فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ

باب فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ وَفِي قَوْلِهِ رَأَيْتُ نُورًا
[ سـ :293 ... بـ :178]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ

وقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( رَأَيْتُ نُورًا ) مَعْنَاهُ : رَأَيْتُ النُّورَ فَحَسْبُ وَلَمْ أَرَ غَيْرَهُ ، قَالَ وَرُوِيَ ( نُورَانِيٌّ أَرَاهُ ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَيْ : خَالِقُ النُّورِ الْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَمْ تَقَعْ إِلَيْنَا وَلَا رَأَيْتُهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُصُولِ وَمَنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ تَكُونَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى نُورًا ؛ إِذِ النُّورُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْسَامِ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجِلُّ عَنْ ذَلِكَ ، هَذَا مَذْهَبُ جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ .

وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالنُّورِ مَعْنَاهُ ذُو نُورِهِمَا وَخَالِقُهُ ، وَقِيلَ : هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَقِيلَ : مُنَوِّرُ قُلُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ ذُو الْبَهْجَةِ وَالضِّيَاءِ وَالْجَمَالِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .




[ سـ :294 ... بـ :178]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا أَبِي ح وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَأَلْتُهُ فَقَالَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كُنْتَ تَسْأَلُهُ قَالَ كُنْتُ أَسْأَلُهُ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ قَدْ سَأَلْتُ فَقَالَ رَأَيْتُ نُورًا

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ، حِجَابُهُ النُّورُ ) وَفِي رِوَايَةٍ : ( النَّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) أَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ فَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَنَامُ وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ النَّوْمُ ; فَإِنَّ النَّوْمَ انْغِمَارٌ وَغَلَبَةٌ عَلَى الْعَقْلِ يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْسَاسُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَزَّ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : قَالَ الْهَرَوِيُّ : قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ الْقِسْطُ الْمِيزَانُ ، وَسُمِّيَ قِسْطًا ; لِأَنَّ الْقِسْطَ : الْعَدْلُ ، وَبِالْمِيزَانِ يَقَعُ الْعَدْلُ ، قَالَ : وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْفِضُ الْمِيزَانَ وَيَرْفَعُهُ بِمَا يُوزَنُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الْمُرْتَفِعَةِ ، وَيُوزَنُ مِنْ أَرْزَاقِهِمُ النَّازِلَةِ ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِمَا يُقَدَّرُ تَنْزِيلُهُ فَشُبِّهَ بِوَزْنِ الْمِيزَانِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْقِسْطِ الرِّزْقُ الَّذِي هُوَ قِسْطُ كُلِّ مَخْلُوقٍ يَخْفِضُهُ فَيُقَتِّرُهُ وَيَرْفَعُهُ فَيُوَسِّعُهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ : ( عَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ وَعَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ ) فَمَعْنَى الْأَوَّلِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ : يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ الَّذِي بَعْدَهُ ; فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ الْحَفَظَةَ يَصْعَدُونَ بِأَعْمَالِ اللَّيْلِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَيَصْعَدُونَ بِأَعْمَالِ النَّهَارِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) فَالسُّبُحَاتُ بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاءِ وَرَفْعِ التَّاءِ فِي آخِرِهِ وَهِيَ جَمْعُ سُبْحَةٍ . قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَالْهَرَوِيُّ وَجَمِيعُ الشَّارِحِينَ لِلْحَدِيثِ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ : مَعْنَى ( سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ) نُورُهُ وَجَلَالُهُ وَبَهَاؤُهُ ، وَأَمَّا الْحِجَابُ فَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ وَالسَّتْرُ ، وَحَقِيقَةُ الْحِجَابِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْأَجْسَامِ الْمَحْدُودَةِ ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِ وَالْحَدِّ ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَانِعُ نُورًا أَوْ نَارًا لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ مِنَ الْإِدْرَاكِ فِي الْعَادَةِ لِشُعَاعِهِمَا ، وَالْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الذَّاتُ ، وَالْمُرَادُ بِمَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ بَصَرَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ ، وَلَفْظَةُ ( مِنْ ) لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ ، وَالتَّقْدِيرُ لَوْ أَزَالَ الْمَانِعَ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَهُوَ الْحِجَابُ الْمُسَمَّى نُورًا أَوْ نَارًا وَتَجَلَّى لِخَلْقِهِ لَأَحْرَقَ جَلَالُ ذَاتِهِ جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى ) ثُمَّ قَالَ : ( وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ : عَنِ الْأَعْمَشِ وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا ) هَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ بَصْرِيٌّ كُوفِيٌّ ، وَاسْمُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، وَهُوَ أَبُو شَيْبَةَ ، وَاسْمُ أَبِي كُرَيْبٍ : مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ : مُحَمَّدُ بْنُ خَارِمٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ، وَالْأَعْمَشُ : سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ ، وَأَبُو مُوسَى : عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ قَيْسٍ ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمْ وَلَكِنْ طَالَ الْعَهْدُ بِهِمْ فَأَرَدْتُ تَجْدِيدَهُ لِمَنْ لَا يَحْفَظْهُمْ . وَأَمَّا أَبُو عُبَيْدَةُ : فَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَاسْمُهُ : عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ لَطِيفَتَانِ مِنْ لَطَائِفِ عِلْمِ الْإِسْنَادِ إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ كَمَا ذَكَرْتُهُ ، وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةً تَابِعِيِّينَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ : الْأَعْمَشُ وَعَمْرٌو وَأَبُو عُبَيْدَةَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ : عَنِ الْأَعْمَشِ وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا ) فَهُوَ مِنَ احْتِيَاطِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَوَرَعِهِ وَإِتْقَانِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَأَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ فِي رِوَايَتِهِ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ ; فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ رِوَايَةِ شَيْخِهِمَا أَبِي مُعَاوِيَةَ بَيَّنَهَا مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَحَصَلَ فِيهِ فَائِدَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ ( حَدَّثَنَا ) لِلِاتِّصَالِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَفِي ( عَنْ ) خِلَافٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْفُصُولِ وَغَيْرِهَا ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنْ طَوَائِفِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا أَيْضًا لِلِاتِّصَالِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَائِلُهَا مُدَلِّسًا فَبَيَّنَ مُسْلِمٌ ذَلِكَ ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى إِحْدَى الْعِبَارَتَيْنِ كَانَ فِيهِ خَلَلٌ فَإِنَّهُ إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى ( عَنْ ) كَانَ مُفَوِّتًا لِقُوَّةِ ( حَدَّثَنَا ) وَرَاوِيًا بِالْمَعْنَى ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى ( حَدَّثَنَا ) كَانَ زَائِدًا فِي رِوَايَةِ أَحَدِهِمَا رَاوِيًا بِالْمَعْنَى ، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُجْتَنَبُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .