فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ الطَّاعُونِ وَالطِّيَرَةِ وَالْكَهَانَةِ وَنَحْوِهَا

باب الطَّاعُونِ وَالطِّيَرَةِ وَالْكَهَانَةِ وَنَحْوِهَا
[ سـ :4226 ... بـ :2218]
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَأَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّاعُونِ فَقَالَ أُسَامَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّاعُونُ رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ مِنْهُ

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّاعُونِ ( إِنَّهُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ ) . وَفِي رِوَايَةٍ : ( إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ أَوِ السَّقَمَ رِجْزٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ ثُمَّ بَقِيَ بَعْدُ بِالْأَرْضِ ، فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ ، وَيَأْتِي الْأُخْرَى ، فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدُمَنَّ عَلَيْهِ ، وَمَنْ وَقَعَ بِأَرْضٍ وَهُوَ بِهَا فَلَا يُخْرِجَنَّهُ الْفِرَارُ مِنْهُ ) . وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّامِ .


[ سـ :4232 ... بـ :2219]
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَهْلُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي الْأَنْصَارِ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَحَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ ابْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا وَقَالَ الْآخَرَانِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ وَزَادَ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ قَالَ وَقَالَ لَهُ أَيْضًا أَرَأَيْتَ أَنَّهُ لَوْ رَعَى الْجَدْبَةَ وَتَرَكَ الْخَصْبَةَ أَكُنْتَ مُعَجِّزَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَسِرْ إِذًا قَالَ فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَقَالَ هَذَا الْمَحِلُّ أَوْ قَالَ هَذَا الْمَنْزِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالَا أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ وَلَمْ يَقُلْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

أَمَّا ( الْوَبَاءُ ) فَمَهْمُوزٌ مَقْصُورٌ وَمَمْدُودٌ ، لُغَتَانِ ، الْقَصْرُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ . وَأَمَّا ( الطَّاعُونُ ) فَهُوَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَسَدِ فَتَكُونُ فِي الْمَرَافِقِ أَوِ الْآبَاطِ أَوِ الْأَيْدِي أَوِ الْأَصَابِعِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ ، وَيَكُونُ مَعَهُ وَرَمٌ وَأَلَمٌ شَدِيدٌ ، وَتَخْرُجُ تِلْكَ الْقُرُوحُ مَعَ لَهِيبٍ ، وَيَسْوَدُّ مَا حَوَالَيْهِ ، أَوْ يَخْضَرُّ ، أَوْ يَحْمَرُّ حُمْرَةً بَنَفْسَجِيَّةً كَدِرَةً ، وَيَحْصُلُ مَعَهُ خَفَقَانُ الْقَلْبِ وَالْقَيْءُ .

وَأَمَّا ( الْوَبَاءُ ) فَقَالَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ : هُوَ مَرَضُ الطَّاعُونِ ، وَقَالَ : هُوَ كُلُّ مَرَضٍ عَامٍّ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مَرَضُ الْكَثِيرِينَ مِنَ النَّاسِ فِي جِهَةٍ مِنَ الْأَرْضِ دُونَ سَائِرِ الْجِهَاتِ ، وَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمُعْتَادِ مِنْ أَمْرَاضٍ فِي الْكَثْرَةِ وَغَيْرِهَا ، وَيَكُونُ مَرَضُهُمْ نَوْعًا وَاحِدًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ ، فَإِنَّ أَمْرَاضَهُمْ فِيهَا مُخْتَلِفَةٌ .

قَالُوا : وَكُلُّ طَاعُونٍ وَبَاءٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ وَبَاءٍ طَاعُونًا . وَالْوَبَاءُ الَّذِي وَقَعَ فِي الشَّامِ فِي زَمَنِ عُمَرَ كَانَ طَاعُونًا ، وَهُوَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالشَّامِ ، وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ فِي ذِكْرِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الرُّوَاةِ عِنْدَ ذِكْرِهِ طَاعُونَ الْجَارِفِ بَيَانُ الطَّوَاعِينِ ، وَأَزْمَانِهَا ، وَعَدَدِهَا ، وَأَمَاكِنِهَا ، وَنَفَائِسَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا .

وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ عَذَابًا لَهُمْ . هَذَا الْوَصْفُ وَبِكَوْنِهِ عَذَابًا مُخْتَصٌّ بِمَنْ كَانَ قَبْلنَا ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَهُوَ لَهَا رَحْمَةٌ وَشَهَادَةٌ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ ) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ : ( أَنَّ الطَّاعُونَ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ، فَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : ( الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ) . وَإِنَّمَا يَكُونُ شَهَادَةً لِمَنْ صَبَرَ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ .

وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْعُ الْقُدُومِ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ ، وَمَنْعُ الْخُرُوجِ مِنْهُ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ . أَمَّا الْخُرُوجُ لِعَارِضٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ . قَالَ الْقَاضِي : هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . قَالَ : حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ : الْفِرَارُ مِنْهُ كَالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ .

قَالَ : وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْقُدُومَ عَلَيْهِ وَالْخُرُوجَ مِنْهُ فِرَارًا .

قَالَ : وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَرْغٍ . وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : فِرُّوا عَنْ هَذَا الرِّجْزِ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ ، فَقَالَ مَعَاذٌ : بَلْ هُوَ شَهَادَةٌ وَرَحْمَةٌ .

وَيَتَأَوَّلُ هَؤُلَاءِ النَّهْيَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنِ الدُّخُولِ عَلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ غَيْرُ الْمُقَدَّرِ ، لَكِنْ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَلَى النَّاسِ ، لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ هَلَاكَ الْقَادِمِ إِنَّمَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ ، وَسَلَامَةِ الْفَارِّ إِنَّمَا كَانَتْ بِفِرَارِهِ . قَالُوا : وَهُوَ مِنْ نَحْوِ النَّهْيِ عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْمَجْذُومِ ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : الطَّاعُونُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ وَالْفَارِّ ، أَمَّا الْفَارُّ فَيَقُولُ : فَرَرْتُ فَنَجَوْتُ ، وَأَمَّا الْمُقِيمُ فَيَقُولُ : أَقَمْتُ فَمُتُّ ، وَإِنَّمَا فَرَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ أَجَلُهُ ، وَأَقَامَ مَنْ حَضَرَ أَجَلُهُ .

وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَهُوَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا ) وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الِاحْتِرَازُ مِنَ الْمَكَارِهِ وَأَسْبَابِهَا . وَفِيهِ التَّسْلِيمُ لِقَضَاءِ اللَّهِ عِنْدَ حُلُولِ الْآفَاتِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ بِشُغْلٍ وَغَرَضٍ غَيْرِ الْفِرَارِ ، وَدَلِيلُهُ صَرِيحُ الْأَحَادِيثِ .

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ : ( لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارٌ مِنْهُ ) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ( فِرَارٌ ) بِالرَّفْعِ ، وَفِي بَعْضِهَا ( فِرَارًا ) بِالنَّصْبِ ، وَكِلَاهُمَا مُشْكِلٌ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ ، وَالْمَعْنَى . قَالَ الْقَاضِي : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مُفْسِدَةٌ لِلْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا الْمَنْعُ مِنَ الْخُرُوجِ لِكُلِّ سَبَبٍ إِلَّا لِلْفِرَارِ ، فَلَا مَنْعَ مِنْهُ ، وَهَذَا ضِدُّ الْمُرَادِ . وَقَالَ جَمَاعَةٌ : إِنَّ لَفْظَةَ ( إِلَّا ) هُنَا غَلَطٌ مِنَ الرَّاوِي ، وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ . قَالَ الْقَاضِي : وَخَرَّجَ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْعَرَبِيَّةِ لِرِوَايَةِ النَّصْبِ وَجْهًا فَقَالَ : هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ . قَالَ : وَلَفْظَةُ ( إِلَّا ) هُنَا لِلْإِيجَابِ لَا لِلِاسْتِثْنَاءِ ، وَتَقْدِيرُهُ لَا تَخْرُجُوا إِذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجُكُمْ إِلَّا فِرَارًا مِنْهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَاعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ كُلَّهَا مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَذَكَرَ فِي الطُّرُقِ الثَّلَاثِ فِي آخِرِ الْبَابِ مَا يُوهِمُ أَوْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ : هَذَا وَهْمٌ إِنَّمَا هُوَ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدٍ عَنْ أُسَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أَهْلُ الْأَجْنَادِ ) أَمَّا ( سَرْغٌ ) فَبِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ ، وَحَكَى الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَيْضًا فَتْحَ الرَّاءِ ، وَالْمَشْهُورُ إِسْكَانُهَا ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ وَتَرْكُهُ ، وَهِيَ قَرْيَةٌ فِي طَرَفِ الشَّامِ مِمَّا يَلِي الْحِجَازَ .

وَقَوْلُهُ : ( أَهْلُ الْأَجْنَادِ ) وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ : ( أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ ) وَالْمُرَادُ بِالْأَجْنَادِ هُنَا مُدُنُ الشَّامِ الْخَمْسُ ، وَهِيَ فِلَسْطِينُ وَالْأُرْدُنُّ وَدِمَشْقُ وَحِمْصٌ وَقِنِّسْرِينُ ، هَكَذَا فَسَّرُوهُ ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِلَسْطِينَ اسْمٌ لِنَاحِيَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَالْأَرْدُنُّ اسْمٌ لِنَاحِيَةِ سِيَّانَ وَطَبَرِيةَ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا ، وَلَا يَضُرُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ .

قَوْلُهُ : ( ادْعُ لِيَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ، فَدَعَا ، ثُمَّ دَعَا الْأَنْصَارَ ، ثُمَّ مَشْيَخَةَ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ ) إِنَّمَا رَتَّبَهُمْ هَكَذَا عَلَى حَسَبِ فَضَائِلِهِمْ . قَالَ الْقَاضِي : الْمُرَادُ بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مَنْ صَلَّى لِلْقِبْلَتَيْنِ ، فَأَمَّا مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَلَا يُعَدُّ فِيهِمْ .

قَالَ : وَأَمَّا مُهَاجِرَةُ الْفَتْحِ ، فَقِيلَ : هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْفَتْحِ ، فَحَصَلَ لَهُمْ فَضْلٌ بِالْهِجْرَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ ، إِذْ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَقِيلَ : هُمْ مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ الَّذِينَ هَاجَرُوا بَعْدَهُ ، فَحَصَلَ لَهُمُ اسْمٌ دُونَ الْفَضِيلَةِ . قَالَ الْقَاضِي : هَذَا أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ مَشْيَخَةُ قُرَيْشٍ . وَكَانَ رُجُوعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرُجْحَانِ طَرَفِ الرُّجُوعِ لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ ، وَأَنَّهُ أَحْوَطُ ، وَلَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ تَقْلِيدٍ لِمُسْلِمَةِ الْفَتْحِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَبَعْضَ الْأَنْصَارِ أَشَارُوا بِالرُّجُوعِ ، وَبَعْضَهُمْ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ ، وَانْضَمَّ إِلَى الْمُشِيرِينَ بِالرُّجُوعِ رَأْيُ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ ، فَكَثُرَ الْقَائِلُونَ بِهِ ، مَعَ مَا لَهُمْ مِنَ السِّنِّ وَالْخِبْرَةِ وَكَثْرَةِ التَّجَارِبِ وَسَدَادِ الرَّأْيِ .

وَحُجَّةُ الطَّائِفَتَيْنِ وَاضِحَةٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْحَدِيثِ ، وَهُمَا مُسْتَمَدَّانِ مِنْ أَصْلَيْنِ فِي الشَّرْعِ : أَحَدُهُمَا التَّوَكُّلُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْقَضَاءِ ، وَالثَّانِي الِاحْتِيَاطُ وَالْحَذَرُ وَمُجَانَبَةُ أَسْبَابِ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ . قَالَ الْقَاضِي : وَقِيلَ : إِنَّمَا رَجَعَ عُمَرُ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَمَا قَالَ مُسْلِمٌ هُنَا فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : إِنَّ عُمَرَ إِنَّمَا انْصَرَفَ بِالنَّاسِ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَرْجِعَ لِرَأْيٍ دُونَ رَأْيٍ حَتَّى يَجِدَ عِلْمًا وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ .

قَوْلُهُ : ( إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا ) فَقَالُوا أَيْ مُسَافِرٌ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي قَصَدْنَاهَا أَوَّلًا ، لَا لِلرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ ، وَمَذْهَبٌ ضَعِيفٌ ، بَلِ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَوْ صَرِيحُهُ ، أَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الرُّجُوعَ أَوَّلًا بِالِاجْتِهَادِ حِينَ رَأَى الْأَكْثَرِينَ عَلَى تَرْكِ الرُّجُوعِ ، مَعَ فَضِيلَةِ الْمُشِيرِينَ بِهِ ، وَمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ ، ثُمَّ بَلَغَهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَشَكَرَهُ عَلَى مُوَافَقَةِ اجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادِ مُعْظَمِ أَصْحَابِهِ نَصَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَأَمَّا قَوْلُ مُسْلِمٍ : ( إِنَّهُ رَجَعَ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ) فَيُحْتَمَلُ أَنَّ سَالِمًا لَمْ يَبْلُغْهُ مَا كَانَ عُمَرُ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ الرُّجُوعِ قَبْلَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَّا بَعْدَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ ) هُوَ بِإِسْكَانِ الصَّادِ فِيهِمَا أَيْ مُسَافِرٌ رَاكِبٌ عَلَى ظَهْرِ الرَّاحِلَةِ ، رَاجِعٌ إِلَى وَطَنِي ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ ، وَتَأَهَّبُوا لَهُ .

قَوْلُهُ : ( فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطْتَ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِيبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِيبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ) ؟

أَمَّا ( الْعُدْوَةُ ) فَبِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ جَانِبُ الْوَادِي ، ( وَالْجَدْبَةُ ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ، وَهِيَ ضِدُّ الْخَصِيبَةِ . وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ : الْجَدْبَةُ هُنَا بِسُكُونِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا . قَالَ : وَالْخِصْبَةُ كَذَلِكَ .

أَمَّا قَوْلُهُ : ( لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ) فَجَوَابُ ( لَوْ ) مَحْذُوفٌ ، وَفِي تَقْدِيرِهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ . أَحَدُهُمَا لَوْ قَالَهُ غَيْرُكَ لَأَدَّبْتُهُ ، لِاعْتِرَاضِهِ عَلَيَّ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ وَافَقَنِي عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ ، وَأَهْلُ الْحِلِّ وَالْعَقْدِ فِيهَا .

وَالثَّانِي لَوْ قَالَهَا غَيْرُكَ لَمْ أَتَعَجَّبْ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا أَتَعَجَّبُ مِنْ قَوْلِكَ أَنْتَ ذَلِكَ مَعَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ عُمَرُ دَلِيلًا وَاضِحًا مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّ الرُّجُوعَ يَرُدُّ الْمَقْدُورَ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْحَزْمِ وَمُجَانَبَةِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ كَمَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالتَّحَصُّنِ مِنْ سِلَاحِ الْعَدُوِّ ، وَتَجَنُّبِ الْمَهَالِكِ ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ وَاقِعٌ فَبِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهُ السَّابِقِ فِي عِلْمِهِ ، وَقَاسَ عُمَرُ عَلَى رَعْيِ الْعُدْوَتَيْنِ لِكَوْنِهِ وَاضِحًا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِمَسْأَلَةِ النِّزَاعِ .

قَوْلُهُ : ( أَكُنْتَ مُعَجِّزَهُ ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ تَنْسُبُهُ إِلَى الْعَجْزِ ، مَقْصُودُ عُمَرَ أَنَّ النَّاسَ رَعِيَّةٌ لِي اسْتَرْعَانِيهَا اللَّهُ تَعَالَى ، فَيَجِبُ عَلِيَّ الِاحْتِيَاطُ لَهَا ، فَإِنْ تَرَكْتُهُ نُسِبْتُ إِلَى الْعَجْزِ وَاسْتَوْجَبْتُ الْعُقُوبَةَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( هَذَا الْمَحَلُّ ، أَوْ قَالَ : هَذَا الْمَنْزِلُ ) هُمَا بِمَعْنًى ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا ، وَالْفَتْحُ أَقْيَسُ ، فَإِنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ ( فَعَلَ ) وَمُضَارِعُهُ ( يَفْعُلُ ) بِضَمِّ ثَالِثِهِ كَانَ مَصْدَرُهُ وَاسْمُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ( مَفْعَلًا ) بِالْفَتْحِ كَقَعَدَ يَقْعُدُ مَقْعَدًا ، وَنَظَائِرُهُ ، إِلَّا أَحْرُفًا شَذَّتْ جَاءَتْ بِالْوَجْهَيْنِ مِنْهَا الْمَحَلُّ .

قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ : ( عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ كَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَقَالَ مَعْمَرٌ وَيُونُسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ . قَالَ : وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ عَلَى اخْتِلَافِهِ . قَالَ : وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَلَمْ يُخَرِّجْهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ .

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا فَوَائِدَ كَثِيرَةً : مِنْهَا خُرُوجُ الْإِمَامِ بِنَفْسِهِ فِي وِلَايَتِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِيُشَاهِدَ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ ، وَيُزِيلَ ظُلْمَ الْمَظْلُومِ ، وَيَكْشِفَ كَرْبَ الْمَكْرُوبِ ، وَيَسُدَّ خَلَّةَ الْمُحْتَاجِ ، وَيَقْمَعَ أَهْلَ الْفَسَادِ ، وَيَخَافَهُ أَهْلُ الْبَطَالَةِ وَالْأَذَى وَالْوُلَاةِ ، وَيَحْذَرُوا تَجَسُّسَهُ عَلَيْهِمْ وَوُصُولَ قَبَائِحِهِمْ إِلَيْهِ ، فَيَنْكُفُوا ، وَيُقِيمَ فِي رَعِيَّتِهِ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ ، وَيُؤَدِّبَ مَنْ رَآهُمْ مُخِلِّينَ بِذَلِكَ ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ .

وَمِنْهَا تَلَقِّي الْأُمَرَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ الْإِمَامَ عِنْدَ قُدُومِهِ ، وَإِعْلَامُهُمْ إِيَّاهُ بِمَا حَدَثَ فِي بِلَادِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ ، وَوَبَاءٍ ، وَرُخْصٍ ، وَغَلَاءٍ ، وَشِدَّةٍ ، وَرَخَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ .

وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ مُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي الْأُمُورِ الْحَادِثَةِ ، وَتَقْدِيمُ أَهْلِ السَّابِقَةِ فِي ذَلِكَ . وَمِنْهَا تَنْزِيلُ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ ، وَتَقْدِيمُ أَهْلِ الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَالِابْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْمَكَارِمِ .

وَمِنْهَا جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا كَمَا يَجُوزُ فِي الْأَحْكَامِ . وَمِنْهَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ .

وَمِنْهَا صِحَّةُ الْقِيَاسِ ، وَجَوَازُ الْعَمَلِ بِهِ .

وَمِنْهَا ابْتِدَاءُ الْعَالِمِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ . وَمِنْهَا اجْتِنَابُ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ . وَمِنْهَا مَنْعُ الْقُدُومِ عَلَى الطَّاعُونِ ، وَمَنْعُ الْفِرَارِ مِنْهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .