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو .
وَقَوْلُهُ : ( أَمْرٌ يَفْظَعُنَا ) أَيْ : يَشُقُّ عَلَيْنَا وَنَخَافُهُ .
قَوْلُهُ : ( إِلَا أَمْرَكُمْ هَذَا ) يَعْنِي الْقِتَالَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ .
[ سـ :3443 ... بـ :1785]
وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ بِصِفِّينَ يَقُولُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَتَحْنَا مِنْهُ فِي خُصْمٍ إِلَّا انْفَجَرَ عَلَيْنَا مِنْهُ خُصْمٌ
قَوْلُهُ : ( عَنْ أَبِي حَصِينٍ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ .
قَوْلُهُ : ( عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ قَالَ : اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَا فَتَحْنَا مِنْهُ فِي خُصْمٍ إِلَّا انْفَجَرَ عَلَيْنَا مِنْهُ خُصْمٌ ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ كُلِّهَا ، وَفِيهِ مَحْذُوفٌ ، وَهُوَ جَوَابُ ( لَوْ ) تَقْدِيرُهُ : وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَدَدْتُهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ، وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ وَنَظَائِرُهُ ، فَكُلُّهُ مَحْذُوفُ جَوَابِ ( لَوْ ) لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( مَا فَتَحْنَا مِنْهُ خُصْمًا ) فَالضَّمِيرُ فِي ( مِنْهُ ) عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ : اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ ، وَمَعْنَاهُ مَا أَصْلَحْنَا مِنْ رَأْيِكُمْ وَأَمْرِكُمْ هَذَا نَاحِيَةً إِلَّا انْفَتَحَ أُخْرَى ، وَلَا يَصِحُّ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( مَا فَتَحْنَا مِنْهُ خُصْمًا ) فَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ ، قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ غَلَطٌ أَوْ تَغْيِيرٌ ، وَصَوَابُهُ : مَا سَدَدْنَا مِنْهُ خُصْمًا ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ( مَا سَدَدْنَا ) وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ ، وَيَتَقَابَلُ سَدَدْنَا بِقَوْلِهِ : إِلَّا انْفَجَرَ ، وَأَمَّا ( الْخُصْمُ ) فَبِضَمِّ الْخَاءِ ، وَخُصْمُ كُلِّ شَيْءٍ : طَرَفُهُ وَنَاحِيَتُهُ ، وَشَبَّهَهُ بِخُصْمِ الرَّاوِيَةِ وَانْفِجَارِ الْمَاءِ مِنْ طَرَفِهَا أَوْ بِخُصْمِ الْغِرَارَةِ وَالْخُرْجِ وَانْصِبَابِ مَا فِيهِ بِانْفِجَارِهِ .
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ مُصَالَحَةِ الْكُفَّارِ إِذَا كَانَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّ مُدَّتَهَا لَا تَزِيدُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَظْهِرًا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَفِي قَوْلٍ يَجُوزُ دُونَ سَنَةٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَدَّ لِذَلِكَ ، بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ قَلَّ أَمْ كَثُرَ بِحَسَبِ رَأْيِ الْإِمَامِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
[ سـ :3438 ... بـ :1783]
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الصُّلْحَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَتَبَ هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا لَا تَكْتُبْ رَسُولُ اللَّهِ فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ امْحُهُ فَقَالَ مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ فَمَحَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ قَالَ وَكَانَ فِيمَا اشْتَرَطُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلُهَا بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّانَ السِّلَاحِ قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَقَ وَمَا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ قَالَ الْقِرَابُ وَمَا فِيهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيٌّ كِتَابًا بَيْنَهُمْ قَالَ فَكَتَبَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ بِنَحْوِ حَدِيثِ مُعَاذٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ
بَابُ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ
فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَالْجِعِرَّانَةِ لُغَتَانِ : التَّخْفِيفُ وَهُوَ الْأَفْصَحُ ، وَالتَّشْدِيدُ ، وَسَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ .
قَوْلُهُ : ( هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَى قَاضَى هُنَا فَاصَلَ وَأَمْضَى أَمْرَهُ عَلَيْهِ ، وَمِنْهُ قَضَى الْقَاضِي ، أَيْ : فَصَلَ الْحُكْمَ وَأَمْضَاهُ ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ تِلْكَ السَّنَةُ عَامَ الْمُقَاضَاةِ ، وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ ، كُلُّهُ مِنْ هَذَا ، وَغَلَّطُوا مَنْ قَالَ : إِنَّهَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ لِقَضَاءِ الْعُمْرَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ الْمَصْدُودِ عَنْهَا إِذَا تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ فِي أَوَّلِ الْوَثَائِقِ وَكُتُبِ الْإِمْلَاكِ وَالصَّدَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا ( هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ ، أَوْ هَذَا مَا أَصْدَقَ ، أَوْ وَقَفَ ، أَوْ أَعْتَقَ ، وَنَحْوَهُ ) وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ وَجَمِيعِ الْبُلْدَانِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِالِاسْمِ الْمَشْهُورِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ : الْمَذْكُورِ وَأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَنَسَبِهِ .
وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الصُّلْحَ عَلَى مَا رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ .
وَفِيهِ احْتِمَالُ الْمَفْسَدَةِ الْيَسِيرَةِ لِدَفْعِ أَعْظَمَ مِنْهَا أَوْ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِذَلِكَ .
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : امْحُهُ ، فَقَالَ : مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ ( بِالَّذِي أَمْحَاهُ ) وَهِيَ لُغَةٌ فِي ( أَمْحُوهُ ) وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ بَابِ الْأَدَبِ الْمُسْتَحَبِّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتِيمَ مَحْوِ عَلِيٍّ بِنَفْسِهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ ، وَلَوْ حَتَّمَ مَحْوَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَلِيٍّ تَرْكُهُ ، وَلَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ .
قَوْلُهُ : ( وَلَا يَدْخُلُهَا بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ ) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ : ( جُلُبَّانُ السِّلَاحِ ) هُوَ الْقِرَابُ وَمَا فِيهِ ، وَ ( الْجُلُبَّانُ ) بِضَمِّ الْجِيمِ ، قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ : ضَبَطْنَاهُ ( جُلُبَّانُ ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ، قَالَ : وَكَذَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِإِسْكَانِ اللَّامِ ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ ، وَصَوَّبَهُ هُوَ وَثَابِتٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ثَابِتٌ سِوَاهُ ، وَهُوَ أَلْطَفُ مِنَ الْجِرَابِ يَكُونُ مِنَ الْأُدُمِ ، يُوضَعُ فِيهِ السَّيْفُ مُغْمَدًا ، وَيَطْرَحُ فِيهِ الرَّاكِبُ سَوْطَهُ وَأَدَاتَهُ ، وَيُعَلِّقُهُ فِي الرَّحْلِ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَإِنَّمَا شَرَطُوا هَذَا لِوَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : أَلَّا يَظْهَرَ مِنْهُ دُخُولُ الْغَالِبِينَ الْقَاهِرِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ عَرَضَ فِتْنَةٌ أَوْ نَحْوُهَا يَكُونُ فِي الِاسْتِعْدَادِ بِالسِّلَاحِ صُعُوبَةٌ .
قَوْلُهُ : ( اشْتَرَطُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثًا ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : سَبَبُ هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْمُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْإِقَامَةِ ، وَأَمَّا مَا فَوْقَهَا فَلَهُ حُكْمُ الْإِقَامَةِ ، وقَدْ رَتَّبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا قَصْرُ الصَّلَاةِ فِيمَنْ نَوَى إِقَامَةً فِي بَلَدٍ فِي طَرِيقِهِ ، وَقَاسُوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً .
[ سـ :3439 ... بـ :1783]
حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ جَمِيعًا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَاللَّفْظُ لِإِسْحَقَ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ وَلَا يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ قَالَ لِعَلِيٍّ اكْتُبْ الشَّرْطَ بَيْنَنَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا فَقَالَ عَلِيٌّ لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرِنِي مَكَانَهَا فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا أَنْ كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ قَالُوا لِعَلِيٍّ هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ فَأْمُرْهُ فَلْيَخْرُجْ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ فَخَرَجَ وَقَالَ ابْنُ جَنَابٍ فِي رِوَايَتِهِ مَكَانَ تَابَعْنَاكَ بَايَعْنَاكَ
قَوْلُهُ : ( لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَيْتِ ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ بِلَادِنَا ( أُحْصِرَ عِنْدَ الْبَيْتِ ) وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ جَمِيعِ الرُّوَاةِ سِوَى ابْنِ الْحَذَّاءِ ، فَإِنَّ فِي رِوَايَتِهِ ( عَنِ الْبَيْتِ ) وَهُوَ الْوَجْهُ ، وَأَمَّا الْحَصْرُ وَحُصِرَ فَسَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَرِنِي مَكَانَهَا ، فَأَرَاهُ مَكَانَهَا ، فَمَحَاهَا وَكَتَبَ : ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : احْتَجَّ بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ ذَلِكَ بِيَدِهِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، وَقَالَ فِيهِ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ فَكَتَبَ ، وَزَادَ عَنْهُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ " وَلَا يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ فَكَتَبَ " قَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ إِمَّا بِأَنْ كَتَبَ ذَلِكَ الْقَلَمُ بِيَدِهِ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يَكْتُبُ ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَهُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ حَتَّى كَتَبَ ، وَجَعَلَ هَذَا زِيَادَةً فِي مُعْجِزَاتِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا فَكَمَا عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ مِنَ الْعِلْمِ ، وَجَعَلَهُ يَقْرَأُ أوَيَتْلُو مَا لَمْ يَكُنْ يَتْلُو ، كَذَلِكَ عَلَّمَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا لَمْ يَكُنْ يَكْتُبُ ، وَخَطَّ مَا لَمْ يَخُطَّ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ، أَوْ أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ ، قَالُوا : وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي وَصْفِهِ بِالْأُمِّيَّةِ ، وَاحْتَجُّوا بِآثَارٍ جَاءَتْ فِي هَذَا عَنِ الشَّعْبِيِّ وَبَعْضِ السَّلَفِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَتَبَ . قَالَ الْقَاضِي : وَإِلَى جَوَازِ هَذَا ذَهَبَ الْبَاجِيُّ ، وَحَكَاهُ عَنِ السِّمَنَانِيِّ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى مَنْعِ هَذَا كُلِّهِ ، قَالُوا : وَهَذَا الَّذِي زَعَمَهُ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُبْطِلُهُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ ، قَالُوا : وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : ( كَتَبَ ) مَعْنَاهُ : أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ ، كَمَا يُقَالُ : رَجَمَ مَاعِزًا ، وَقَطَعَ السَّارِقَ ، وَجَلَدَ الشَّارِبَ ، أَيْ : أَمَرَ بِذَلِكَ ، وَاحْتَجُّوا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( فَقَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اكْتُبْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ) قَالَ الْقَاضِي : وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ لَمْ يَتْلُ وَلَمْ يَخُطَّ ، أَيْ مِنْ قَبْلِ تَعْلِيمِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مِنْ قَبْلِهِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يَتْلُوَ جَازَ أَنْ يَكْتُبَ ، وَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا إِذْ لَيْسَتِ الْمُعْجِزَةُ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا ، فَإِنَّ الْمُعْجِزَةَ حَاصِلَةٌ بِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلًا كَذَلِكَ ، ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ ، وَبِعُلُومٍ لَا يَعْلَمُهَا الْأُمِّيُّونَ ، قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ظَاهِرٌ ، قَالَ : وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا : ( وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكْتُبَ فَكَتَبَ ) كَالنَّصِّ أَنَّهُ كَتَبَ بِنَفْسِهِ ، قَالَ : وَالْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ مَجَازٌ ، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ ، قَالَ : وَقَدْ طَالَ كَلَامُ كُلِّ فِرْقَةٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَشَنَّعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ عَلَى الْأُخْرَى فِي هَذَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ ) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا ( يَوْمُ الثَّالِثِ ) بِإِضَافَةِ ( يَوْمٍ ) إِلَى الثَّالِثِ ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ ، وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ : جَوَازُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ : تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ مِنْهُ ، أَيْ يَوْمُ الزَّمَانِ الثَّالِثِ .
قَوْلُهُ : ( فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ ، قَالُوا لِعَلِيٍّ : هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ فَأْمُرْهُ أَنْ يَخْرُجَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ : نَعَمْ : فَخَرَجَ ) هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ حَذْفٌ وَاخْتِصَارٌ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَقَعْ فِي عَامِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ ، وَكَانُوا شَارَطُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَجِيءَ بِالْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَعْتَمِرَ وَلَا يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَجَاءَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، فَأَقَامَ إِلَى أَوَاخِرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، فَقَالُوا لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَذَا الْكَلَامَ ، فَاخْتَصَرَ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْإِقَامَةَ وَهَذَا الْكَلَامَ كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، وَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ بِكَوْنِهِ مَعْلُومًا ، وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أَحْوَجُوهُمْ إِلَى أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُمُ الْخُرُوجَ وَيَقُومُوا بِالشَّرْطِ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا الطَّلَبَ كَانَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بِيَسِيرٍ ، وَكَانَ عَزْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَلَى الِارْتِحَالِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ ، فَاحْتَاطَ الْكُفَّارُ لِأَنْفُسِهِمْ وَطَلَبُوا الِارْتِحَالَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثَةِ بِيَسِيرٍ ، فَخَرَجُوا عِنْدَ انْقِضَائِهَا وَفَاءً بِالشَّرْطِ ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِيمِينَ لَوْ لَمْ يُطْلَبِ ارْتِحَالُهُمْ .
[ سـ :3440 ... بـ :1784]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا بِاسْمِ اللَّهِ فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَكِنْ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَقَالَ اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَاتَّبَعْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا قَالَ نَعَمْ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ سُهَيْلٌ : أَمَّا بِسْمِ اللَّهِ فَمَا نَدْرِي مَا ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ) وَلَكِنِ اكْتُبْ : بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَافَقَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ كِتَابَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَأَنَّهُ كَتَبَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَتَرَكَ كِتَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْنَا دُونَ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا وَافَقَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّةِ الْحَاصِلَةِ بِالصُّلْحِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ، أَمَّا الْبَسْمَلَةُ وَبِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ، وَكَذَا قَوْلُهُ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ أَيْضًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ وَصْفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ ، وَلَا فِي تَرْكِ وَصْفِهِ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا بِالرِّسَالَةِ مَا يَنْفِيهَا ، فَلَا مَفْسَدَةَ فِيمَا طَلَبُوهُ ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ تَكُونُ لَوْ طَلَبُوا أَنْ يَكْتُبَ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا شَرْطُ رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ ، وَمَنْعِ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِكْمَةَ فِيهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ : مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ثُمَّ كَانَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ اللَّهُ لِلَّذِينَ جَاءُونَا مِنْهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَيْهِمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ، وَهَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَالْمَصْلَحَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى إِتْمَامِ هَذَا الصُّلْحِ مَا ظَهَرَ مِنْ ثَمَرَاتِهِ الْبَاهِرَةِ ، وَفَوَائِدِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ ، الَّتِي كَانَتْ عَاقِبَتُهَا فَتْحَ مَكَّةَ ، وَإِسْلَامَ أَهْلِهَا كُلِّهَا ، وَدُخُولَ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَبْلَ الصُّلْحِ لَمْ يَكُونُوا يَخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَتَظَاهَرُ عِنْدَهُمْ أُمُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هِيَ ، وَلَا يَحِلُّونَ بِمَنْ يُعْلِمُهُمْ بِهَا مُفَصَّلَةً ، فَلَمَّا حَصَلَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ اخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِينَ ، وَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَكَّةَ ، وَحَلُّوا بِأَهْلِهِمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَسْتَنْصِحُونَهُ ، وَسَمِعُوا مِنْهُمْ أَحْوَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّلَةً بِجُزْئِيَّاتِهَا ، وَمُعْجِزَاتِهِ الظَّاهِرَةَ ، وَأَعْلَامَ نُبُوَّتِهِ الْمُتَظَاهِرَةَ ، وَحُسْنَ سِيرَتِهِ ، وَجَمِيلَ طَرِيقَتِهِ ، وَعَايَنُوا بِأَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ ، فَمَا زَلَّتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ حَتَّى بَادَرَ خَلْقٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا بَيْنَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ ، وَازْدَادَ الْآخَرُونَ مَيْلًا إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ لِمَا كَانَ قَدْ تَمَهَّدَ لَهُمْ مِنَ الْمَيْلِ ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ فِي الْبَوَادِي يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ إِسْلَامَ قُرَيْشٍ ، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمَتِ الْعَرَبُ فِي الْبَوَادِي . قَالَ تَعَالَى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا .
[ سـ :3441 ... بـ :1785]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ح وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا وَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ قَالَ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ قَالَ بَلَى قَالَ فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَقَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا قَالَ فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيِّظًا فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ قَالَ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ قَالَ بَلَى قَالَ فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَقَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا قَالَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ فَتْحٌ هُوَ قَالَ نَعَمْ فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ
قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ ) هُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتُ مُخَفَّفَةٍ ثُمَّ أَلِفٍ ، ثُمَّ هَاءٍ فِي الْوَقْفِ وَالدَّرْجِ عَلَى وَزْنَيْ مِيَاهٍ وَشِيَاهٍ .
قَوْلُهُ : ( قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى آخِرِهِ ) أَرَادَ بِهَذَا تَصْبِيرَ النَّاسِ عَلَى الصُّلْحِ ، وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا يُرْجَى بَعْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ ، فَإِنَّهُ يُرْجَى مَصِيرُهُ إِلَى خَيْرٍ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ فِي الِابْتِدَاءِ مِمَّا تَكْرَهُهُ النُّفُوسُ ، كَمَا كَانَ شَأْنُ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَإِنَّمَا قَالَ سَهْلٌ هَذَا الْقَوْلَ حِينَ ظَهَرَ مِنْ أَصْحَابَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَرَاهَةَ التَّحْكِيمِ ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا جَرَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ كَرَاهَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ الصُّلْحَ ، وَأَقْوَالِهِمْ فِي كَرَاهَتِهِ ، وَمَعَ هَذَا فَأَعْقَبَ خَيْرًا عَظِيمًا ، فَقَرَّرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصُّلْحِ مَعَ أَنَّ إِرَادَتَهُمْ كَانَتْ مُنَاجَزَةَ كُفَّارِ مَكَّةَ بِالْقِتَالِ ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا ) هِيَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ ، أَيْ : النَّقِيصَةُ ، وَالْحَالَةُ النَّاقِصَةُ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : لَمْ يَكُنْ سُؤَالُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَلَامُهُ الْمَذْكُورُ شَكًّا ; بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ ، وَحَثًّا عَلَى إِذْلَالِ الْكُفَّارِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَمَا عُرِفَ مِنْ خُلُقِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقُوَّتِهِ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ وَإِذْلَالِ الْمُبْطِلِينَ .
وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعُمَرَ بِمِثْلِ جَوَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ عَلَى عَظِيمِ فَضْلِهِ ، وَبَارِعِ عِلْمِهِ ، وَزِيَادَةِ عِرْفَانِهِ وَرُسُوخِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ ، وَزِيَادَتِهِ فِيهِ كُلِّهِ عَلَى غَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
قَوْلُهُ : ( فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأهُ إِيَّاهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ ) الْمُرَادُ أَنَّهُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا وَكَانَ الْفَتْحُ هُوَ صُلْحَ يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَالَ عُمَرُ : أَوَفَتْحٌ هُوَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ . لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا .
وَفِيهِ إِعْلَامُ الْإِمَامِ وَالْعَالِمِ كِبَارَ أَصْحَابِهِ بمَا يَقَعُ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ ، وَالْبَعْثِ إِلَيْهِمْ لِإِعْلَامِهِمْ بِذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
[ سـ :3442 ... بـ :1785]
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ بِصِفِّينَ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَنِّي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَدَدْتُهُ وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ قَطُّ إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ إِلَّا أَمْرَكُمْ هَذَا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ نُمَيْرٍ إِلَى أَمْرٍ قَطُّ وَحَدَّثَنَاه عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَقُ جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ ح وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ كِلَاهُمَا عَنْ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَفِي حَدِيثِهِمَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا
قَوْلُهُ : ( يَوْمُ أَبِي جَنْدَلٍ ) هُوَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَاسْمُ أَبِي جَنْدَلٍ : الْعَاصِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو .
وَقَوْلُهُ : ( أَمْرٌ يَفْظَعُنَا ) أَيْ : يَشُقُّ عَلَيْنَا وَنَخَافُهُ .
قَوْلُهُ : ( إِلَا أَمْرَكُمْ هَذَا ) يَعْنِي الْقِتَالَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ .
[ سـ :3443 ... بـ :1785]
وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ بِصِفِّينَ يَقُولُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَتَحْنَا مِنْهُ فِي خُصْمٍ إِلَّا انْفَجَرَ عَلَيْنَا مِنْهُ خُصْمٌ
قَوْلُهُ : ( عَنْ أَبِي حَصِينٍ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ .
قَوْلُهُ : ( عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ قَالَ : اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَا فَتَحْنَا مِنْهُ فِي خُصْمٍ إِلَّا انْفَجَرَ عَلَيْنَا مِنْهُ خُصْمٌ ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ كُلِّهَا ، وَفِيهِ مَحْذُوفٌ ، وَهُوَ جَوَابُ ( لَوْ ) تَقْدِيرُهُ : وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَدَدْتُهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ، وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ وَنَظَائِرُهُ ، فَكُلُّهُ مَحْذُوفُ جَوَابِ ( لَوْ ) لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( مَا فَتَحْنَا مِنْهُ خُصْمًا ) فَالضَّمِيرُ فِي ( مِنْهُ ) عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ : اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ ، وَمَعْنَاهُ مَا أَصْلَحْنَا مِنْ رَأْيِكُمْ وَأَمْرِكُمْ هَذَا نَاحِيَةً إِلَّا انْفَتَحَ أُخْرَى ، وَلَا يَصِحُّ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( مَا فَتَحْنَا مِنْهُ خُصْمًا ) فَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ ، قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ غَلَطٌ أَوْ تَغْيِيرٌ ، وَصَوَابُهُ : مَا سَدَدْنَا مِنْهُ خُصْمًا ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ( مَا سَدَدْنَا ) وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ ، وَيَتَقَابَلُ سَدَدْنَا بِقَوْلِهِ : إِلَّا انْفَجَرَ ، وَأَمَّا ( الْخُصْمُ ) فَبِضَمِّ الْخَاءِ ، وَخُصْمُ كُلِّ شَيْءٍ : طَرَفُهُ وَنَاحِيَتُهُ ، وَشَبَّهَهُ بِخُصْمِ الرَّاوِيَةِ وَانْفِجَارِ الْمَاءِ مِنْ طَرَفِهَا أَوْ بِخُصْمِ الْغِرَارَةِ وَالْخُرْجِ وَانْصِبَابِ مَا فِيهِ بِانْفِجَارِهِ .
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ مُصَالَحَةِ الْكُفَّارِ إِذَا كَانَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّ مُدَّتَهَا لَا تَزِيدُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَظْهِرًا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَفِي قَوْلٍ يَجُوزُ دُونَ سَنَةٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَدَّ لِذَلِكَ ، بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ قَلَّ أَمْ كَثُرَ بِحَسَبِ رَأْيِ الْإِمَامِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .