فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ جَوَازِ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إِذَا أَعْيَتْ فِي الطَّرِيقِ

باب جَوَازِ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إِذَا أَعْيَتْ فِي الطَّرِيقِ
[ سـ :4167 ... بـ :2182]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ الْهَمْدَانِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ فَرَسِهِ قَالَتْ فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَكْفِيهِ مَئُونَتَهُ وَأَسُوسُهُ وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ وَأَعْلِفُهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرُزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ قَالَتْ وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ قَالَتْ فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ إِخْ إِخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ قَالَتْ فَاسْتَحْيَيْتُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ فَكَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَتْنِي

قَوْلُهُ ( عَنْ أَسْمَاءَ إِنَّهَا كَانَتْ تَعْلِفُ فَرَسَ زَوْجِهَا الزُّبَيْرِ ، وَتَكْفِيهِ مُؤْنَتَهُ ، وَتَسُوسُهُ ، وَتَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ ، وَتَعْلِفُهُ ، وَتَسْتَقِي الْمَاءَ ، وَتَعْجِنُ ) هَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُرُوءاتِ الَّتِي أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْدُمُ زَوْجَهَا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَكُلُّهُ تَبَرُّعٌ مِنَ الْمَرْأَةِ وَإِحْسَانٌ مِنْهَا إِلَى زَوْجِهَا وَحُسْنُ مُعَاشَرَةٍ وَفِعْلُ مَعْرُوفٍ مَعَهُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، بَلْ لَوِ امْتَنَعَتْ مِنْ جَمِيعِ هَذَا لَمْ تَأْثَمْ ، وَيَلْزَمُهُ هُوَ تَحْصِيلُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهَا ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ إِلْزَامُهَا بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا ، وَإِنَّمَا تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ تَبَرُّعًا ، وَهِيَ عَادَةٌ جَمِيلَةٌ اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا النِّسَاءُ مِنَ الزَّمَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنَ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْئَانِ : تَمْكِينُهَا زَوْجَهَا مِنْ نَفْسِهَا ، وَمُلَازَمَةُ بَيْتِهِ .

قَوْلُهَا : ( وَأَخْرُزُ غَرْبَهُ ) هُوَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ، وَهُوَ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ . قَوْلُهَا : ( وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي ، وَهُوَ عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : يُقَالُ : أَقَطَعَهُ إِذَا أَعْطَاهُ قَطِيعَةً ، وَهِيَ قِطْعَةُ أَرْضٍ ، سُمِّيَتْ قَطِيعَةً لِأَنَّهَا اقْتَطَعَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ .

وَقَوْلُهُ : ( عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ ) أَيْ مِنْ مَسْكَنِهَا بِالْمَدِينَةِ ، وَأَمَّا الْفَرْسَخُ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ ، وَالْمِيلُ سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ ، وَالذِّرَاعُ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ أُصْبُعًا مُعْتَرِضَةٌ مُعْتَدِلَةٌ ، وَالْأُصْبُعُ سِتُّ شَعِيرَاتٍ مُعْتَرِضَاتٍ مُعْتَدِلَاتٍ . وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ إِقْطَاعِ الْإِمَامِ . فَأَمَّا الْأَرْضُ الْمَمْلُوكَةُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ ، ثُمَّ تَارَةً يَقْطَعُ رَقَبَتَهَا ، وَيَمْلِكُهَا الْإِنْسَانُ يَرَى فِيهِ مَصْلَحَةً ، فَيَجُوزُ ، وَيَمْلِكُهَا كَمَا يَمْلِكُ مَا يُعْطِيهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَغَيْرِهَا إِذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً ، وَتَارَةً يَقْطَعُهُ مَنْفَعَتُهَا ، فَيَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مُدَّةَ الْإِقْطَاعِ . وَأَمَّا الْمَوَاتُ فَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ إِحْيَاؤُهُ ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ . هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُمْلَكُ الْمَوَاتَ بِالْإِحْيَاءِ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ .

وَأَمَّا قَوْلُهَا : ( وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ ) فَأَشَارَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَلْتَقِطُهُ مِنَ النَّوَى السَّاقِطِ فِيهَا مِمَّا أَكَلَهُ النَّاسُ وَأَلْقَوْهُ قَالَ : فَفِيهِ جَوَازُ الْتِقَاطِ الْمَطْرُوحَاتِ رَغْبَةً عَنْهَا كَالنَّوَى ، وَالسَّنَابِلِ ، وَخِرَقِ الْمَزَابِلِ ، وَسُقَاطَتِهَا ، وَمَا يَطْرَحُهُ النَّاسُ مِنْ رَدِيءِ الْمَتَاعِ ، وَرَدِيءِ الْخُضَرِ ، وَغَيْرِهَا مِمَّا يُعْرَفُ أَنَّهُمْ تَرَكُوهُ رَغْبَةً عَنْهُ ، فَكُلُّ هَذَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهُ ، وَيَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ ، وَقَدْ لَقَطَهُ الصَّالِحُونَ وَأَهْلُ الْوَرَعِ ، وَرَأَوْهُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ ، وَارْتَضَوْهُ لِأَكْلِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ .

قَوْلُهَا : ( فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَانِي وَقَالَ : إِخْ إِخْ لِيَحْمِلنِي خَلْفَهُ ، فَاسْتَحْيَيْتُ ، وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ ) أَمَّا لَفْظَةُ إِخْ إِخْ فَهِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلْبَعِيرِ لِيَبْرُكَ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ إِذَا كَانَتْ مُطِيقَةً ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي مَوَاضِعِهَا . وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَرَحْمَتُهُمْ وَمُوَاسَاتُهُمْ فِيمَا أَمْكَنَهُ . وَفِيهِ جَوَازُ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحْرَمًا إِذَا وُجِدَتْ فِي طَرِيقٍ قَدْ أَعْيَتْ ، لَا سِيَّمَا مَعَ جَمَاعَةِ رِجَالٍ صَالِحِينَ ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ مِثْلِ هَذَا . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : هَذَا خَاصٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، فَقَدْ أَمَرَنَا بِالْمُبَاعَدَةِ مِنْ أَنْفَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَكَانَتْ عَادَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاعَدَتُهُنَّ لِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ ، قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ خُصُوصِيَّةً لَهُ لِكَوْنِهَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، وَأُخْتَ عَائِشَةَ ، وَامْرَأَةَ الزُّبَيْرِ ، فَكَانَتْ كَإِحْدَى أَهْلِهِ وَنِسَائِهِ ، مَعَ مَا خُصَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمْلَكُ لِإِرْبِهِ . وَأَمَّا إِرْدَافُ الْمَحَارِمِ فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ بِكُلِّ حَالٍ .

قَوْلُهَا : ( أَرْسَلَ إِلَيَّ بِخَادِمٍ ) أَيْ جَارِيَةٍ تَخْدُمُنِي ، يُقَالُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى خَادِمٌ بِلَا هَاءٍ .




[ سـ :4168 ... بـ :2182]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ قَالَتْ كُنْتُ أَخْدُمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ وَكُنْتُ أَسُوسُهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْخِدْمَةِ شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ سِيَاسَةِ الْفَرَسِ كُنْتُ أَحْتَشُّ لَهُ وَأَقُومُ عَلَيْهِ وَأَسُوسُهُ قَالَ ثُمَّ إِنَّهَا أَصَابَتْ خَادِمًا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَأَعْطَاهَا خَادِمًا قَالَتْ كَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَأَلْقَتْ عَنِّي مَئُونَتَهُ فَجَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ فَقِيرٌ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَ فِي ظِلِّ دَارِكِ قَالَتْ إِنِّي إِنْ رَخَّصْتُ لَكَ أَبَى ذَاكَ الزُّبَيْرُ فَتَعَالَ فَاطْلُبْ إِلَيَّ وَالزُّبَيْرُ شَاهِدٌ فَجَاءَ فَقَالَ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ فَقِيرٌ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَ فِي ظِلِّ دَارِكِ فَقَالَتْ مَا لَكَ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا دَارِي فَقَالَ لَهَا الزُّبَيْرُ مَا لَكِ أَنْ تَمْنَعِي رَجُلًا فَقِيرًا يَبِيعُ فَكَانَ يَبِيعُ إِلَى أَنْ كَسَبَ فَبِعْتُهُ الْجَارِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ وَثَمَنُهَا فِي حَجْرِي فَقَالَ هَبِيهَا لِي قَالَتْ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهَا

قَوْلُهَا فِي الْفَقِيرِ الَّذِي اسْتَأْذَنَهَا فِي أَنْ يَبِيعَ فِي ظِلِّ دَارِهَا وَذَكَرْت الْحِيلَةَ فِي اسْتِرْضَاءِ الزُّبَيْرِ . هَذَا فِيهِ حُسْنُ الْمُلَاطَفَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ ، وَمُدَارَاةُ أَخْلَاقِ النَّاسِ فِي تَتْمِيمِ ذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .