فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ

باب تَحْرِيمِ الظُّلْمِ
[ سـ :4802 ... بـ :2577]
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ الدَّارِمِيُّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيَّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ قَالَ سَعِيدٌ كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ حَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرَ أَنَّ مَرْوَانَ أَتَمُّهُمَا حَدِيثًا قَالَ أَبُو إِسْحَقَ حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا بِشْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ فَذَكَرُوا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنِّي حَرَّمْتُ عَلَى نَفْسِي الظُّلْمَ وَعَلَى عِبَادِي فَلَا تَظَالَمُوا وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ وَحَدِيثُ أَبِي إِدْرِيسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَتَمُّ مِنْ هَذَا

قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي } قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَاهُ تَقَدَّسْتُ عَنْهُ وَتَعَالَيْتُ ، وَالظُّلْمُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . كَيْفَ يُجَاوِزُ سُبْحَانَهُ حَدًّا وَلَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يُطِيعُهُ ؟ وَكَيْفَ يَتَصَرَّفُ فِي غَيْرِ مُلْكٍ ، وَالْعَالَمُ كُلُّهُ فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ ؟ وَأَصْلُ التَّحْرِيمِ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ ، فَسَمَّى تَقَدُّسَهُ عَنِ الظُّلْمِ تَحْرِيمًا لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمَمْنُوعِ فِي أَصْلِ عَدَمِ الشَّيْءِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَجَعَلْتُهُ بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا ) هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ لَا تَتَظَالَمُوا ، وَالْمُرَادُ لَا يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( يَا عِبَادِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا ) وَزِيَادَةُ تَغْلِيظٍ فِي تَحْرِيمِهِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : ( كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ ) قَالَ الْمَازِرِيُّ : ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ خُلِقُوا عَلَى الضَّلَالِ إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ قَالَ : فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ وَصْفَهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تُرِكُوا وَمَا فِي طِبَاعِهِمْ مِنْ إِيثَارِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّاحَةِ وَإِهْمَالِ النَّظَرِ لَضَلُّوا . وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ . وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمُهْتَدِيَ هُوَ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ اهْتَدَى ، وَبِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ هِدَايَةَ بَعْضِ عِبَادِهِ وَهُمُ الْمُهْتَدُونَ ، وَلَمْ يُرِدْ هِدَايَةَ الْآخَرِينَ ، وَلَوْ أَرَادَهَا لَاهْتَدَوْا ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمُ الْفَاسِدِ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ هِدَايَةَ الْجَمِيعِ . جَلَّ اللَّهُ أَنْ يُرِيدَ مَا لَا يَقَعُ ، أَوْ يَقَعُ مَا لَا يُرِيدُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : ( مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ) الْمِخْيَطُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ هُوَ الْإِبْرَةُ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : هَذَا تَقْرِيبٌ إِلَى الْأَفْهَامِ ، وَمَعْنَاهُ لَا يُنْقِصُ شَيْئًا أَصْلًا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ أَيْ لَا يَنْقُصُهَا نَفَقَةٌ ; لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ نَقْصٌ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ النَّقْصُ الْمَحْدُودَ الْفَانِيَ ، وَعَطَاءُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ ، وَهُمَا صِفَتَانِ قَدِيمَتَانِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا نَقْصٌ ، فَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمِخْيَطِ فِي الْبَحْرِ ، لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْقِلَّةِ ، وَالْمَقْصُودُ التَّقْرِيبُ إِلَى الْإِفْهَامِ بِمَا شَاهَدُوهُ ; فَإِنَّ الْبَحْرَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَرْئِيَّاتِ عَيَانًا ، وَأَكْبَرِهَا ، وَالْإِبْرَةُ مِنْ أَصْغَرِ الْمَوْجُودَاتِ ، مَعَ أَنَّهَا صَقِيلَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَاءٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ ( تُخْطِئُونَ ) بِضَمِّ التَّاءِ ، وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا وَفَتْحِ الطَّاءِ ، يُقَالُ : خَطِئَ يَخْطَأُ إِذَا فَعَلَ مَا يَأَثَمُ بِهِ فَهُوَ خَاطِئٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ وَيُقَالُ فِي الْإِثْمِ أَيْضًا : أَخْطَأَ ، فَهُمَا صَحِيحَانِ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قَالَ الْقَاضِي : قِيلَ : هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَكُونُ ظُلُمَاتٍ عَلَى صَاحِبِهِ لَا يَهْتَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبِيلًا حَتَّى يَسْعَى نُورُ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ . وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الظُّلُمَاتِ هُنَا الشَّدَائِدُ ، وَبِهِ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى : قُلْ مَنْ يُنْجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَيْ شَدَائِدِهِمَا . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْأَنْكَالِ وَالْعُقُوبَاتِ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ) قَالَ الْقَاضِي : يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْهَلَاكَ هُوَ الْهَلَاكُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ فِي الدُّنْيَا بِأَنَّهُمْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ هَلَاكُ الْآخِرَةِ ، وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . قَالَ جَمَاعَةُ : الشُّحُّ أَشَدُّ الْبُخْلِ ، وَأَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْبُخْلِ . وَقِيلَ : هُوَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ . وَقِيلَ : الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ ، وَالشُّحُّ عَامٌّ . وَقِيلَ : الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ ، وَالشُّحُّ بِالْمَالِ وَالْمَعْرُوفِ وَقِيلَ : الشُّحُّ الْحِرْصُ عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَالْبُخْلُ بِمَا عِنْدَهُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ) أَيْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا ، وَلَطَفَ بِهِ فِيهَا .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةَ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ ) فِي هَذَا فَضْلُ إِعَانَةِ الْمُسْلِمِ ، وَتَفْرِيجِ الْكُرَبِ عَنْهُ ، وَسَتْرِ زَلَّاتِهِ . وَيَدْخُلُ فِي كَشْفِ الْكُرْبَةِ وَتَفْرِيِجِهَا مَنْ أَزَالَهَا بِإِشَارَاتِهِ وَرَأْيِهِ وَدَلَالَتِهِ . وَأَمَّا السَّتْرُ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَادُ بِهِ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ . فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ فَيُسْتَحَبُّ أَلَّا يُسْتَرَ عَلَيْهِ ، بَلْ تُرْفَعَ قَضِيَّتَهُ إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً ; لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطْمِعُهُ فِي الْإِيذَاءِ وَالْفَسَادِ ، وَانْتَهَاكِ الْحُرُمَاتِ ، وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ . هَذَا كُلُّهُ فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ وَانْقَضَتْ ، وَأَمَّا مَعْصِيَةٌ رَآهُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ بَعْدُ مُتَلَبِّسٌ بِهَا ، فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ ، وَمَنْعُهُ مِنْهَا عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إِذَا لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ . وَأَمَّا جُرْحُ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْأُمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ جُرْحُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَلَا يَحِلُّ السَّتْرُ عَلَيْهِمْ إِذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِمْ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ ، بَلْ مِنَ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُسْتَرُ فِيهِ : هَذَا السَّتْرُ مَنْدُوبٌ ، فَلَوْ رَفَعَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَأْثَمْ بِالْإِجْمَاعِ ، لَكِنْ هَذَا خِلَافُ الْأَوْلَى ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا . . إِلَى آخِرِهِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الْمُفْلِسِ ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ ، وَمَنْ قَلَّ مَالُهُ ، فَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ مُفْلِسًا ، وَلَيْسَ هُوَ حَقِيقَةُ الْمُفْلِسِ ; لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَزُولُ ، وَيَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ ، وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ بِيَسَارٍ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْمُفْلِسِ هَذَا الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ الْهَالِكُ الْهَلَاكَ التَّامَّ ، وَالْمَعْدُومُ الْإِعْدَامَ الْمُقَطَّعَ ، فَتُؤْخَذُ حَسَنَاتُهُ لِغُرَمَائِهِ ، فَإِذَا فَرَغَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، فَوُضِعَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَتَمَّتْ خَسَارَتُهُ وَهَلَاكُهُ وَإِفْلَاسُهُ . قَالَ الْمَازِرِيُّ : وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ غَلَطٌ مِنْهُ وَجَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا عُوقِبَ بِفِعْلِهِ وَوِزْرِهِ وَظُلْمِهِ ، فَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ لِغُرَمَائِهِ ، فَدُفِعَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَتْ وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ قُوبِلَتْ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ ، وَعَدْلِهِ فِي عِبَادِهِ ، فَأُخِذَ قَدْرُهَا مِنْ سَيِّئَاتِ خُصُومِهِ ، فَوُضِعَ عَلَيْهِ ، فَعُوقِبَ بِهِ فِي النَّارِ . فَحَقِيقَةُ الْعُقُوبَةِ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ ، وَلَمْ يُعَاقَبْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَظُلْمٍ مِنْهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِحَشْرِ الْبَهَائِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِعَادَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُعَادُ أَهْلُ التَّكْلِيفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ ، وَكَمَا يُعَادُ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ ، وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا وَرَدَ لَفْظُ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحَشْرِ وَالْإِعَادَةِ فِي الْقِيَامَةِ الْمُجَازَاةُ وَالْعِقَابُ وَالثَّوَابُ ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ مِنَ الْقَرْنَاءِ لِلْجَلْحَاءِ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ قِصَاصِ التَّكْلِيفِ ; إِذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا ، بَلْ هُوَ قِصَاصُ مُقَابَلَةٍ . وَالْجَلْحَاءُ بِالْمَدِّ هِيَ الْجَمَّاءُ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِي لِلظَّالِمِ ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ) مَعْنَى ( يُمْلِي ) يُمْهِلُ وَيُؤَخِّرُ ، وَيُطِيلُ لَهُ فِي الْمُدَّةِ ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُلْوَةِ ، وَهِيَ الْمُدَّةُ وَالزَّمَانُ ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا . وَمَعْنَى ( لَمْ يُفْلِتْهُ ) لَمْ يُطْلِقْهُ ، وَلَمْ يَنْفَلِتْ مِنْهُ . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : يُقَالُ : أَفْلَتَهُ أَطْلَقَهُ ، وَانْفَلَتَ تَخَلَصَ مِنْهُ .