فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ مِنْ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمِ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

باب مِنْ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمِ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[ سـ :4493 ... بـ :2369]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ الْمُخْتَارِ ح وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَخْبَرَنَا الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ سَمِعْتُ مُخْتَارَ بْنَ فُلْفُلٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمِثْلِهِ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْمُخْتَارِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ

قَوْلُهُ : ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ )

قَالَ الْعُلَمَاءُ : إِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا تَوَاضُعًا وَاحْتِرَامًا لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخُلَّتِهِ وَأُبُوَّتِهِ ، وَإِلَّا فَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ " وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ الِافْتِخَارَ وَلَا التَّطَاوُلَ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ ، بَلْ قَالَهُ بَيَانًا لِمَا أُمِرَ بِبَيَانِهِ وَتَبْلِيغِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَا فَخْرَ " لِيَنْفِيَ مَا قَدْ يَتَطَرَّقُ إِلَى بَعْضِ الْأَفْهَامِ السَّخِيفَةِ .

وَقِيلَ : يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِبْرَاهِيمُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ . فَإِنْ قِيلَ : التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفٌ ، لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ ، فَلَا يَدْخُلُهُ خَلْفٌ وَلَا نَسْخٌ . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ أَنَّهُ أَرَادَ أَفْضَلَ الْبَرِيَّةِ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِهِ ، وَأَطْلَقَ الْعِبَارَةَ الْمُوهِمَةَ لِلْعُمُومِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّوَاضُعِ ، وَقَدْ جَزَمَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ بِمَعْنَى هَذَا فَقَالَ : الْمُرَادُ أَفْضَلُ بَرِيَّةِ عَصْرِهِ ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنِ التَّأْوِيلِ الثَّانِي بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ مِنَ الْأَخْبَارِ ؛ لِأَنَّ الْفَضَائِلَ يَمْنَحُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ ، فَأَخْبَرَ بِفَضِيلَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ عَلِمَ تَفْضِيلَ نَفْسِهِ ، فَأَخْبَرَ بِهِ . وَيَتَضَمَّنُ هَذَا جَوَازَ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ ، وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْهُ بِالْأَجْوِبَةِ السَّابِقَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْفَضَائِلِ .




[ سـ :4494 ... بـ :2370]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيَّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اخْتُتِنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةٍ بِالْقَدُومِ ) ، رُوَاةُ مُسْلِمٍ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَخْفِيفِ ( الْقَدُومِ ) .

وَوَقَعَ فِي رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ الْخِلَافُ فِي تَشْدِيدِهِ وَتَخْفِيفِهِ . قَالُوا : وَآلَةُ النَّجَّارِ يُقَالُ لَهَا قَدُومٌ بِالتَّخْفِيفِ لَا غَيْرُ . وَأَمَّا ( الْقَدُومُ ) مَكَانٌ بِالشَّامِّ فَفِيهِ التَّخْفِيفُ . فَمَنْ رَوَاهُ بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ الْقَرْيَةَ ، وَمَنْ رَوَاهُ بِالتَّخْفِيفِ تُحْتَمَلُ الْقَرْيَةُ وَالْآلَةُ ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى التَّخْفِيفِ ، وَعَلَى إِرَادَةِ الْآلَةِ . وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ هُنَا : وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً هُوَ الصَّحِيحُ ، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ : وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ مُتَأَوَّلٌ ، أَوْ مَرْدُودٌ . وَسَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الْخِتَانِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي خِصَالِ الْفِطْرَةِ .




[ سـ :4495 ... بـ :151]
وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ وَحَدَّثَنَاه إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَأَبَا عُبَيْدٍ أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَى حَدِيثِ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَى آخِرِهِ ) .




[ سـ :4496 ... بـ :151]
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِلُوطٍ إِنَّهُ أَوَى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ

هَذَا الْحَدِيثُ سَبَقَ شَرْحُهُ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ .




[ سـ :4497 ... بـ :2371]
وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ قَوْلُهُ إِنِّي سَقِيمٌ وَقَوْلُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ فَقَالَ لَهَا إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً فَقَالَ لَهَا ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ فَفَعَلَتْ فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَةِ الْأُولَى فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَفَعَلَتْ فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي فَلَكِ اللَّهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ فَفَعَلَتْ وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي وَأَعْطِهَا هَاجَرَ قَالَ فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام انْصَرَفَ فَقَالَ لَهَا مَهْيَمْ قَالَتْ خَيْرًا كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْفَاجِرِ وَأَخْدَمَ خَادِمًا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ : ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى : قَوْلُهُ إِنِّي سَقِيمٌ ، وَقَوْلُهُ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ : إِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي ، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ ) .

قَالَ الْمَازِرِيُّ : أَمَّا الْكَذِبُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنْهُ ، سَوَاءٌ كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ ، وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ ، وَيُعَدُّ مِنَ الصِّفَاتِ كَالْكَذْبَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَفِي إِمْكَانِ وُقُوعِهِ مِنْهُمْ وَعِصْمَتِهِمْ مِنْهُ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ .

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَذِبَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ ، سَوَاءٌ جَوَّزْنَا الصَّغَائِرَ مِنْهُمْ وَعِصْمَتَهُمْ مِنْهُ ، أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ قَلَّ الْكَذِبُ ، أَمْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَرْتَفِعُ عَنْهُ ، وَتَجْوِيزُهُ يَرْفَعُ الْوُثُوقَ بِأَقْوَالِهِمْ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذَبَاتِ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَيْسَتْ كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَرَّى بِهَا ، فَقَالَ فِي سَارَةَ : أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْوِيلَ اللَّفْظَيْنِ الْآخَرَيْنِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَا تَوْرِيَةَ فِيهِ لَكَانَ جَائِزًا فِي دَفْعِ الظَّالِمِينَ ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ ظَالِمٌ يَطْلُبُ إِنْسَانًا مُخْتَفِيًا لِيَقْتُلَهُ ، أَوْ يَطْلُبُ وَدِيعَةً لِإِنْسَانٍ لِيَأْخُذَهَا غَصْبًا ، وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ ، وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِخْفَاؤُهُ وَإِنْكَارُ الْعِلْمِ بِهِ ، وَهَذَا كَذِبٌ جَائِزٌ ، بَلْ وَاجِبٌ لِكَوْنِهِ فِي دَفْعِ الظَّالِمِ ، فَنَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَذَبَاتِ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُطْلَقِ الْكَذِبِ الْمَذْمُومِ .

قَالَ الْمَازِرِيُّ : وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ، وَأَخْرَجَهَا عَنْ كَوْنِهَا كَذِبًا ، قَالَ : وَلَا مَعْنَى لِلِامْتِنَاعِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظٍ أَطْلَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ : أَمَّا إِطْلَاقُ لَفْظِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فَلَا يُمْتَنَعُ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهَا فَصَحِيحٌ لَا مَانِعَ مِنْهُ .

قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَالْوَاحِدَةُ الَّتِي فِي شَأْنِ سَارَةَ هِيَ أَيْضًا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ دَفْعِ كَافِرٍ ظَالِمٍ عَنْ مُوَاقَعَةِ فَاحِشَةٍ عَظِيمَةٍ ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ ، فَقَالَ : مَا فِيهَا كَذْبَةٌ إِلَّا بِمَا حَلَّ بِهَا عَنِ الْإِسْلَامِ أَيْ يُجَادِلُ وَيُدَافِعُ .

قَالُوا : وَإِنَّمَا خَصَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِ الثَّالِثَةِ تَضَمَّنَتْ نَفْعًا لَهُ ، وَحَظًّا مَعَ كَوْنِهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى . وَذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ : إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ سَأَسْقُمُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عُرْضَةٌ لِلْأَسْقَامِ ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الِاعْتِذَارَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ إِلَى عِيدِهِمْ ، وَشُهُودِ بَاطِلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ . وَقِيلَ : سَقِيمٌ بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ . وَقِيلَ : كَانَتْ تَأْخُذُهُ الْحُمَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) فَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَطَائِفَةٌ : جَعَلَ النُّطْقَ شَرْطًا لِفِعْلِ كَبِيرِهِمْ ، أَيْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ .

وَقَالَ الْكَسَائِيُّ : يُوقَفُ عِنْدَ قَوْلِهِ : بَلْ فَعَلَهُ أَيْ فَعَلَهُ فَاعِلُهُ ، فَأَضْمَرَ ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ : كَبِيرُهُمْ هَذَا ، فَاسْأَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفَاعِلِ . وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَجَوَابُهَا مَا سَبَقَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( فَلَكَ اللَّهُ ) أَيْ شَاهِدًا وَضَامِنًا أَنْ لَا أَضُرَّكَ .

قَوْلُهُ : ( مَهْيَمَ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ بَيْنَهُمَا أَيْ : مَا شَأْنُكَ ، وَمَا خَبَرُكَ ؟ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ ( مَهِيمًا ) بِالْأَلْفِ ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ .

قَوْلُهَا : ( وَأَخْدَمَ خَادِمًا ) أَيْ وَهَبَنِي خَادِمًا ، وَهِيَ هَاجَرَ ، وَيُقَالُ : آجَرَ بِمَدِّ الْأَلْفِ . وَالْخَادِمُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى .

قَوْلُهُ : ( قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ ) قَالَ كَثِيرُونَ : الْمُرَادُ بِبَنِي مَاءِ السَّمَاءِ الْعَرَبُ كُلُّهُمْ ، لِخُلُوصِ نَسَبِهِمْ ، وَصَفَائِهِ .

وَقِيلَ : لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ أَصْحَابُ مَوَاشِي ، وَعَيْشَهُمْ مِنَ الْمَرْعَى وَالْخِصْبِ ، وَمَا يَنْبُتُ بِمَاءِ السَّمَاءِ . وَقَالَ الْقَاضِي : الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَنْصَارُ خَاصَّةً ، وَنِسْبَتُهُمْ إِلَى جَدِّهِمْ عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَدَدِ وَكَانَ يُعْرَفُ بِمَاءِ السَّمَاءِ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ بِذَلِكَ ، وَالْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْمَذْكُورِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .