فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ مَنْ أَتَى مَجْلِسًا فَوَجَدَ فُرْجَةً فَجَلَسَ فِيهَا وَإِلَّا وَرَاءَهُمْ

[ سـ :4159 ... بـ :2176]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلَاثَةٌ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا حَرْبٌ وَهُوَ ابْنُ شَدَّادٍ ح وَحَدَّثَنِي إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا أَبَانُ قَالَا جَمِيعًا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ إِسْحَقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَهُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ فِي الْمَعْنَى.

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ ، وَالنَّاسُ مَعَهُ ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ ) إِلَى آخِرِهِ . فِيهِ اسْتِحْبَابُ جُلُوسِ الْعَالِمِ لِأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ ظَاهِرٍ لِلنَّاسِ ، وَالْمَسْجِدُ أَفْضَلُ ، فَيُذَاكِرُهُمُ الْعِلْمَ وَالْخَيْرَ . وَفِيهِ جَوَازُ حِلَقِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَاسْتِحْبَابُ دُخُولِهَا ، وَمُجَالَسَةِ أَهْلِهَا ، وَكَرَاهَةُ الِانْصِرَافِ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَاسْتِحْبَابُ الْقُرْبِ مِنْ كَبِيرِ الْحَلْقَةِ لِيَسْمَعَ كَلَامَهُ سَمَاعًا بَيِّنًا ، وَيَتَأَدَّبَ بِأَدَبِهِ . وَأَنَّ قَاصِدَ الْحَلْقَةِ إِنْ رَأَى فُرْجَةً دَخَلَ فِيهَا ، وَإِلَّا جَلَسَ وَرَاءَهُمْ . وَفِيهِ الثَّنَاءُ عَلَى مَنْ فَعَلَ جَمِيلًا فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى الِاثْنَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ قَبِيحًا وَمَذْمُومًا وَبَاحَ بِهِ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَدَخَلَ فِيهَا ) الْفُرْجَةُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ ، وَهِيَ الْخَلَلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا فَرْجٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ جَمْعُ فَرْجٍ . وَأَمَّا الْفُرْجَةُ بِمَعْنَى الرَّاحَةِ مِنَ الْغَمِّ فَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ فِيهَا فَتْحَ الْفَاءِ وَضَمَّهَا وَكَسْرَهَا ، وَقَدْ فَرَجَ لَهُ فِي الْحَلْقَةِ وَالصَّفِّ وَنَحْوِهِمَا بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ يَفْرُجُ بِضَمِّهَا . وَأَمَّا الْحَلْقَةُ فَبِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ فَتْحَهَا ، وَهِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ . قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ ) لَفْظَةُ ( أَوَى ) بِالْقَصْرِ ، وَ ( آوَاهُ ) بِالْمَدِّ هَكَذَا الرِّوَايَةُ ، وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ ، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَازِمًا كَانَ مَقْصُورًا وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ مَمْدُودًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ وَقَالَ تَعَالَى : إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ وَقَالَ فِي الْمُتَعَدِّي : وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ وَقَالَ تَعَالَى : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى . قَالَ الْقَاضِي : وَحَكَى بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا لُغَتَيْنِ : الْقَصْرَ وَالْمَدَّ ، فَيُقَالُ : أَوَيْتُ إِلَى الرَّجُلِ بِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ وَآوَيْتُهُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ ، وَالْمَشْهُورُ الْفَرْقُ كَمَا سَبَقَ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَى أَوَى إِلَى اللَّهِ أَيْ لَجَأَ إِلَيْهِ . قَالَ الْقَاضِي : وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ هُنَا دَخَلَ مَجْلِسَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ دَخَلَ مَجْلِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَجْمَعِ أَوْلِيَائِهِ ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ ، وَمَعْنَى آوَاهُ اللَّهُ أَيْ قَبِلَهُ وَقَرَّبَهُ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ رَحِمَهُ أَوْ آوَاهُ إِلَى جَنَّتِهِ أَيْ كَتَبَهَا لَهُ . قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحَى فَاسْتَحَى اللَّهُ مِنْهُ ) أَيْ تَرَكَ الْمُزَاحَمَةَ وَالتَّخَطِّي حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَاضِرِينَ ، أَوِ اسْتِحْيَاءً مِنْهُمْ أَنْ يُعْرِضَ ذَاهِبًا كَمَا فَعَلَ الثَّالِثُ ، فَاسْتَحَى اللَّهُ مِنْهُ أَيْ رَحِمَهُ وَلَمْ يُعَذِّبْهُ ، بَلْ غَفَرَ ذُنُوبَهُ ، وَقِيلَ : جَازَاهُ بِالثَّوَابِ . قَالُوا : وَلَمْ يُلْحِقْهُ بِدَرَجَةِ صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ فِي الْفَضِيلَةِ الَّذِي آوَاهُ وَبَسَطَ لَهُ اللُّطْفَ وَقَرَّبَهُ . وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْ لَمْ يَرْحَمْهُ ، وَقِيلَ : سَخِطَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ مُعْرِضًا لَا لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ . قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّانِي : ( وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحَى ) هَذَا دَلِيلُ اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْجَمَاعَةِ أَنْ يُقَالَ فِي غَيْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُمُ الْآخَرُ ، فَيُقَالُ : حَضَرَنِي ثَلَاثَةٌ : أَمَّا أَحَدُهُمْ فَقُرَشِيٌّ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَنْصَارِيٌّ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَتَمِيمِيٌّ . وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ الْآخَرُ إِلَّا فِي الْآخَرِ خَاصَّةً ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .