فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الرُّؤْيَةِ

باب مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الرُّؤْيَةِ
[ سـ :299 ... بـ :182]
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ السَّعْدَانَ قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ الْمُؤْمِنُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُجَازَى حَتَّى يُنَجَّى حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ تَأْكُلُ النَّارُ مِنْ ابْنِ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ وَقَدْ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا فَيَدْعُو اللَّهَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ اللَّهُ فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ أَيْ رَبِّ قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ لَا تَسْأَلُنِي غَيْرَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ لَهُ فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لَا وَعِزَّتِكَ فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ فَإِذَا ضَحِكَ اللَّهُ مِنْهُ قَالَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللَّهُ لَهُ تَمَنَّهْ فَيَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا حَفِظْتُ إِلَّا قَوْلَهُ ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا ) مَعْنَاهُ : لَا تُضَارُّونَ أَصْلًا كَمَا لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا أَصْلًا .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( حَتَّى إِذَا مَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ) أَمَّا الْبَرُّ فَهُوَ الْمُطِيعُ . وَأَمَّا ( غُبَّرِ ) فَبِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَمَعْنَاهُ بَقَايَاهُمْ جَمْعُ غَابِرٍ .

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا ) أَمَّا السَّرَابُ فَهُوَ الَّذِي يَتَرَاءَى لِلنَّاسِ فِي الْأَرْضِ الْقَفْرِ وَالْقَاعِ الْمُسْتَوِي وَسْطَ النَّهَارِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ لَامِعًا مِثْلَ الْمَاءِ يَحْسَبهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ، فَالْكُفَّارُ يَأْتُونَ جَهَنَّمَ - أَعَاذَنَا اللَّهُ الْكَرِيمُ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ - وَهُمْ عِطَاشٌ فَيَحْسَبُونَهَا مَاءً فَيَتَسَاقَطُونَ فِيهَا .

وَأَمَّا ( يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا ) فَمَعْنَاهُ : لِشِدَّةِ اتِّقَادِهَا وَتَلَاطُمِ أَمْوَاجِ لَهَبِهَا . وَالْحَطْمُ : الْكَسْرُ وَالْإِهْلَاكُ ، وَالْحُطَمَةُ : اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ لِكَوْنِهَا تَحْطِمُ مَا يُلْقَى فِيهَا .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا ) مَعْنَى رَأَوْهُ فِيهَا : عَلِمُوهَا لَهُ وَهِيَ صِفَتُهُ الْمَعْلُومَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِتْيَانِ وَالصُّورَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( قَالُوا : رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ ) مَعْنَى قَوْلِهِمْ : التَّضَرُّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ هَذِهِ الشِّدَّةِ عَنْهُمْ ، وَأَنَّهُمْ لَزِمُوا طَاعَتَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَفَارَقُوا فِي الدُّنْيَا النَّاسَ الَّذِينَ زَاغُوا عَنْ طَاعَتِهِ - سُبْحَانَهُ - مِنْ قَرَابَاتِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانُوا يَحْتَاجُونَ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ إِلَى مُعَاشَرَتِهِمْ لِلِارْتِفَاقِ بِهِمْ ، وَهَذَا كَمَا جَرَى لِلصَّحَابَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ فَإِنَّهُمْ يُقَاطِعُونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ حَاجَتِهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ إِلَى الِارْتِفَاقِ بِهِمْ وَالِاعْتِضَادِ بِمُخَالَطَتِهِمْ ، فَآثَرُوا رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ ، وَهَذَا مَعْنًى ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا شَكَّ فِي حُسْنِهِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْكَلَامَ الْوَاقِعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَادَّعَى أَنَّهُ مُغَيَّرٌ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلِ الصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ ( لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ ) بِإِثْبَاتِ ( أَنْ ) ، وَإِثْبَاتُهَا مَعَ ( كَادَ ) لُغَةٌ كَمَا أَنَّ حَذْفَهَا مَعَ ( عَسَى ) لُغَةٌ ، وَيَنْقَلِبُ بِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتُ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ قَافٍ ثُمَّ لَامٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ . وَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ : يَنْقَلِبُ عَنِ الصَّوَابِ ، وَيَرْجِعُ عَنْهُ لِلِامْتِحَانِ الشَّدِيدِ الَّذِي جَرَى . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) ضَبْطُ ( يُكْشَفُ ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَهُمَا صَحِيحَانِ . وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ السَّاقَ هُنَا بِالشِّدَّةِ أَيْ يُكْشَفُ عَنْ شِدَّةٍ وَأَمْرٍ مَهُولٍ ، وَهَذَا مَثَلٌ تَضْرِبُهُ الْعَرَبُ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ : قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ شَدِيدٍ شَمَّرَ سَاعِدَهُ وَكَشَفَ عَنْ سَاقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالسَّاقِ هُنَا نُورٌ عَظِيمٌ ، وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ فُورَكَ : وَمَعْنَى ذَلِكَ مَا يَتَجَدَّدُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَلْطَافِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَقِيلَ : قَدْ يَكُونُ السَّاقُ عَلَامَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ظُهُورِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى خِلْقَةٍ عَظِيمَةٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ : سَاقٌ مِنَ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ : رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ ، وَقِيلَ : قَدْ يَكُونُ سَاقٌ مَخْلُوقًا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَامَةً لِلْمُؤْمِنِينَ خَارِجَةً عَنِ السُّوقِ الْمُعْتَادَةِ ، وَقِيلَ : كَشْفُ الْخَوْفِ وَإِزَالَةُ الرُّعْبِ عَنْهُمْ وَمَا كَانَ غَلَبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْأَهْوَالِ ، فَتَطْمَئِنُّ حِينَئِذٍ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا . قَالَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الَّتِي فِي هَذَا الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ لِكَرَامَةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا هَذِهِ لِلِامْتِحَانِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهَ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً هَذَا السُّجُودُ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ ; فَإِنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ بِالسُّجُودِ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ امْتِحَانُهُمْ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( طَبَقَةً ) فَبِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْبَاءِ . قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ : الطَّبَقُ فَقَارُ الظَّهْرِ أَيْ صَارَ فَقَارَةً وَاحِدَةً كَالصَّحِيفَةِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ حَكَاهُ ابْنُ فُورَكَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بَاطِلٌ ; بَلْ لَا يَرَاهُ الْمُنَافِقُونَ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِرُؤْيَتِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ يَرَوْنَ الصُّورَةَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَرَاهُ جَمِيعُهُمْ ، وَقَدْ قَامَتْ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَرَاهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ ( صُورَتِهِ ) بِالْهَاءِ فِي آخِرهَا ، وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهَا ( فِي صُورَةٍ ) بِغَيْرِ هَاءٍ ، وَكَذَا هُوَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيِّ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَافِظِ عَبْدِ الْحَقِّ ، وَمَعْنَاهُ : وَقَدْ أَزَالَ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَتَجَلَّى لَهُمْ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ ) الْجِسْرُ : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ ، وَهُوَ الصِّرَاطُ . وَمَعْنَى تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَقِيلَ بِضَمِّهَا أَيْ : تَقَعُ وَيُؤْذَنُ فِيهَا .

قَوْلُهُ : ( قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ ؟ قَالَ : دَحْضٌ مَزَلَّةٌ ) هُوَ بِتَنْوِينِ دَحْضٍ وَدَالُهُ مَفْتُوحَةٌ وَالْحَاءُ سَاكِنَةٌ . وَ ( مَزَلَّةٌ ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفِي الزَّايِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ ، وَالدَّحْضُ وَالْمَزَلَّةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ وَلَا تَسْتَقِرُّ . وَمِنْهُ دَحَضَتِ الشَّمْسُ أَيْ : مَالَتْ ، وَحُجَّةٌ دَاحِضَةٌ لَا ثَبَاتَ لَهَا .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكٌ ) أَمَّا الْخَطَاطِيفُ : فَجَمْعُ خُطَّافٍ بِضَمِّ الْخَاءِ فِي الْمُفْرَدِ . وَالْكَلَالِيبُ بِمَعْنَاهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا ، وَأَمَّا الْحَسَكُ فَبِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ، وَهُوَ شَوْكٌ صُلْبٌ مِنْ حَدِيدٍ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ، قِسْمٌ يَسْلَمُ فَلَا يَنَالُهُ شَيْءٌ أَصْلًا ، وَقِسْمٌ يُخْدَشُ ثُمَّ يُرْسَلُ فَيُخَلَّصُ ، وَقِسْمٌ يُكَرْدَسُ . وَيُلْقَى فَيَسْقُطُ فِي جَهَنَّمَ . وَأَمَّا مَكْدُوسٌ فَهُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ قَالَ : وَرَوَاهُ الْعُذْرِيُّ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ السَّوْقُ ، وَبِالْمُهْمَلَةِ كَوْنُ الْأَشْيَاءِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَمِنْهُ تَكَدَّسَتِ الدَّوَابُّ فِي سَيْرِهَا إِذَا رَكِبَ بَعْضُهَا بَعْضًا .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ ) اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ ضُبِطَتْ عَلَى أَوْجُهٍ ، أَحَدُهَا : ( اسْتِيضَاءِ ) بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتُ ثُمَّ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ ، وَالثَّانِي : ( اسْتِضَاءِ ) بِحَذْفِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ ، وَالثَّالِثُ : ( اسْتِيفَاءِ ) بِإِثْبَاتِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَبِالْفَاءِ بَدَلَ الضَّادِ ، وَالرَّابِعُ : ( اسْتِقْصَاءِ ) بِمُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ ثُمَّ قَافٍ ثُمَّ صَادٍ مُهْمَلَةٍ . فَالْأَوَّلُ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ بِبِلَادِنَا ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَوْجُودُ فِي أَكْثَرِهَا ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيِّ ، وَالثَّالِثُ فِي بَعْضِهَا ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِعَبْدِ الْحَقِّ الْحَافِظِ ، وَالرَّابِعُ فِي بَعْضِهَا ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي عِيَاضٌ غَيْرَهُ ، وَادَّعَى اتِّفَاقَ الرُّوَاةِ وَجَمِيعِ النُّسَخِ عَلَيْهِ ، وَادَّعَى أَنَّهُ تَصْحِيفٌ وَوَهَمٌ وَفِيهِ تَغْيِيرٌ ، وَأَنَّ صَوَابَهُ مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ كَثِيرٍ ( بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةٍ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ ) ، وَبِهِ يَتِمُّ الْكَلَامُ وَيَتَوَجَّهُ . هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ ; بَلْ جَمِيعُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا صَحِيحَةٌ لِكُلٍّ مِنْهَا مَعْنًى حَسَنٌ . وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ ( فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ إِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ ) ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّيْثُ تُوَضِّحُ الْمَعْنَى فَمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ : أَنَّكُمْ إِذَا عَرَضَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا أَمْرٌ مُهِمٌّ وَالْتَبَسَ الْحَالُ فِيهِ وَسَأَلْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى بَيَانَهُ وَنَاشَدْتُمُوهُ فِي اسْتِيضَائِهِ وَبَالَغْتُمْ فِيهَا لَا تَكُونُ مُنَاشَدَةُ أَحَدِكُمْ مُنَاشَدَةً بِأَشَدَّ مِنْ مُنَاشَدَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الشَّفَاعَةِ لِإِخْوَانِهِمْ ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ فَمَعْنَاهُمَا أَيْضًا : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُنَاشِدُ اللَّهَ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ أَوِ اسْتِقْصَائِهِ وَتَحْصِيلِهِ مِنْ خَصْمِهِ وَالْمُتَعَدِّي عَلَيْهِ بِأَشَدَّ مِنْ مُنَاشَدَةِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ تَعَالَى فِي الشَّفَاعَةِ لِإِخْوَانِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : ( مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ وَنِصْفَ مِثْقَالٍ مِنْ خَيْرٍ وَمِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : قِيلَ : مَعْنَى الْخَيْرِ هُنَا الْيَقِينُ ، قَالَ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا التَّجَزُّؤُ لِشَيْءٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ ذِكْرٍ خَفِيٍّ أَوْ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ مِنْ شَفَقَةٍ عَلَى مِسْكَيْنٍ أَوْ خَوْفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الْكِتَابِ : ( يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ كَذَا ، وَمِثْلُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ ) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ( لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) . قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ مَعَهُمْ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْذَنْ فِي الشَّفَاعَةِ فِيهِمْ ، وَإِنَّمَا دَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لِمَنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ ، وَجَعَلَ لِلشَّافِعِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ دَلِيلًا عَلَيْهِ ، وَتَفَرَّدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِ مَا تُكِنُّهُ الْقُلُوبُ وَالرَّحْمَةُ لِمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ ، وَضَرَبَ بِمِثْقَالِ الذَّرَّةِ الْمَثَلَ لِأَقَلِّ الْخَيْرِ فَإِنَّهَا أَقَلُّ الْمَقَادِيرِ . قَالَ الْقَاضِي : وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ وَكَذَا ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا حَضَرَ لَهُ الْقَلْبُ وَصَحِبَتْهُ نِيَّةٌ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ . هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا ) هَكَذَا هُوَ ( خَيْرًا ) بِإِسْكَانِ الْيَاءِ أَيْ : صَاحِبَ خَيْرٍ .

قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : ( شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ ) هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا - لِأَنِّي رَأَيْتُ مَنْ يُصَحِّفُهُ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ يُقَالُ : شَفَعَ يَشْفَعُ شَفَاعَةً ، فَهُوَ شَافِعٌ وَشَفِيعٌ ، وَالْمُشَفِّعُ بِكَسْرِ الْفَاءِ الَّذِي يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ ، وَالْمُشَفَّعُ بِفَتْحِهَا الَّذِي تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ ) مَعْنَاهُ يَجْمَعُ جَمَاعَةً .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا ) مَعْنَى عَادُوا : صَارُوا وَلَيْسَ بِلَازِمٍ فِي عَادَ أَنْ يَصِيرَ إِلَى حَالَةٍ كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ مَعْنَاهُ : صَارَ .

وَأَمَّا ( الْحُمَمُ ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى الْمُخَفَّفَةِ وَهُوَ الْفَحْمُ ، الْوَاحِدَةُ حُمَمَةٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ ) أَمَّا ( النَّهَرُ ) فَفِيهِ لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فَتْحُ الْهَاءِ وَإِسْكَانُهَا وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ ، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ .

وَأَمَّا ( الْأَفْوَاهُ ) فَجَمْعُ فُوَّهَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ وَهُوَ جَمْعٌ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ ، وَأَفْوَاهُ الْأَزِقَّةِ وَالْأَنْهَارِ أَوَائِلُهَا . قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ كَأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ مُفْتَتَحٌ مِنْ مَسَالِكِ قُصُورِ الْجَنَّةِ وَمَنَازِلِهَا .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ ) أَمَّا ( يَكُونُ ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَتَامَّةٌ لَيْسَ لَهَا خَبَرٌ مَعْنَاهَا مَا يَقَعُ ، وَأُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ مَرْفُوعَانِ ، وَأَمَّا يَكُونُ أَبْيَضُ ( فَيَكُونُ ) فِيهِ نَاقِصَةٌ وَأَبْيَضُ مَنْصُوبٌ وَهُوَ خَبَرُهَا .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ ) أَمَّا اللُّؤْلُؤُ فَمَعْرُوفٌ وَفِيهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ فِي السَّبْعِ بِهَمْزَتَيْنِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ، وَبِحَذْفِهِمَا وَبِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ فِي أَوَّلِهِ دُونَ آخِرِهِ وَعَكْسِهِ . وَأَمَّا ( الْخَوَاتِمُ ) فَجَمْعُ خَاتَمٍ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا ، وَيُقَالُ أَيْضًا : خَيْتَامٌ وَخَاتَامٌ . قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ : الْمُرَادُ بِالْخَوَاتِمِ هُنَا أَشْيَاءُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُعَلَّقُ فِي أَعْنَاقِهِمْ عَلَامَةً يُعْرَفُونَ بِهَا ، قَالَ : مَعْنَاهُ تَشْبِيهُ صَفَائِهِمْ وَتَلَأْلُئِهِمْ بِاللُّؤْلُؤِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ ) أَيْ يَقُولُونَ : هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ .

قَوْلُهُ : ( قَرَأْتُ عَلَى عِيسَى بْنِ حَمَّادٍ زُغْبَةَ ) هُوَ بِضَمِّ الزَّايِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ لَقَبٌ لِحَمَّادٍ وَالِدِ عِيسَى ، ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ الْجَيَّانِيُّ .

قَوْلُهُ : ( وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا قَدَمٍ قَدَّمُوهُ ) هَذَا مِمَّا قَدْ يُسْأَلُ عَنْهُ فَيُقَالُ : لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى ذِكْرُهُ ( الْقَدَمَ ) وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ ( وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ ) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ : زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ : ( وَلَا قَدَمٍ ) إِذْ لَمْ يَجْرِ لِلْقَدَمِ ذِكْرٌ ، وَجَوَابُهُ : أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا الزِّيَادَةُ وَقَعَ فِيهَا : ( وَلَا قَدَمٍ ) بَدَلَ قَوْلِهِ فِي الْأُولَى ( خَيْرٍ ) وَوَقَعَ فِيهَا الزِّيَادَةُ فَأَرَادَ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيَانَ الزِّيَادَةِ ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ : وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ ; إِذْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقَالَ : زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَلَا قَدَمٍ قَدَّمُوهُ أَيْ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا قَدَمٍ قَدَّمُوهُ . وَاعْلَمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّ هَذَا لَفْظُهُ فِي رِوَايَتِهِ وَأَنَّ زِيَادَتَهُ بَعْدَ هَذَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَالْقَدَمُ هُنَا بِفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّالِ وَمَعْنَاهُ الْخَيْرُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ اللَّيْثِ فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ وَمَا بَعْدَهُ فَأَقَرَّ بِهِ عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ ) أَمَّا قَوْلُهُ : ( وَمَا بَعْدَهُ ) فَمَعْطُوفٌ عَلَى فَيَقُولُونَ رَبَّنَا ، أَيْ : لَيْسَ فِيهِ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا وَلَا مَا بَعْدَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ ( فَأَقَرَّ بِهِ عِيسَى ) فَمَعْنَاهُ أَقَرَّ بِقَوْلٍ لَهُ أَوَّلًا أَخْبَرَكُمُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى آخِرِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بِإِسْنَادِهِمَا نَحْوَ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ ) فَقَوْلُهُ ( بِإِسْنَادِهِمَا ) يَعْنِي بِإِسْنَادِ مَيْسَرَةَ وَإِسْنَادِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ الرَّاوِيَيْنِ فِي الطَّرِيقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، وَمُرَادُ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ رَوَاهُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَرَوَاهُ عَنْ زَيْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ، فَأَمَّا رِوَايَتَا حَفْصٍ وَسَعِيدٍ فَتَقَدَّمَتَا مُبَيَّنَتَيْنِ فِي الْكِتَابِ ، وَأَمَّا رِوَايَةُ هِشَامٍ فَهِيَ مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادِ بِإِسْنَادِهِمَا وَمِنْ حَيْثُ الْمَتْنِ نَحْوَ حَدِيثِ حَفْصٍ . وَاللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .




[ سـ :301 ... بـ :183]
وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ قَالَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ قَالُوا عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ فَيَقُولُونَ عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا قَالَ فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ فَمَا تَنْتَظِرُونَ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ قَالَ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ فَيَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ أَلَا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ قَالَ فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمْ الْخَوَاتِمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ ثُمَّ يَقُولُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُ رِضَايَ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا قَالَ مُسْلِم قَرَأْتُ عَلَى عِيسَى بْنِ حَمَّادٍ زُغْبَةَ الْمِصْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الشَّفَاعَةِ وَقُلْتُ لَهُ أُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَ مِنَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ نَعَمْ قُلْتُ لِعِيسَى بْنِ حَمَّادٍ أَخْبَرَكُمُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَرَى رَبَّنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ إِذَا كَانَ يَوْمٌ صَحْوٌ قُلْنَا لَا وَسُقْتُ الْحَدِيثَ حَتَّى انْقَضَى آخِرُهُ وَهُوَ نَحْوُ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا قَدَمٍ قَدَّمُوهُ فَيُقَالُ لَهُمْ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ اللَّيْثِ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ وَمَا بَعْدَهُ فَأَقَرَّ بِهِ عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بِإِسْنَادِهِمَا نَحْوَ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ إِلَى آخِرِهِ وَقَدْ زَادَ وَنَقَصَ شَيْئًا

( بَابُ إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ وَإِخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ )

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ عَقْلًا وَوُجُوبُهَا سَمْعًا بِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا وَقَوْلِهِ : وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَأَمْثَالِهِمَا ، وَبِخَبَرِ الصَّادِقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ الَّتِي بَلَغَتْ بِمَجْمُوعِهَا التَّوَاتُرَ بِصِحَّةِ الشَّفَاعَةِ فِي الْآخِرَةِ لِمُذْنِبِي الْمُؤْمِنِينَ .

وَأَجْمَعَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهَا ، وَمَنَعَتِ الْخَوَارِجُ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهَا ، وَتَعَلَّقُوا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي تَخْلِيدِ الْمُذْنِبِينَ فِي النَّارِ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْكُفَّارِ .

وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ بِكَوْنِهَا فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فَبَاطِلٌ ، وَأَلْفَاظُ الْأَحَادِيثِ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ صَرِيحَةٌ فِي بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ وَإِخْرَاجِ مَنِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ ، لَكِنَّ الشَّفَاعَةَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ :

أَوَّلُهَا : مُخْتَصَّةٌ بِنَبِيِّنَا وَهِيَ الْإِرَاحَةُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَتَعْجِيلُ الْحِسَابِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا .

الثَّانِيَةُ : فِي إِدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهَذِهِ وَرَدَتْ أَيْضًا لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .

الثَّالِثَةُ : الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ فَيَشْفَعُ فِيهِمْ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَسَنُنَبِّهُ عَلَى مَوْضِعِهَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الرَّابِعَةُ : فِيمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَلَائِكَةِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ يُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَا يَبْقَى فِيهَا إِلَّا الْكَافِرُونَ .

الْخَامِسَةُ : فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا ، وَهَذِهِ لَا يُنْكِرُهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا يُنْكِرُونَ أَيْضًا شَفَاعَةَ الْحَشْرِ الْأَوَّلِ .

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَقَدْ عُرِفَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ سُؤَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَغْبَتَهُمْ فِيهَا ، وَعَلَى هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْإِنْسَانُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُ شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، لِكَوْنِهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُذْنِبِينَ فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَمَا قَدَّمْنَا لِتَخْفِيفِ الْحِسَابِ ، وَزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ ثُمَّ كُلُّ عَاقِلٍ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ ، مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَفْوِ ، غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِعَمَلِهِ ، مُشْفِقٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ، وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَلَّا يَدْعُوَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ ; لِأَنَّهَا لِأَصْحَابِ الذُّنُوبِ ، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ مَا عُرِفَ مِنْ دُعَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ .