فهرس الكتاب

إرشاد الساري - كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

كتاب بدء الوحي
قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى آمِينَ.
( قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى) : ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) الباء متعلقة بمحذوف قدّره البصريون اسمًا مقدمًا، والتقدير ابتدائي كائن أو مستقر.
وقدره الكوفيون فعلاً مقدمًا والتقدير أبدًا، فالجار والمجرور في الأول في موضع رفع وفي الثاني نصب.
وجوّز بعضهم تقديره اسمًا مؤخرًا أي بسم الله ابتدائي أي الكلام.
وقدّره الزمخشري فعلاً مؤخرًا أي بسم الله أقرأ أو أتلو لأن الذي يتلوه مقروء وكل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله كان مضمرًا ما جعل التسمية مبدأ له، كما أن المسافر إذا حل أو ارتحل فقال بسم الله كان المعنى بسم الله أحل وبسم الله أرتحل، وهذا أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه، أو ابتدائي لزيادة الإضمار فيه، وإنما قدر المحذوف متأخرًا وقدم المعمول لأنه أهم وأدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم أوفق للوجود.
فإن اسم الله تعالى مقدم على القراءة، كيف وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يعتد به شرعًا ما لم يصدر باسمه تعالى، لحديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر" وأما ظهور فعل القراءة في قوله تعالى: { اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] ، فلأن الأهم ثمة القراءة، ولذا قدّم الفعل فيها على متعلقه بخلاف البسملة، فإن الأهم فيها الابتداء.
قاله البيضاوي وغيره وتعقب بأن تقدير النحاة أبتدىء هو المختار، لأنه يصح في كل موضع، والعامّ تقديره أولى.
ولأن تقدير فعل الابتداء هو الغرض المقصود من البسملة، إذ الغرض منها أن تقع مبتدأة موافقة لحديث "كل أمر ذي بال".
وكذلك في كل فعل ينبغي أن لا يقدّر فيه إلا فعل الابتداء، لأن الحض جاء عليه.
وأيضًا فالبسملة غير مشروعة في غير الابتداء، فلما اختصت بالابتداء وجب أن يقدر لها فعل الابتداء.
وأجيب بأن تقدير الزمخشري أولى وأتم شمولاً لاقتضائه أن التسمية واقعة على القراءة كلها مصاحبة لها، وتقدير أبدأ يقتضي مصاحبتها لأوّل القراءة دون باقيها.
وقوله إن الغرض أن تقع التسمية مبدأ نقول بموجبه، فإن ذلك يقع فعلاً بالبداءة لها لا بإضمار فعل الابتداء، ومن بدأ في الوضوء بغسل وجهه لا يحتاج في كونه بادئًا إلى إضمار بدأت، والحديث الذي ذكره لم يقل فيه كل أمر لا يقال فيه أبدأ وإنما أريد طلب إيقاعها بالفعل لا بإضمار فعلها، وأما دلالة الحديث على طلب البداءة فامتثال ذلك بنفس البداءة لا بلفظها.
واختلف هل الاسم عين المسمى أو غيره، واستدل القائلون بالأوّل بنحو { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم} [الواقعة: 74، 96] و [الحاقة: 52] و { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] فأمر بتسبيح اسم الله تعالى، والمسبح هو الباري، فاقتضى أن اسم الله تعالى هو هو لا غيره.
وأجيب بأنه أشرب سبح معنى اذكر، فكأنه قال اذكر اسم ربك.
وتحقيق ذلك أن الذات هي المسمى والزائد عليها هو الاسم، فإذا قلت عالم فهناك أمران ذات وعلم، فالذات هو المسمى والعلم هو الاسم.
فإذا فهم هذا فالأسماء منها ما هو عين المسمى ومنها ما هو غيره، ومنها ما يقال فيه لا عين ولا غير، فالقسم الأوّل مثل موجود وقديم وذات، فإن الموجود عين الذات وكذا القديم.
والقسم الثاني مثل خالق ورازق وكل صفات الأفعال، فإن الفعل الذي هو الاسم غير الذات، والقسم الثالث مثل عالم وقادر وكل الصفات الذاتية، فإن الذات التي هي المسمى لا يقال في العلم الذي هو الاسم أنه غيرها ولا عينها.
هذا تحقيق ما قاله الأشعري في هذه المسألة وما نقل عنه خلاف هذا فهو خبط، كذا رأيته منسوبًا للعلاّمة البساطي من أئمة المالكية، ويأتي إن شاء الله تعالى في كتاب التوحيد في باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها مزيد لذلك بعون الله تعالى، وليس مراد القائل بأن الاسم عين المسمى أن اللفظ الذي هو الصوت المكيّف بالحروف عين المعنى الذي وضع له اللفظ، إذ لا يقول به عاقل، وإنما مراده أنه قد يطلق اسم الشيء مرادًا به مسماه وهو الكثير الشائع، فإنك إذا قلت الله ربنا ونحو ذلك إنما تعني به الإخبار عن المعنى المدلول عليه باللفظ لا عن نفس اللفظ، وقد قال جماعة إن الاسم الأعظم هو اسم الجلالة الشريفة لأنه الأصل في الأسماء الحسنى لأن سائرها يضاف إليه والرحمن صفة الله تعالى، وعورض بوروده غير تابع لاسم قبله.
قال الله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] { الرَّحْمَنُ ( 1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1، 2] وأجيب بأنه وصف يراد به الثناء، وقيل عطف بيان.
وردّه السهيلي بأن اسم الجلالة الشريفة غير مفتقر لبيان لأنه أعرف المعارف كلها، ولذا قالوا وما الرحمن ولم يقولوا وما الله، والرحيم فعيل حوّل من فاعل للمبالغة، والاسمان مشتقان من الرحمة ومعناهما واحد عند المحققين، إلا أن الرحمن مختص به تعالى فهو خاص اللفظ إذ لا يجوز أن يسمى به أحد غير الله تعالى عام المعنى من حيث إنه يشمل جميع الموجودات، والرحيم عام من حيث الاشتراك في التسمي به خاص من طريق المعنى، لأنه يرجع إلى اللطف والتوفيق.
وقدّم الرحمن لاختصاصه بالباري تعالى كاسم الله وقرن بينهما للمناسبة، ولم يأتِ المصنف رحمه الله تعالى بخطبة تنبىء عن مقاصد كتابه هذا مبتدأة بالحمد والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما فعل غيره اقتداء بالكتاب العزيز، وعملاً بحديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع" المروي في سنن ابن ماجة وغيرها لأنه صدّر كتابه بترجمة بدء الوحي، وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائر مع النية، فكأنه قال قصدت جمع وحي السنة المتلقى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي، وإنما لكل امرىء ما نوى.
فاكتفى بالتلويح عن التصريح.
وأما الحديث فليس على شرطه بل تكلم فيه لأن في سنده قرة بن عبد الرحيم، ولئن سلمنا الاحتجاج به فلا يتعين النطق والكتابة معًا فيحمل على أنه فعل ذلك نطقًا عند تأليفه اكتفاء بكتابة البسملة، وأيضًا فإنه ابتدأ ببسم الله ثم رتب عليه من أسماء الصفات الرحمن الرحيم، ولا يعني بالحمد إلا هذا لأنه الوصف بالجميل على جهة التفضيل، وفي جامع الخطيب مرفوعًا "كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع" وفي رواية أحمد لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع ولا ينافيه حديث بحمد الله لأن معناه الافتتاح بما يدل على المقصود من حمد الله تعالى والثناء عليه، لا أن لفظ الحمد متعين لأن القدر الذي يجمع ذلك هو ذكر الله تعالى، وقد حصل بالبسملة لا سيما وأول شيء نزل من القرآن اقرأ باسم ربك، فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها، ويعضده أن كتبه عليه الصلاة والسلام إلى الملوك مفتتحة بها دون حمدلة وغيرها، وحينئذ فكأن المؤلف أجرى مؤلفه هذا مجرى الرسالة إلى أهل العلم لينتفعوا به.
وتعقب بأن الحديث صحيح صححه ابن حبان وأبو عوانة، وقد تابع سعيد بن عبد العزيز قرة أخرجه النسائي، ولئن سلمنا أن الحديث ليس على شرطه فلا يلزم منه ترك العمل به مع مخالفة سائر المصنفين وافتتاح الكتاب العزيز، وبأن لفظ الذكر غير لفظ الحمد، وليس الآتي بلفظ الذكر آتيًا بلفظ الحمد، والغرض التبرّك باللفظ المفتتح به كلام الله تعالى انتهى.
والأولى الحمل على أن البخاري تلفظ بذلك، إذ ليس في الحديث ما يدل على أنه لا يكون إلا بالكتابة، وثبتت البسملة لأبي ذر والأصيلي.


باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}
( كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) كذا لأبي ذر والأصيلي بإسقاط لفظ ( باب) ولأبي الوقت وابن عساكر والباقي باب كيف الخ، وهو بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا باب كيف، ويجوز فيه التنوين والقطع عما بعده وتركه للإضافة إلى الجملة التالية.
لا يقال إنما يضاف إلى

الجملة أحد أشياء مخصوصة، وهي كما في مغني ابن هشام ثمانية أسماء: الزمان، وحيث، وآية بمعنى علامة، وذو، ولدن، وريث، وقول، وقائل، واستدل للأخيرين بقوله: قول يا للرجال ينهض منا ... مسرعين الكهول والشبانا
وقوله:

وأجبت قائل كيف أنت بصالح ... حتى مللت وملني عوّادي
وليس الباب شيئًا منها، لأن هذا الذي ذكره النحاة كما قاله الشيخ بدر الدين الدماميني في مصابيح الجامع إنما هو في الجملة التي لا يراد بها لفظها، وأما ما أريد به لفظه من الجمل فهو في حكم المفرد، فتضيف إليه ما شئت مما يقبل بلا حصر.
ألا ترى أنك تقول محل قام أبوه من قولك زيد قام أبوه رفع، ومعنى لا إله إلاّ الله إثبات الألوهية لله ونفيها عما سواه إلى غير ذلك، وهنا أريد لفظ الجملة قال، ولا يخفى سقوط قول الزركشي لا يقال، كيف لا يضاف إليها لأنّا نقول الإضافة إلى الجملة، كلا إضافة.
وقال في الشرح: لا ينبغي أن يعدّ هذان البيتان من قبيل ما هو بصدده لأن الجملة التي أضيف إليها كل من قول وقائل مراد بها لفظها، فهي في حكم المفرد وليس الكلام فيه، وتعقبه الشيخ تقيّ الدين الشمني فقال لا نسلم أن الكلام ليس فيه بل الكلام فيما هو أعمّ منه اهـ.

فليتأمل وقد استبان لك أن عدّ ابن هشام في مغنيه قولاً وقائلاً من الألفاظ المخصوصة التي لا تضاف إلى الجملة غير ظاهر.
وكيف في قول البخاري باب كيف كان بإضافة باب خبر لكان إن كانت ناقصة، وحال من فاعلها إن كانت تامة، ولا بدّ قبلها من مضاف محذوف والتقدير باب جواب كيف كان بدء الوحي، وإنما احتيج إلى هذا المضاف لأن المذكور في هذا الباب هو جواب كيف كان بدء الوحي لا السؤال بكيف عن بدء الوحي، ثم إن الجملة من كان ومعمولها في محل جرّ بالإضافة.
ولا تخرج كيف بذلك عن الصدرية لأن المراد من كون الاستفهام له الصدر أن يكون في صدر الجملة التي هو فيها، وكيف على هذا الإعراب كذلك.
والبدء بفتح الموحدة وسكون المهملة آخره همزة من بدأت الشيء بدأ ابتدأت به.
قال القاضي عياض روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء وبدوّ بغير همزة مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور، ولم يعرف الأخيرة الحافظ ابن حجر، نعم قال روي في بعض الروايات كيف كان ابتداء الوحي، فهذا يرجح الأولى وهو الذي سمعناه من أفواه المشايخ، والوحي الإعلام في خفاء.
وفي اصطلاح الشرع إعلام الله تعالى أنبياءه الشيء، إما بكتاب أو برسالة ملك أو منام أو إلهام.
وقد يجيء بمعنى الأمر نحو: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: 111] ، وبمعنى التسخير نحو { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل} [النحل: 68] أي سخرها لهذا الفعل، وهو اتخاذها من الجبال بيوتًا إلى آخره.
وقد يعبر عن ذلك بالإلهام، لكن المراد به هدايتها لذلك، وإلا فالإلهام حقيقة إنما يكون لعاقل، والإشارة نحو { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] وقد يطلق على الموحى كالقرآن والسُّنّة

من إطلاق المصدر على المفعول.
قال تعالى: { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] .
والتصلية جملة خبرية يراد بها الإنشاء كأنه قال اللهمَّ صل.

( وقول الله جل ذكره) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي.
وقول الله عز وجل، ولابن عساكر وقول الله سبحانه، وقول مجرور عطفًا على محل الجملة التي أضيف إليها الباب، أي باب كيف كان ابتداء الوحي.
ومعنى قول الله قيل وإنما لم يقدّروا باب كيف قول الله، لأن قول الله لا يكيف.

وأجيب بأنه يصح على تقدير مضاف محذوف أي كيف نزول قول الله، أو كيف فهم معنى قول الله، أو أن يراد بكلام الله المنزل المتلوّ لا مدلوله، وهو الصفة القائمة بذات الباري تعالى ويجوز رفعه مبتدأ محذوف الخبر، أي وقول الله تعالى كذا مما يتعلق بهذا الباب ونحو هذا من التقدير أو خبره.

( إنّا أوحينا إليك) وحي إرسال فقط ( كما أوحينا) أي كوحينا ( إلى نوح والنبيين من بعده) زاد أبو ذر الآية.
قاله العيني فليتأمل وهذا جواب لأهل الكتاب عن اقتراحهم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، واحتجاج عليهم بأن أمره في الوحي كسائر الأنبياء.
وآثر صيغة التعظيم تعظيمًا للموحي والموحى إليه.
قيل خصّ نوحًا بالذكر لأنه أول مشرع، وعورض بأن أول مشرّع آدم لأنه نبي أرسل إلى بنيه وشرّع لهم شرائع، ثم شيث وكان نبيًّا مرسلاً، وبعده إدريس.
وقيل إنما خصّ بالذكر لأنه أول رسول آذاه قومه، فكانوا يحصبونه بالحجارة حتى يقع على الأرض كما وقع مثله لنبينا عليهما الصلاة والسلام.
وقيل لأنه أول أُولي العزم، وعطف عليه النبيّين من بعده، وخص منهم إبراهيم إلى داود تشريفًا لهم وتعظيمًا لشأنهم، وترك ذكر موسى عليه السلام ليبرزه مع ذكرهم بقوله: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] على نمط أعم من الأوّل، ولما كان هذا الكتاب لجمع وحي السُّنَّة صدره بباب الوحي، لأنه ينبوع الشريعة.
وكان الوحي لبيان الأحكام الشرعية صدره بحديث الأعمال بالنيات لمناسبته للآية السابقة لأنه أوحى إلى الكل الأمر بالنية، كما قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] والإخلاص النية، فقال كما أخبرنا به وبما سبق من أوّله إلى آخر الصحيح الشيخ المسند رحلة الآفاق أبو العباس أحمد بن عبد القادر بن طريف بفتح الطاء المهملة الحنفي المتوفى سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة وقد جاوز التسعين، بقراءتي عليه لجميع هذا الجامع في خمسة مجالس وبعض مجلس متوالية مع ما أُعيد لمفوّتين أظنه نحو العشر آخر يوم الأحد ثامن عشر من شوّال سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة.

قال أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الدمشقي قراءة لجميعه وأنا في الخامسة، والعلاّمة المقري أبو إسحق إبراهيم بن أحمد البعلي بالموحدة المفتوحة والعين المهملة الساكنة التنوخي بفتح الفوقية وضم النون الخفيفة وبالخاء المعجمة، والحافظان زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي ونور الدين عليّ بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي من باب وكلّم الله موسى تكليمًا إلى آخر الصحيح، وإجازة لسائره.
قال الأولان أخبرنا أبو العباس أحمد بن طالب بن أبي النعم بن الشحنة الديرمقرّني المتوفى خامس عشر من صفر سنة ثلاثين وسبعمائة سماعًا، قال الثاني لجميعه وقال الأوّل للثلاثيات

منه.
ومن باب الإكراه إلى آخر الصحيح، إجازة لسائره.
وزاد فقال وأخبرتنا ست الوزراء وزيرة بنت محمد بن عمر بن أسعد بن المنجأ التنوخية، وزاد الثاني فقال وأخبرنا أبو نصر محمد بن محمد الشيرازي الفارسي إجازة عن جدّه أبي نصر عن الحافظ أبي القاسم بن عساكر، قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الساعدي الفراوي بضم الفاء، قال أخبرنا أبو سهل محمد الحفصي عن أبي الهيثم بفتح الهاء وإسكان المثناة التحتية وفتح المثلثة محمد بن مكي بفتح الميم وتشديد الكاف ابن محمد بن زراع بضم الزاي وتخفيف الراء الكشماهني بكاف مضمومة وشين معجمة ساكنة وفتح الهاء وكسرها وقد تمال الألف وقد يقال الكشميهني بالياء بدل الألف قرية بمرو، وقال الرابع أخبرنا المظفر بالظاء المعجمة والفاء العسقلاني، قال أخبرنا أبو عبد الله الصقلي بفتح المهملة وكسر القاف وتشديد اللام، قال وكذا وزيرة وابن أبي النعم أخبرنا أبو عبد الله الصقلي بفتح المهملة وكسر القاف وتشديد اللام، قال وكذا وزيرة وابن أبي النعم أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي بفتح الزاي وكسر الموحدة المتوفى سنة إحدى وثلاثين وستمائة ح.

وأخبرنا الحافظ نجم الدين عمر ابن الحافظ تقي الدين المكي، قال حدّثنا المسند الرحلة نجم الدين عبد الرحمن بن سراج الدين عمر القبابي بكسر القاف والموحدتين المخففتين بينهما ألف المقدسي، أخبرنا العلاّمة شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن قاضي شهبة والإمام عماد الدين أبو عبد الله محمد بن موسى بن سليمان الشيرجي بسماع الأوّل لجميع الصحيح على أم محمد وزيرة وبسماع الثاني من الإمام الحافظ شرف الدين أبي الحسن محمد بن عليّ اليونيني بسماعهما من أبي عبد الله الحسين الزبيدي، قال أخبرنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السجزي بكسر السين المهملة وسكون الجيم وكسر الزاي الهروي الصوفيّ ولد في القعدة سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وتوفي ليلة الأحد سادس القعدة سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال حدّثنا أبو الحسن عبد الرحمن الداودي البوشنجيّ بضم الموحدة وسكون الواو وفتح الشين المعجمة وسكون النون وبالجيم نسبة إلى بلدة بقرب هراة خراسان المتوفى سنة سبع وستين وأربعمائة سماعًا، قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه بفتح المهملة وتشديد الميم المضمومة وإسكان الواو وفتح المثناة التحتية السرخسي بفتح السين المهملة والراء وسكون الخاء المعجمة أو بسكون الراء وفتح المعجمة المتوفى سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وقال الثالث أخبرنا أبو علي أو أبو محمد عبد الرحيم الأنصاري المعروف بابن شاهد الجيش بالجيم والمثناة التحتية والثين المعجمة المتوفى سنة ستين وسبعمائة، قال أخبرنا المعين أبو العباس الدمشقي وأبو الطاهر إسماعيل بن عبد القوي بن عزون بفتح العين المهملة وضم الزاي المشددة وبالواو والنون المصري الشافعي وأبو عمرو عثمان بن رشيق بفتح الراء وكسر المعجمة المالكي سماعًا وإجازة لما فات، قالوا أخبرنا أبو عبد الله محمد الأرتاحي بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح المثناة الفوقية وبالحاء المهملة، قال أخبرنا أبو الحسن علي الموصلي، قال أخبرتنا أم الكرام كريمة بنت أحمد المروزية، قالت أخبرنا الكشميهني ح.


وقال أبو الحسن الدمشقي أخبرنا سليمان بن حمزة بن أبي عمر بضم العين عن محمد بن عبد الهادي المقدسي عن الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني، قال أخبرنا أبي، قال أخبرنا الحسن بن أحمد، قال أخبرنا أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري، قال أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد الكشاني وهو آخر من حدّث عن الفربري بالبخاري ح.

وأخبرنا قاضي القضاة إمام الحرم الشريف المكي أبو المعالي محمد ابن الإمام رضي الدين محمد الطبري المكي المتوفى آخر ليلة الأربعاء ثامن عشر صفر سنة أربع وتسعين وثمانمائة بمكة بسماعي عليه للثلاثيات وإجازة لسائره بمكة المشرفة في يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة الحرام سنة إحدى وتسعين وثمانمائة، قال أخبرنا أبو الحسن علي بن سلامة السلمي سماعًا لبعضه وإجازة لسائره، قال أخبرنا الإمام أبو محمد عبد الله بن أسعد اليافعيّ سماعًا عليه، قال أخبرنا الإمام رضيّ الدين الطبري، قال أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي حرمي بالحاء المهملة والراء المفتوحتين فتوح بن بنين بلفظ جمع ابن الكاتب المكي سماعًا لجميعه خلا فوتًا شملته الإجازة، قال أخبرنا أبو الحسن علي بن حميد بضم الحاء ابن عمار بتشديد الميم الأطرابلسي بفتح الهمزة وإسكان المهملة وبالراء وضم الموحدة واللام وبالسين المهملة، قال أخبرنا به أبو مكتوم بفتح الميم وبالمثناة الفوقية المضمومة عيسى بن أبي ذر بالذال المعجمة وتشديد الراء، قال أخبرنا والدي أبو ذر عبد الله بن محمد الهروي بفتح الهاء والراء المتوفى سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، قال أخبرنا أبو إسحق إبراهيم البلخي بفتح الموحدة وسكون اللام وبالخاء المعجمة المستملي المتوفى سنة ست وسبعين وثلثمائة والكشميهني والسرخسي ح.


وأخبرنا الأئمة الثلاثة الحافظان أبو عمرو فخر الدين بن أبي عبد الله محمد وشمس الدين محمد بن زين الدين أبي محمد المصريان والمحدث الحافظ نجم الدين عمر بن المحدث الكبير تقي الدين محمد الهاشمي المكي المتوفى في رمضان سنة خمس وثمانين وثمانمائة عن ثلاث وسبعين سنة الشافعيون قراءةً وسماعًا عليهم للكثير منه وإجازة لسائره، قالوا أخبرنا شيخ الإسلام إمام الحفاظ أحمد بن أبي الحسن العسقلاني الشافعي، قال أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد المهدوي إذنًا مشافهةً عن يحيى بن محمد الهمداني، قال أخبرنا أبو محمد عبد الله الديباجي بالجيم إذنًا، قال أخبرنا عبد الله بن محمد الباهلي بالموحدة، قال حدّثنا الحافظ أبو علي الجياني بفتح الجيم وتشديد المثناة التحتية وبالنون، قال أخبرنا أبو شاكر عبد الواحد بن موهب عن الحافظ أبي محمد عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر الأصيلي نسبة إلى أصيل من بلاد العدوة سكنها ونشأ بها وتوفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة وحاتم بن محمد الطرابلسي عن الإمام أبي الحسن علي بن محمد القابسي بالقاف والموحدة والمهملة خ.

وبسند أبي الحسن علي بن محمد الدمشقي إلى الحافظ أبي موسى المديني، قال أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الحداد، قال أخبرنا الحافظ أبو نعيم، قال الثلاثة أخبرنا أبو زيد محمد المروزي ح.


وقال القابسي أخبرنا أبو أحمد محمد بن محمد الجرجاني بجيمين ح.

وقال أبو الحسن الدمشقي وأيضًا أخبرنا محمد بن يوسف بن المهتار عن الحافظ أبي عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري، قال أخبرنا منصور بن عبد الدائم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي، قال أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي، قال أخبرنا سعيد بن أحمد بن محمد الصيرفي العيار بالعين المهملة وتشديد المثناة التحتية، قال أخبرنا أبو علي محمد بن عمر بن شبويه ح.

وقال الجياني أخبرنا أبو عمر أحمد بن محمد الحذاء سماعًا وأبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر الحافظ إجازة، قالا أخبرنا أبو محمد الجهني، قال أخبرنا الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن بفتح السين المهملة والكاف، قال هو والمستملي والكشميهني والسرخسي وأبو زيد المروزي والجرجاني والكشاني وابن شبويه أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري بكسر الفاء وفتحها وفتح الراء وإسكان الموحدة نسبة إلى قرية من قرى بخارى المتوفى سنة عشرين وثلثمائة وكان سماعه من البخاري صحيحه هذا مرتين مرة بفربر سنة ثمان وأربعين ومائتين ومرة ببخارى سنة اثنتين وخمسين ومائتين ح.

وقال الجياني أيضًا أخبرنا الحكم بن محمد، قال أخبرنا أبو الفضل بن أبي عمران الهروي سماعًا لبعضه وإجازة لباقيه، قال أخبرنا أبو صالح خلف بن محمد بن إسماعيل، قال أخبرنا إبراهيم بن معقل النسفي المتوفى سنة أربع وتسعين ومائتين وفاته أوراق رواها عن المؤلف إجازة ح.

وأخبرنا الحافظان الفخر والشمس المصريان والحافظ المحدث الكبير النجم المكي عن إمام الصنعة أبي الفضل أحمد بن علي بن أحمد العسقلاني الشافعي، قال أخبرنا أحمد بن أبي بكر بن عبد الحميد في كتابه عن ابن أبي الربيع بن أبي طاهر بن قدامة عن الحسن ابن السيد العلوي عن أبي الفضل بن طاهر الحافظ عن أبي بكر أحمد بن علي بن خلف عن الحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ عن أحمد بن محمد بن رميح النسوي عن حماد بن شاكر قال هو والنسفي وابن مطر الفربري أخبرنا الإمام العلاّمة أستاذ الحفاظ أمير المؤمنين في الحديث وشيخ مشايخ الأئمة في الرواية والتحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه بفتح الموحدة وسكون الراء وكسر الدال المهملتين وسكون الزاي المعجمة وفتح الموحدة بعدها هاء ومعناه الزراع بالفارسية الجعفي بضم الجيم وإسكان العين المهملة وبالفاء البخاري المتوفى وله من العمر اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يومًا في الليلة المسفرة عن يوم السبت مستهل شوّال سنة ست وخمسين ومائتين رحمه الله تعالى قال:

[ قــ :1 ... غــ : 1 ]
- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ

بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
[الحديث 1 - أطرافه في: 54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953]
( حدّثنا الحميدي) بضم المهملة وفتح الميم نسبة إلى جده الأعلى حميد، أو إلى الحميدات قبيلة، أو لحميد بطن من أسد بن عبد العزى وهو من أصحاب إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أخذ عنه ورحل معه إلى مصر، فلما مات الشافعي رجع إلى مكة وهو أفقه قرشي مكي أخذ عنه البخاري، وقيل ولذا قدمه المتوفى سنة تسع عشرة ومائتين وليس هو أبا عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين ولغير أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر حدّثنا الحميدي ( عبد الله بن الزبير) كما في الفرع كأصله، ( قال: حدّثنا سفيان) بن عيينة المكي التابعي الجليل أحد مشايخ الشافعي والمشارك لإمام دار الهجرة مالك في أكثر شيوخه المتوفى سنة ثمان وتسعين ومائة ولأبي ذر عن الحموي عن سفيان، ( قال: حدّثنا يحيى بن سعيد) هو ابن قيس ( الأنصاري) المدني التابعي المشهور قاضي المدينة المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة ولأبي ذر عن يحيى بدل قوله حدّثنا يحيى ( قال أخبرني) بالإفراد وهو لما قرأه بنفسه على الشيخ وحده ( محمد بن إبراهيم) بن الحرث ( التيمي) نسبة إلى تيم قريش المتوفى سنة عشرين ومائة، ( أنه سمع علقمة) أبا واقد بالقاف ( ابن وقاص) بتشديد القاف ( الليثي) بالمثلثة نسبة إلى ليث بن بكروذ، وذكره ابن منده في الصحابة وغيره في التابعين المتوفى بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان، ( يقول سمعت عمر بن الخطاب) بن نفيل بضم النون وفتح الفاء المتوفى سنة ثلاث وعشرين ( رضي الله تعالى عنه) أي سمعت كلامه حال كونه ( على المنبر) النبوي المدني، فأل فيه للعهد وهو بكسر الميم من النبرة، وهي الارتفاع أي سمعته حال كونه ( قال) ولأبي الوقت والأصيلي وابن عساكر يقول ( سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي سمعت كلامه حال كونه ( يقول) فيقول في موضع نصب حالاً من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لأن سمعت لا يتعدى إلى مفعولين، فهي حال مبنية للمحذوف المقدّر بكلام، لأن الذات لا تسمع.
وقال الأخفش: إذا علقت سمعت بغير مسموع كسمعت زيدًا يقول فهي متعدية لمفعولين الثاني منهما جملة، يقول واختاره الفارسي وعورض بأن سمعت لو كان يتعدى إلى مفعولين لكان إما من باب أعطيت أو ظننت، ولا جائز أن يكون من باب أعطيت لأن ثاني مفعوليه لا يكون جملة ولا مخبرًا به عن الأوّل، وسمعت بخلاف ذلك.
ولا جائز أن يكون من باب ظننت لصحة قولك سمعت كلام زيد فتعديه إلى واحد ولا ثالث للبابين، وقد بطلا فتعين القول الأوّل.

وأجيب بأن أفعال التصيير ليست من البابين وقد ألحقت بهما.
وأيضًا من أثبت ما ليس من البابين مثبت لما لا مانع منه، فقد ألحق بعضهم بما ينصب مفعولين ضرب مع المثل نحو: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل: 75] ، وألحق بعضهم رأي الحلمية نحو قوله تعالى: { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] وأتى بيقول المضارع في رواية من ذكرها بعد سمع الماضي.
إما حكاية لحال

وقت السماع أو لإحضار ذلك في ذهن السامعين تحقيقًا وتأكيدًا له، وإلا فالأصل أن يقال: قال كما في الرواية الأخرى ليطابق سمعت.


( إنما الأعمال) البدنية أقوالها وأفعالها فرضها ونفلها قليلها وكثيرها الصادرة من المكلفين المؤمنين صحيحة أو مجزئة ( بالنيات) قيل: وقدّره الحنفية إنما الأعمال كاملة والأوّل أولى لأن الصحة أكثر لزومًا للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى لأن ما كان ألزم للشيء كان أقرب خطورًا بالبال عند إطلاق اللفظ، وهذا يوهم أنهم لا يشترطون النية في العبادات، وليس كذلك فإن الخلاف ليس إلا في الوسائل، أما المقاصد، فلا اختلاف في اشتراط النية فيها.
ومن ثم لم يشترطوها في الوضوء لأنه مقصود لغيره لا لذاته، فكيفما حصل حصل المقصود وصار كستر العورة وباقي شروط الصلاة التي لا تفتقر إلى نية، وإنما احتيج في الحديث إلى التقدير لأنه لا بدّ للجار من متعلق محذوف هنا هو الخبر في الحقيقة على الأصح، فينبغي أن يجعل المقدر أوّلاً في ضمن الخبر فيستغنى عن إضمار شيء في الأوّل لئلا يصير في الكلام حذفان، حذف المبتدأ أوّلاً وحذف الخبر ثانيًا، وتقديره: إنما صحة الأعمال كائنة بالنيات، لكن قال البرماوي يعارضه أن الخبر يصير كونًا خاصًّا، وإذا قدّرنا إنما صحة الأعمال كائنة كان كونًا مطلقًا وحذف الكون المطلق أكثر من الكون الخاص، بل يمتنع إذا لم يدل عليه دليل وحذف المضاف كثير أيضًا، فارتكاب حذفين بكثرة وقياس أولى من حذف واحد بقلة وشذوذ وهو الوجه المرضيّ، ويشهد لذلك ما قرّره في حذف خبر المبتدأ بعد لولا في الكون العامّ والخاص.
ومنهم من جعل المقدّر القبول أي إنما قبول الأعمال، لكن تردّد في أن القبول ينفك عن الصحة أم لا، فعلى الأوّل هو كتقدير الكمال وعلى الثاني كتقدير الصحة، ومنهم من قال: لا حاجة إلى إضمار محذوف من الصحة أو الكمال أو نحوهما، إذ الإضمار خلاف الأصل، وإنما المراد حقيقة العمل الشرعي فلا يحتاج حيئذ إلى إضمار.

والنيات بتشديد الياء جمع نية من نوى ينوي من باب ضرب يضرب وهي لغة القصد، وقيل: هي من النوى بمعنى البعد، فكأنَّ الناوي للشيء يطلب بقصده وعزمه بما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظاهرة لبعده عنه، فجعلت النية وسيلة إلى بلوغه.
وشرعًا قصد الشيء مقترنًا بفعله، فإن تراخى عنه كان عزمًا، أو يقال: قصد الفعل ابتغاء وجه الله وامتثالاً لأمره، وهي هنا محمولة على معناها اللغوي ليطابق ما بعده من التقسيم، والتقييد بالمكلفين المؤمنين يخرج أعمال الكفار، لأن المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصح من الكافر وإن كان مخاطبًا بها معاقبًا على تركها، وجمعت النية في هذه الرواية باعتبار تنوّعها لأن المصدر لا يجمع إلا باعتبار تنوّعه أو باعتبار مقاصد الناوي، كقصده تعالى، أو تحصيل موعوده أو اتقاء وعيده.
وليس المراد نفي ذات العمل لأنه حاصل بغير نية، وإنما المراد نفي صحته أو كماله على اختلاف التقديرين.
وفي معظم الروايات النية بالإفراد على الأصل لاتحاد محلها وهو القلب، كما أن مرجعها واحد وهو الإخلاص للواحد الذي لا شريك له، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها.
وفي صحيح ابن

حبان الأعمال بالنيات بحذف إنما، وجمع الأعمال والنيات.
وفي كتاب الإيمان من البخاري من رواية مالك عن يحيى الأعمال بالنية، وفيه أيضًا في النكاح العمل بالنية بالإفراد فيهما.
والتركيب في كلها يفيد الحصر باتفاق المحققين، لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق وهو مستلزم للحصر لأنه من حصر المبتدأ في الخبر، ويعبر عنه البيانيون بقصر الموصوف على الصفة، وربما قيل قصر المسند إليه على المسند، والمعنى كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية.
واختلف في إنما هل تفيد الحصر أم لا، فقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي والغزاليّ والكيا الهراسي والإمام فخر الدين: تفيد الحصر المشتمل على نفي الحكم عن غير المذكور، نحو: إنما قائم زيد أي لا عمرو، أو نفي غير الحكم عن المذكور نحو: إنما زيد قائم أي لا قاعد.
وهل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم، قال البرماوي في شرح ألفيته: الصحيح أنه بالمنطوق، لأنه لو قال ما له عليّ إلا دينار كان إقرارًا بالدينار، ولو كان مفهومًا لم يكن مقرًّا لعدم اعتبار المفهوم بالأقارير اهـ.


وممن صرّح بأنه منطوق أبو الحسين بن القطان والشيخ أبو إسحق الشيرازي والغزالي، بل نقله البلقيني عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير كالآمدي، قال في اللامع: وقيل الحصر من عموم المبتدأ باللام وخصوص خبره على حد صديقي زيد لعموم المضاف إلى المفرد وخصوص خبره، ففي الرواية الأخرى كما سبق بدون إنما، فالتقدير كل الأعمال بالنيات إذ لو كان عمل بلا نية لم تصدق هذه الكلية، وأصل إنما أنّ التوكيدية دخلت عليها ما الكافة، وهي حرف زائد خلافًا لمن زعم أنها ما النافية، ولا يرد على دعوى الحصر نحو صوم رمضان بنيّة قضاء أو نذر حيث لم يقع له ما نوى لعدم قابلية المحل والضرورة في الحج ينويه للمستأجر فلا يقع إلا للناوي، لأن نفس الحج وقع، ولو كان لغير المنوي له.
والفرق بينه وبين نيّة القضاء أو النذر في رمضان حيث لا يصح أصلاً لأن التعيين ليس بشرط في الحج فيحرم مطلقًا ثم يصرفه إلى ما شاء، ولذا لو أحرم بنفله وعليه فرضه انصرف للفرض لشدة اللزوم، فإذا لم يقبل ما أحرم به انصرف إلى القابل.

نعم لو أحرم بالحج قبل وقته انعقد عمرة على الراجح لانصرافه إلى ما يقبل، وهذا بخلاف ما لو أحرم بالصلاة قبل وقتها عالمًا لا تنعقد، وأما إزالة النجاسة حيث لا تفتقر إلى نية فلأنها من قبيل التروك، نعم تفتقر لحصول الثواب كتارك الزنا إنما يثاب بقصد أنه تركه امتثالاً للشرع، وكذلك نحو القراءة والأذان والذكر لا يحتاج إلى نية لصراحتها إلا لغرض الإثابة.
وخروج هذا ونحوه عن اعتبار النية فيها إما بديل آخر، فهو من باب تخصيص العموم أو لاستحالة دخولها، كالنية ومعرفة الله تعالى، فإن النية فيهما محال.
أما النية فلأنها لو توقفت على نية أخرى توقفت الأخرى على أخرى، ولزم التسلسل أو الدور وهما محُالان.
وأما معرفة الله تعالى فلأنها لو توقفت على النية مع أن النية قصد المنوي بالقلب، لزم أن يكون عارفًا بالله تعالي قبل معرفته وهو محال، والأعمال جمع عمل وهو حركة البدن بكله أو بعضه، وربما أطلق على حركة النفس، فعلى هذا يقال العمل إحداث أمر قولاً كان أو فعلاً بالجارحة أو بالقلب، لكن الأسبق إلى الفهم الاختصاص بفعل الجارحة لا نحو النية،

قاله ابن دقيق العيد، قال: ورأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خصّه بما لا يكون قولاً، قال: وفيه نظر ولو خصص بذلك لفظ الفعل لكان أقرب من حيث استعمالها متقابلين، فيقال: الأقوال والأفعال ولا تردد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال أيضًا اهـ.

وتعقبه صاحب جمع العدة بأنه: إن أراد بقوله ولا تردد عندي أن الحديث يتناول الأقوال أيضًا باعتبار افتقارها إلى النية بناء على أن المراد إنما صحة الأعمال، فممنوع بل الأذان والقراءة ونحوهما تتأدّى بلا نية.
وإن أراد باعتبار أنه يُثاب على ما ينوي منها ويكون كلامًا فمسلم ولكنه مخالف لما رجحه من تقدير الصحة.

فإن قلت: لم عدل عن لفظ الأفعال إلى الأعمال؟ أجاب الخويّي بأن الفعل هو الذي يكون زمانه يسيرًا ولم يتكرّر، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] وتبين لكم كيف فعلنا بهم حيث كان إهلاكهم في زمان يسير، ولم يتكرر بخلاف العمل، فإنه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديد بالاستمرار والتكرار.
قال الله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] طلب منهم العمل الذي يدوم ويستمر ويتجدد كل مرة ويتكرر لا نفس الفعل.
قال تعالى: { فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون} [الصافات: 61] ولم يقل يفعل الفاعلون، فالعمل أخص.
ومن ثم قال الأعمال ولم يقل الأفعال، لأن ما يندر من الإنسان لا يكون بنية لا أن كل عمل تصحبه نية.
وأما العمل فهو ما يدوم عليه الإنسان ويتكرر منه فتعتبر النية اهـ.
فليتأمل.


والباء في بالنيات تحتمل المصاحبة والسببية، أي الأعمال ثابت ثوابها بسبب النيات، ويظهر أثر ذلك في أن النية شرط أو ركن، والأشبه عند الغزاليّ أنها شرط لأن النية في الصلاة مثلاً تتعلق بها فتكون خارجة عنها، وإلاّ لكانت متعلقة بنفسها وافتقرت إلى نية أخرى، والأظهر عند الأكثرين أنها من الأركان، والسببية صادقة مع الشرطية وهو واضح لتوقف المشروط على الشرط، ومع الركنية لأن بترك جزء من الماهية تنتفي الماهية.
والحق أن إيجادها ذكرًا في أوّله ركن واستصحابها حكمًا بأن تعرى عن المنافي شرط كإسلام الناوي وتمييزه وعلمه بالمنوي، وحكمها الوجوب ومحلها القلب، فلا يكفي النطق مع الغفلة.
نعم يستحب النطق بها ليساعد اللسان القلب، ولئن سلمنا أنه لم يرو عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا عن أحد من أصحابه النطق بها لكنا نجزم بأنه عليه الصلاة والسلام نطق بها لأنه لا شك أن الوضوء المنوي مع النطق به أفضل، والعلم الضروري حاصل بأن أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المنوي مع النطق، ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العاري عنه.

والشك لا يعارض اليقين، فثبت أنه أتى بالوضوء المنوي مع النطق، والمقصود بها تمييز العبادة عن العادة أو تمييز رتبها، ووقتها أوّل الفرض كأوّل غسل جزء من الوجه في الوضوء، فلو نوى في أثناء غسل الوجه كفّت ووجب إعادة المغسول منه قبلها، وإنما لم يوجبوا المقارنة في الصوم لعسر مراقبة الفجر.
وشرط النية الجزم فلو توضأ الشاك بعد وضوئه في الحدث احتياطًا فبان محدثًا لم يجزه للتردد في النية بلا ضرورة، بخلاف ما إذا لم يبن محدثًا فإنه يجزيه للضرورة.
وإنما صح وضوء الشاك في

طهره بعد تيقن حدثه مع التردد لأن الأصل بقاء الحدث.
بل لو نوى في هذه إن كان محدثًا فعن حدثه، وإلا فتجديد صح أيضًا، وإن تذكر.
نقله النووي في شرح المهذب عن البغوي وأقرّه.

( وإنما لكل امرىء) بكسر الراء لكل رجل ( ما نوى) أي الذي نواه أو نيته، وكذا لكل امرأة ما نوت لأن النساء شقائق الرجال.
وفي القاموس والمرء مثلث الميم الإنسان أو الرجل، وعلى القول بأن إنما للحصر فهو هنا من حصر الخبر في المبتدأ، أو يقال: قصر الصفة على الموصوف لأن المقصور عليه في إنما دائمًا المؤخر، ورتبوا هذه على السابقة بتقديم الخبر وهو يفيد الحصر كما تقرر، واستشكل الإتيان بهذه الجملة بعد السابقة لاتحاد الجملتين فقيل تقديره وإنما لكل امرىء ثواب ما نوى، فتكون الأولى قد نبهت على أن الأعمال لا تصير معتبرة إلا بنية، والثانية على أن العامل يكون له ثواب العمل على مقدار نيته، ولهذا أخّرت عن الأولى لترتبها عليها.
وتعقب بأن الأعمال حاصلة بثوابها للعامل لا لغيره فهي عين معنى الجملة الأولى، وقال ابن عبد السلام: معنى الثانية حصر ثواب الإجزاء المرتب على العمل لعامله، ومعنى الأولى صحة الحكم وإجزاؤه ولا يلزم منه ثواب، فقد يصح العمل ولا ثواب عليه كالصلاة في المغصوب ونحوه على أرجح المذاهب، وعورض بأنه يقتضي أن العمل له نيتان نية بها يصح في الدنيا ويحصل الاكتفاء به، ونية بها يحصل الثواب في الآخرة إلا أن يقدر في ذلك وصف النية إن لم يحصل صح ولا ثواب، وإن حصل صح وحصل الثواب فيزول الإشكال.
وقيل: إن الثانية تفيد اشتراط تعيين المنويّ فلا يكفي في الصلاة نيتها من غير تعيين، بل لا بدّ من تمييزها بالظهر أو العصر مثلاً، وقيل: إنها تفسد منع الاستنابة في النية لأن الجملة الأولى لا تقتضي منعها بخلاف الثانية، وتعقب بنحو نية وليّ الصبي في الحج فإنها صحيحة، وكحج الإنسان عن غيره، وكالتوكيل في تفرقة الزكاة.

وأجيب بأن ذلك واقع على خلاف الأصل في المواضع.
وذهب القرطبيّ إلى أن الجملة اللاحقة مؤكدة للسابقة، فيكون ذكر الحكم بالأولى وأكده بالثانية تنبيهًا على سرّ الإخلاص وتحذيرًا من الرياء المانع من الخلاص، وقد علم أن الطاعات في أصل صحتها وتضاعفها مرتبطة بالنيات، وبها ترفع إلى خالق البريّات.

( فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها) جملة في موضع جرّ صفة لدنيا أي يحصلها نية وقصدًا ( أو إلى امرأة) ولأبي ذر أو امرأة ( ينكحها) أي يتزوّجها كما في الرواية الأخرى، ( فهجرته إلى ما هاجر إليه) من الدنيا والمرأة والجملة جواب الشرط في قوله فمن.
قال ابن دقيق العيد في قوله: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، أي فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا، ونحو هذا في التقدير قوله: فمن كانت هجرته إلى دنيا إلى آخره، لئلا يتحد الشرط والجزاء، ولا بدّ من تغايرهما، فلا يقال من أطاع الله أطاع الله، وإنما يقال من أطاع الله نجا، وهنا وقع الاتحاد فاحتيج إلى التقدير المذكور، وعورض بأنه ضعيف من جهة العربية لأن الحال المبينة لا تحذف بلا دليل، ومن ثم منع بعضهم تعلق الباء في بسم الله

بحال محذوفة أي ابتدىء متبركًا قال: لأن حذف الحال لا يجوز، وأجاب البدر الدماميني منتصرًا لابن دقيق العيد بأن ظاهر نصوصهم جواز الحذف، قال: ويؤيده أن الحال خبر في المعنى أو صفة وكلاهما يسوغ حذفه بلا دليل فلا مانع في الحال أن تكون كذلك.
اهـ.

وقيل: لأن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر وتارة بالمعنى، ويفهم ذلك من السياق كقوله تعالى: { َمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71] أي مرضيًا عند الله ماحيًا للعقاب محصلاً للثواب، فهو مؤوّل على إرادة المعهود المستقرّ في النفس كقولهم: أنت أنت أي الصديق، وقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري.
وقال بعضهم: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر أو الشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم كقوله: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، وإما في التحقير كقوله: فمن كانت هجرته إلى دنيا إلى آخره، وقيل الخبر في الثاني محذوف والتقدير فهجرته إلى ما هاجر إليه من الدنيا، والمرأة قبيحة غير صحيحة أو غير مقبولة ولا نصيب له في الآخرة.
وتعقب بأنه يقتضي أن تكون الهجرة مذمومة مطلقًا وليس كذلك، فإن من نوى بهجرته مفارقة دار الكفر وتزويج المرأة معًا لا تكون قبيحة ولا غير صحيحة بل ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصده الهجرة لكن دون ثواب من أخلص.
وقد اشتهر أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوّجه حتى يهاجر فهاجر فتزوّجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس.
ولم يقف ابن رجب على من خرجه فقال في شرحه الأربعين للنووي: وقد ذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم ولم نر له أصلاً بإسناد يصح.
وذكر أبو الخطاب بن دحية أن اسم المرأة قيلة، وأما الرجل فلم يسمه أحد ممن صنف في الصحابة فيما رأيته، وهذا السبب وإن كان خاص المورد لكن العبرة بعموم اللفظ والتنصيص على المرأة من باب التنصيص على الخاص بعد العام للاهتمام نحو والملائكة وجبريل.
وعورض بأن لفظ دنيا نكرة وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها.

وأجيب بأنها إذا كانت في سياق الشرط تعم، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير لأن الافتتان بها أشد، وإنما وقع الذم هنا على مباح ولا ذم فيه ولا مدح لكون فاعله أبطن خلاف ما أظهر، إذ خروجه في الظاهر ليس لطلب الدنيا لأنه إنما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة، والهجرة بكسر الهاء الترك والمراد هنا من هاجر من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة فلا هجرة بعد الفتح، لكن جهاد ونية كما قال عليه الصلاة والسلام، نعم حكمها من دار الكفر إلى دار الإسلام مستمر، وفي الحقيقة هي مفارقة ما يكرهه الله تعالى إلى ما يحبه، وفي الحديث: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
ودنيا بضم الدال مقصورة غير منوّنة للتأنيث والعلمية وقد تكسر وتنوّن، وحكي عن الكشميهني أنكر

عليه وأنه لا يعرف في اللغة التنوين، ولم يكن الكشميهني ممن يرجع إليه في ذلك اهـ.
والصحيح جوازه قال في القاموس: والدنيا نقيض الآخرة وقد تنوّن وجمعها دنى اهـ، واستدلوا له بقوله:
إني مقسم ما ملكت فجاعل ... جزءًا لآخرتي ودنيا تنفع

فإن ابن الأعرابيّ أنشده منوّنًا وليس بضرورة كما لا يخفى، والدنيا فعلى من الدنوّ وهو القرب، سميت بذلك لسبقها للأخرى، وهي ما على الأرض من الجوّ والهواء أو هي كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة، أو لدنوّها من الزوال.
ووقع في رواية الحميدي هذه حذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله الخ.
وقد ذكره البخاري من غير طريق الحميدي، فقال ابن العربي: لا عذر للبخاري في إسقاطه لأن الحميدي رواه في مسنده على التمام، قال: وقد ذكر قوم أنه لعله استملاه من حفظ الحميدي فحدّثه هكذا فحدّث عنه كما سمع أو حدّثه به تامًّا فسقط من حفظ البخاري.
قال: وهو أمر مستبعد جدًّا عند من اطّلع على أحوال القوم، وجاء من طريق بشر بن موسى، وصحيح أبي عوانة، ومستخرجي أبي نعيم على الصحيحين من طريق الحميدي تامًّا، ولعل المؤلف إنما اختار الابتداء بهذا السياق الناقص ميلاً إلى جواز الاختصار من الحديث ولو من أثنائه كما هو الراجح، وقيل غير ذلك.
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام.

قال أبو داود: يكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث: "الأعمال بالنيات"، و"حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" و"لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه"، و"الحلال بيّن والحرام بيّن".
وذكر غيره غيرها.
وقال الشافعي وأحمد إنه يدخل فيه ثلث العلم.
قال البيهقي: إذا كسب العبد إما بقلبه أو بلسانه أو ببقية جوارحه.
وعن الشافعي أيضًا أنه يدخل فيه نصف العلم، ووجه بأن للدين ظاهرًا وباطنًا، والنية متعلقة بالباطن والعمل هو الظاهر.
وأيضًا فالنية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح.
وقد زعم بعضهم أنه متواتر وليس كذلك لأن الصحيح أنه لم يروه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا عمر، ولم يروه عن عمر إلا علقمه، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم إلا يحيى بن سعيد الأنصاري وعنه انتشر.
فقيل: رواه عنه أكثر من مائتي راوٍ، وقيل سبعمائة، من أعيانهم مالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وسعيد وابن عيينة، وقد ثبت عن أبي إسماعيل الهروي الملقب بشيخ الإسلام أنه كتبه عن سبعمائة رجل أيضًا من أصحاب يحيى بن سعيد فهو مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله، نعم المشهور ملحق بالمتواتر عند أهل الحديث، غير أنه يفيد العلم النظري إذا كانت طرقه متباينة سالمة من ضعف الرواة ومن التعليل.
والمتواتر يفيد العلم الضروري، ولا تشترط فيه عدالة ناقله وبذلك افترقا.
وقد توبع علقمة والتيمي ويحيى بن سعيد على روايتهم.
قال ابن منده: هذا الحديث رواه عن عمر غير علقمة ابنه عبد الله وجابر وأبو جحيفة وعبد الله بن عامر بن ربيعة وذو الكلاع وعطاء بن يسار وناشرة بن سمي ووأصل بن عمرو الجذامي ومحمد بن المنكدر، ورواه عن علقمة

غير التيمي سعيد بن المسيب ونافع مولى ابن عمر، وتابع يحيى بن سعيد على روايته عن التيمي محمد بن محمد أبو الحسن الليثي وداود بن أبي الفرات ومحمد بن إسحق بن يسار وحجاج بن أرطأة وعبد ربه بن قيس الأنصاري.
ورواة إسناده هنا ما بين كوفي ومدني، وفيه تابعي عن تابعي يحيى ومحمد التيمي، أو ثلاثة إن قلنا إن علقمة تابعي وهو قول الجمهور.
وصحابي عن صحابي إن قلنا إن علقمة صحابي.
وفيه الرواية بالتحديث والإخبار والسماع والعنعنة.
وأخرجه المؤلف في الإيمان والعتق والهجرة والنكاح والأيمان والنذور وترك الحيل، ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والدارقطني وابن حبان والبيهقي، ولم يخرجه مالك في موطئه، وبقية مباحثه تأتي إن شاء الله تعالى في محالها.

وقد رواه من الصحابة غير عمر، قيل: نحو عشرين صحابيًا فذكره الحافظ أبو يعلى القزويني في كتابه الإرشاد من رواية مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الأعمال بالنية".
ثم قال: هذا حديث غير محفوظ عن زيد بن أسلم بوجه، فهذا ما أخطأ فيه الثقة.
ورواه الدارقطني في أحاديث مالك التي ليست في الموطأ وقال: تفرد به عبد المجيد عن مالك ولا نعلم من حدّث به عن عبد المجيد غير نوح بن حبيب وإبراهيم بن محمد العتقي، وقال ابن منده في جمعه لطرق هذا الحديث: رواه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غير عمر سعد بن أبي وقاص، وعليّ بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وأنس، وابن عباس، ومعاوية، وأبو هريرة، وعبادة بن الصامت، وعتبة بن عبد السلمي، وهلال بن سويد، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، وأبو ذر، وعتبة بن المنذر، وعقبة بن مسلم، وعبد الله بن عمر اهـ.


وقد اتفق على أنه لا يصح مسندًا إلا من رواية عمر إشارة إلى أن من أراد الغنيمة صحح العزيمة، ومن أراد المواهب السنيّة أخلص النية، ومن أخلص الهجرة ضاعف الإخلاص أجره، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، إنما تنال المطالب على قدر همة الطالب، إنما تدرك المقاصد على قدر عناء القاصد.

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

باب

[ قــ : ... غــ : ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنها- أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ -رضي الله عنه- سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ - وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ - فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ».


قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
[الحديث - أطرافه في: 315] .

وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي المنزل الدمشقي الأصل المتوفى سنة ثمان عشرة ومائتين وفي يوسف تثليث السين مع الهمز وتركه ومعناه بالعبرانية جميل الوجه، ( قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحيّ إمام دار الهجرة بل إمام الأئمة المتوفى سنة تسع وسبعين ومائة، ( عن هشام بن عروة) بن الزبير بن العوام القرشي التابعي المتوفى سنة خمس وأربعين ومائة ببغداد ( عن أبيه) أبي عبد الله عروة المدني أحد الفقهاء السبعة المتوفى سنة أربع وتسعين ( عن عائشة) بالهمز وعوام المحدّثين يبدلونها ياء ( أم المؤمنين رضي الله عنها) قال الله تعالى: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] أي في الاحترام والإكرام والتوقير والإعظام وتحريم نكاحهن لا في جواز الخلوة والمسافرة وتحريم نكاح بناتهن، وكذا النظر في الأصح.
وبه جزم الرافعي وإن سمى بعض العلماء بناتهنّ أخوات المؤمنين كما هو منصوص الشافعي في المختصر فهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم، قال في الفتح: وإنما قيل للواحدة منهن أم المؤمنين للتغليب وإلا فلا مانع من أن يقال لها أم المؤمنات على الراجح، وحاصله أن النساء يدخلن في جمع المذكر السالم تغليبًا، لكن صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنا أم رجالكم لا أم نسائكم، قال ابن كثير: وهو أصح الوجهين والله أعلم، وتوفيت عائشة بنت أبي بكر الصديق بعد الخمسين إما سنة خمس أو ست أو سبع أو ثمان في رمضان، وعاشت خمسًا وستين سنة وتوفي عنها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي بنت ثماني عشرة، وأقامت في صحبته تسع، وقيل ثمان سنين وخمسة أشهر، ولعائشة في البخاري مائتان واثنان وأربعون حديثًا.
( أن الحرث بن هشام) بغير ألف بعد الحاء في الكتابة تخفيفًا، المخزومي أحد فضلاء الصحابة ممن أسلم يوم الفتح المستشهد في فتح الشام سنة خمس عشرة ( رضي الله عنه سأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه ِ وَسَلَّمَ-) يحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك فيكون من مسندها، وأن يكون الحرث أخبرها بذلك فيكون من مرسل الصحابة وهو محكوم بوصله عند الجمهور، ( فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي) ؟ أي صفة الوحي نفسه أو صفة حامله أو ما هو أعم من ذلك، وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله، ( فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بالفاء قبل القاف، ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( أحيانًا) أي أوقاتًا وهو نصب على الظرفية وعامله ( يأتيني) مؤخر عنه أي يأتيني الوحي إتيانًا ( مثل صلصلة الجرس) أو حالاً، أي يأتيني ْمشابّها صوته صلصلة الجرس وهو بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة والجرس بالجيم والمهملة الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، قيل: والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي، وقيل: صوت حفيف أجنحة الملك.
والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه متسع لغيره ( وهو أشده عليّ) وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى ورفع الدرجات ( فيفصم عني) الوحي والملك، بفتح المثناة التحتية وسكون الفاء وكسر المهملة، كذا لأبي الوقت من فصم

يفصم من باب ضرب يضرب، والمراد قطع الشدة أي يقلع وينجلي ما يغشاني من الكرب والشدة، ويروى فيفصم بضم الياء وكسر الصاد من أفصم المطر إذا أقلع، رباعي قال في المصابيح: وهي لغة قليلة، وفي رواية أخرى في اليونينية فيفصم بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول والفاء عاطفة والفصم القطع من غير بينونة، فكأنه قال: إن الملك يفارقني ليعود إليّ ( وقد وعيت) بفتح العين أي فهمت وجمعت وحفظت ( عنه) عن الملك ( ما قال) أي القول الذي قاله فحذف العائد وكل من الضميرين المجرور والمرفوع يعود على الملك المفهوم مما تقدم.
فإن قلت: صوت الجرس مذموم لصحة النهي عنه كما في مسلم وأبي داود وغيرهما، فكيف يشبه به ما يفعله الملك به مع أن الملائكة تنفر عنه؟ أجيب: بأنه يلزم من التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما.
والمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبًا لإفهامهم.
والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوّة وجهة طنين، فمن حيث القوّة وقع التشبيه به ومن حيث الطنين وقع التنفير عنه.
وقال الإمام فضل الله التوريشتي بضم الفوقية وسكون الواو بعدها راء فموحدة مكسورتان ثم شين محجمة ساكنة ففوقية مكسورة لما سئل عليه الصلاة والسلام عن كيفية الوحى، وكان من المسائل العويصة التي لا يماط نقاب التعزز عن وجهها لكل أحد، ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء تنبيهًا على أن إتيانها يرد على القلب في هيبة الجلال وأبّهة الكبرياء، فتأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلب، ويلاقي من ثقل القول ما لا علم له به بالقول مع وجود ذلك، فإذا سرّي عنه وجد القول المنزل بينًا ملقى في الروع واقعًا موقع المسموع، وهذا معنى فيفصم عني وقد وعيت، وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة على ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال: إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العليّ الكبير اهـ.

وقد روى الطبراني وابن أبي عاصم من حديث النوّاس بن سمعان مرفوعًا: "إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة أو رعدة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخرّوا سجّدًا فيكون أوّلهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة، كلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا قال الحق فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض".

وروى ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعًا: "إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون، وعند ابن أبي حاتم عن العوفي عن ابن عباس وقتادة أنهما فسّرا آية { إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 3] بابتداء إيحاء الله إلى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى.


وفي كتاب العظمة لأبي الشيخ عن وهيب بن الورد، قال: بلغني أن أقرب الخلق من الله تعالى إسرافيل العرش على كاهله، فإذا نزل الوحي دلي لوح من تحت العرش فيقرع جبهة إسرافيل فينظر فيه فيدعو جبريل فيرسله، فإذا كان يوم القيامة أُتيِ به ترعد فرائصه فيقال: ما صنعت فيما أدى إليك اللوح؟ فيقول: بلغت جبريل، فيدعى جبريل ترعد فرائصه فيقال: ما صنعت فيما بلغك إسرافيل؟ فيقول: بلغت الرسل الأثر الخ.

على أن العلم بكيفية الوحي سر من الأسرار التي لا يدركها العقل، وسماع الملك وغيره من الله تعالى ليس بحرف أو صوت بل يخلق الله تعالى للسامع علمًا ضروريًا فكما أن كلامه تعالى ليس من جنس كلام البشر فسماعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سماع الأصوات، وإنما كان هذا الضرب من الوحي أشد على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غيره لأنه كان يردّ فيه من الطبائع البشرية إلى الأوضاع الملكية فيوحي إليه كما يوحي إلى الملائكة كما ذكر في حديث أبي هريرة وغيره، بخلاف الضرب الآخر الذي أشار إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: ( وأحيانًا يتمثل) أي يتصور ( لي) لأجلي، فاللام تعليلية، ( الملك) جبريل.
( رجلاً) أي مثل رجل كدحية أو غيره، فالنصب على المصدرية، أي يتمثل تمثل رجل أو هيئة رجل فيكون حالاً، قال البدر الدماميني: وقد صرح بعضهم بأنه حال ولم يؤوله بمشتق وهو متجه لدلالة رجل هنا على الهيئة بدون تأويل اهـ.


وتعقب بأن الحال في المعنى خبر عن صاحبه، فيلزم أن يصدق عليه، والرجل لا يصدق على الملك، وقول الكرماني وغيره إنه تمييز.
قال في المصابيح: الظاهر أنهم أرادوا تمييز النسبة لا تمييز المفرد إذ الملك لا إبهام فيه، ثم قال: فإن قلت تمييز النسبة لا بدّ أن يكون محوّلاً عن الفاعل كتصبب زيد عرقًا أي عرق زيد، أو المفعول نحو { وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 1] أي عيون الأرض، وذلك هنا غير متأتٍّ.
وأجاب بأن هذا أمر غالب لا دائم بدليل امتلأ الإناء ماء.
قال: ولو قيل بأن يتمثل هنا أجري مجرى يصير لدلالته على التحوّل والانتقال من حالة إلى أخرى، فيكون رجلاً خبرًا كما ذهب إليه ابن مالك في تحوّل وأخواته لكان وجهًا، لكن قد يقال: إن معنى يتمثل يصير مثال رجل، ومع التصريح بذلك يمتنع أن يكون رجلاً خبرًا له فتأمله اهـ.

وقيل: النصب على المفعولية على تضمين يتمثل معنى يتخذ، أي الملك رجلاً مثالاً لكن قال العيني: إنه بعيد من جهة المعنى.
والملائكة كما قال المتكلمون أجسام علوية لطيفة تتشكل في أيّ شيء أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية، والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه، والظاهر أن القدر الزائد لا يفنى بل يخفى على الرائي فقط، ولأبي الوقت يتمثل لي الملك على مثال رجل ( فيكلمني فأعي ما يقول) أي الذي يقوله فالعائد محذوف والفاء في الكلمتين للعطف المشير للتعقيب.
وقد وقع التغاير بين قوله: وقد وعيت بلفظ الماضي، وفأعي بلفظ المضارع، لأن الوعي في الأوّل حصل قبل الفصم، ولا يتصوّر بعده، وفي الثاني في حالة المكالمة ولا يتصوّر قبلها.
أو أنه في الأوّل قد تلبس

بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية كان حافظًا لما قيل له فأخبر عن الماضي، بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة.

وليس المراد حصر الوحي في هاتين الحالتين بل الغالب مجيئه عليهما.
وأقسام الوحي الرؤيا الصادقة ونزول إسرافيل أوّل البعثة كما ثبت في الطرق الصحاح أنه عليه الصلاة والسلام وكّل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء، ثم وكل به جبريل وكان يأتيه في صورة رجل، وفي صورة دحية، وفي صورته التي خلق عليها مرتين، وفي صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، وعورض بأن ظاهره أنه إنما جاء سائلاً عن شرائع الإسلام ولم يبلغ فيه وحيًا اهـ.
وفي مثل صلصلة الجرس والوحي إليه فوق السموات من فرض الصلاة وغيرها بلا واسطة، وإلقاء الملك في روعه من غير أن يراه، واجتهاده عليه السلام فإنه صواب قطعًا وهو قريب من سابقه، إلاّ أن هذا مسبب عن النظر والاجتهاد، لكن يعكر عليه أن ظاهر كلام الأصوليين أن اجتهاده عليه الصلاة والسلام والوحي قسمان ومجيء ملك الجبال مبلغًا له عن الله تعالى أنه أمره أن يطيعه.
وفي تفسير ابن عادل أن جبريل نزل على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعة وعشرين ألف مرة، وعلى آدم اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربعًا، وعلى نوح خمسين، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة، وعلى عيسى عشرًا كذا قاله والعهدة عليه.

( قالت عائشة رضي الله عنها) أي وبالإسناد السابق بحذف حرف العطف كما هو مذهب بعض النحاة وصرح به ابن مالك وهو عادة المصنف في المسند المعطوف، وبإثباته في التعليق، وحينئذ فيكون مسندًا، ويحتمل أن يكون من تعاليقه، وتكون النكتة في قول عائشة هذا اختلاف التحمل، لأنها في الأوّل، أخبرت عن مسألة الحرث، وفي الثاني عما شاهدته تأييدًا للخبر الأوّل.
ونفى بعضهم أن يكون هذا من التعاليق ولم يقم عليه دليلاً.
وتعقب الحذف بأن الأصل في العطف أن يكون بالأداة.
وما نص عليه ابن مالك غير مشهور وخلاف ما عليه الجمهور.


ومقول عائشة ( ولقد رأيته) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والواو للقسم واللام للتأكيد أي: والله لقد أبصرته ( ينزل) بفتح أوّله وكسر ثالثه، ولأبي ذر والأصيلي ينزل بالضم والفتح ( عليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( الوحي في اليوم الشديد البرد) الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم ( فيفصم) بفتح المثناة التحتية وكسر الصاد، ولأبوي ذر والوقت فيفصم بضمها وكسر الصاد من أفصم الرباعيّ وهي لغة قليلة، وقال في الفتح ويروى بضم أوّله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وهي في اليونينية أيضًا أي يقلع ( عنه، وإن جبينه ليتفصد) بالفاء والصاد المهملة المشدّدة أي ليسيل ( عرقًا) بفتح الرأء من كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي، إذ أنه أمر طارىء زائد على الطباع البشرية، وإنما كان ذلك كذلك ليبلو صبره فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوّة.
وأما ما ذكر من أن يتقصد بالقاف فتصحيف لم يرو، والجبين غير الجبهة وهو فوق الصدغ والصدغ ما بين العين والأُذن، فللإنسان جبينان يكتنفان الجبهة، والمراد والله أعلم أن جبينيه معًا يتفصدان.


فإن قلت: فلم أفرده؟ أجيب: بأن الإفراد يجوز أن يعاقب التثنية في كل اثنين يغني أحدهما عن الآخر كالعينين والأُذنين.
تقول: عينه حسنة وأنت تريد أن عينيه جميعًا حسنتان قاله في المصابيح.
والعرق: رشح الجلد.

وقال في الإمتاع: جعل الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام الانسلاخ من حالة البشرية إلى حالة الملكية في حالة الوحي، فطرة فطرهم عليها، وجبلة صوّرهم فيها ونزّههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بما ركب في غرائزهم من العصمة والاستقامة، فإذا انسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك ما يتلقونه عاجوا على المدارك البشرية لحكمة التبليغ للعباد، فتارة يكون الوحي كسماع دوي كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه.
فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه.
وتارة يتمثل له الملك الذي يلقى إليه رجلاً فيكلمه ويعي ما يقوله.
والتلقي من الملك والرجوع إلى البشرية وفهمه ما ألقي إليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر، ولذا سمي وحيًا لأن الوحي في اللغة الإسراع كما مرّ.
وفي التعبير عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بالمضارع لطيفة من البلاغة، وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي، فتمثلت حالته الأولى بالدوي الذي هو غير كلام.
وإخبار أن الوعي والفهم يتبعه عقب انقضائه عند تصوير انفصال العبارة عن الوحي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع.
وتمثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطبه ويتكلم: فناسب التعبير بالمضارع المقتضي للتجدّد وفي حالتي الوحي على الجبلة صعوبة وشدة، ولذا كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف، لأن الوحي مفارقة البشرية إلى الملكية فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها، وقد يفضي بالتدريج شيئًا فشيئًا إلى بعض السهولة بالنظر إلى ما قبله، ولذلك كانت تنزل نجوم القرآن وسوره وآياته حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة.
ورواة هذا الحديث مدنيون إلا شيخ المؤلف، وفيه تابعيان والتحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف في بدء الخلق ومسلم في الفضائل وبه قال.


باب

[ قــ :3 ... غــ : 3 ]
- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ.
قَالَ «مَا أَنَا بِقَارِئٍ».
قَالَ «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ.
.

قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ.
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ.
فَقُلْتُ مَا أَنَا

بِقَارِئٍ.
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} ».
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي».
فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي».
فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ- وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ.
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَبَرَ مَا رَأَى.
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ».
قَالَ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
[الحديث 3 - أطرافه في 339، 4953، 4955، 4956، 4957، 698] .

(حدّثنا) ولأبي ذر وحدّثنا بواو العطف (يحيى) أبو زكريا (بن بكير) بضم الموحدة تصغير بكر القرشي المخزومي المصري المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ونسبه المؤلف لجده لشهرته به واسم أبيه عبد الله، (قال: حدّثنا الليث) بالمثلثة ابن سعد بن عبد الرحمن الفهمي عالم أهل مصر من تابعي التابعين، قال أبو نعيم: أدرك نيفًا وخمسين من التابعين القلقشندي المولود سنة ثلاث أو أربع وتسعين، المتوفى في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، وكان حنفي المذهب فيما قاله ابن خلكان، لكن المشهور أنه مجتهد.
وقد روينا عن الشافعي أنه قال: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وفي رواية عنه ضيعه قومه.
وقال يحيى بن بكير: الليث أفقه من مالك ولكن كانت الحظوة لمالك، (عن عقيل) بضم العين المهملة وفتح القاف مصغرًا ابن خالد بن عقيل بفتح العين، الأيليّ بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية، القرشيّ الأمويّ المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائة، (عن ابن شهاب) أبي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدنيّ تابعيّ صغير، ونسبه المؤلف كغيره إلى جدّه الأعلى لشهرته به، (عن عروة بن الزبير) بالتصغير (عن عائشة أم الؤمنين، رضي الله عنها (أنها قالت أول ما بدىء به) بضم الموحدة وكسر الدال (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الوحي) إليه (الرؤيا الصالحة في النوم)، وهذا الحديث يحتمل أن يكون من مراسيل الصحابة، فإن عائشة لم تدرك هذه القصة لكن الظاهر أنها سمعت ذلك منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقولها قالها قال: فأخذني فغطني، فيكون قولها أول ما بدىء به حكاية ما تلفظ به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحينئذ فلا يكون من المراسيل.
وقوله: من الوحي أي من أقسام الوحي، فمن للتبعيض.
وقال أبو عبد الله القزاز: ليست الرؤيا من الوحي
ومن لبيان الجنس.
وقال الأبّي نعم هي كالوحي في الصحة إذ لا مدخل للشيطان فيها.
وفي رواية مسلم كالمصنف في رواية معمر ويونس الصادقة وهي التي ليست فيها ضغث، وذكر النوم بعد الرؤيا المخصوصة به لزيادة الإيضاح والبيان، أو لدفع وهم من يتوهم أن الرؤيا تطلق على رؤية العين فهو ْصفة موضحة أو لأن غيرها يسمى حلمًا، أو تخصيص دون السيئة والكاذبة المسماة بأضغاث الأحلام، وأهل المعاني يسمونها صفة فارقة.
وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر فيما حكاه البيهقي.


وحينئذ فيكون ابتداء النبوّة بالرؤيا حصل في شهر ربيع وهو شهر مولده.
واحترز بقوله من الوحي عما رآه من دلائل نبوّته من غير وحي كتسليم الحجر عليه كما في مسلم، وأوّله مطلقًا ما سمعه من بحيرا الراهب كما في الترمذي بسند صحيح.
(فكان) بالفاء للأصيلي ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر وفي نسخة للأصيلي، وكان أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا يرى رؤيا) بلا تنوين (إلا جاءث مثل فلق الصبح) كرؤياه دخول المسجد الحرام، ومثل نصب بمصدر محذوف، أي إلاّ جاءت مجيئًا مثل فلق الصبح، والمعنى أنها شبيهة له في الضياء والوضوح أو التقدير مشبهة ضياء الصبح، فيكون النصب على الحال، وعبر بفلق الصبح لأن شمس النبوّة قد كانت مبادىء أنوارها الرؤيا إلى أن ظهرت أشعتها وتم نورها، والفلق: الصبح.
لكنه لما كان مستعملاً في هذا المعنى وغيره أضيف إليه للتخصيص، والبيان إضافة العام إلى الخاص.
وعن أمالي الرافعي حكاية خلاف أنه أوحي إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيء من القرآن في النوم أولاً.
وقال: الأشبه أن القرآن نزل كله يقظة، ووقع في مرسل عبد الله بن أبي بكر بن حزم عند الدولابي ما يدل على أن الذي كان يراه عليه الصلاة والسلام هو جبريل.
ولفظه أنه قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام هو جبريل استعلن، وإنما ابتدىء عليه الصلاة والسلام بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تحتمل القوى البشرية، فبدىء بأوائل خصال النبوة.
(ثم حبب إليه الخلاء) بالمد مصدر بمعنى الخلوة أي الاختلاء وهو بالرفع نائب عن الفاعل، وعبر بحبب المبني لما لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك وإن كان كلٌّ من عند الله، أو تنبيهًا على أنه لم يكن من باعث البشر، وإنما حبب إليه الخلوة لأن معها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق ليجد الوحي منه متمكنًا كما قيل: فصادق قلبًا خاليًا فتمكّنا.

وفيه تنبيه على فضل العزلة لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا وتفرغه لله تعالى فيتفجر منه ينابيع الحكمة، والخلوة: أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يصير خليقًا بأن يكون قالبه ممرًّا لواردات علوم الغيب، وقلبه مقرًّا لها.
وخلوته عليه الصلاة والسلام إنما كانت لأجل التقرب لا على أن النبوّة مكتسبة.
(وكان) عليه الصلاة والسلام (يخلو بغار حراء) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، وحكى الأصيلي فتحها والقصر وعزاها في القاموس للقاضي عياض، قال: وهي لغية وهو مصروف إن أُريد المكان وممنوع إن أريد البقعة، فهي أربعة: التذكير والتأنيث والمد والقصر، وكذا حكم قباء وقد نظم بعضهم أحكامها في بيت فقال:

حرا وقبا ذكّر وأنّثهما معًا ... ومدّ أو اقصر واصرفن وامنع الصرفا
وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى والغار نقب فيه.
(فيتحنث فيه) بالحاء المهملة وآخره مثلثة، والضمير المنفصل عائد إلى مصدر يتحنث، وهو من الأفعال التي معناها السلب أي اجتناب فاعلها لمصدرها، مثل تأثم وتحوّب إذا اجتنب الإثم والحوب.
أو هي بمعنى يتحنف بالفاء أي يتبع الحنيفية دين إبراهيم والفاء تبدل ثاء، (وهو التعبد الليالي ذوات العدد) مع أيامهن، واقتصر عليهن للتغليب لأنهن أنسب للخلوة.
ووصف الليالي بذوات العدد لإرادة التقليل كما في قوله تعالى: { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 0] أو للكثرة لاحتياجها إلى العدد وهو المناسب للمقام، وهذا التفسير للزهري أدرجه في الخبر كما جزم به الطيبي.
ورواية المصنف من طريق يونس عنه في التفسير تدل على الإدراج، والليالي نصب على الظرفية متعلق بقوله يتحنث، لا بالتعبد لأن التعبد لا تشترط فيه الليالي بل مطلب التعبد.
وذوات نصب بالكسرة صفة الليالي، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وأقل الخلوة ثلاثة أيام.
وتأمل ما للثلاثة في كل مثلث من التكفير والتطهير والتنوير، ثم سبعة أيام ثم شهر لما عند المؤلف ومسلم جاورت بحراء شهرًا، وعند ابن إسحق أنه شهر رمضان.

قال في قوت الإحياء: ولم يصح عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكثر منه، نعم روى الأربعين سوار بن مصعب وهو متروك الحديث.
قاله الحاكم وغيره، وأما قوله تعالى: { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 14] فحجة للشهر، والزيادة إتمامًا للثلاثين حيث استاك أو أكل فيها كسجود السهو فقوي تقييدها بالشهر وأنها سُنّة.
نعم الأربعون ثمرة نتاج النطفة علقة فمضغة فصورة والدر في صدفه.

فإن قلت: أمر الغار قبل الرسالة فلا حكم؟ أجيب بأنه أوّل ما بدىء به عليه الصلاة والسلام من الوحي الرؤيا الصالحة، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء كما مرّ.
فدلّ على أن الخلوة حكم مرتب على الوحي لأن كلمة ثم للترتيب، وأيضًا لو لم تكن من الدين لنهى عنها، بل هي ذريعة لمجيء الحق وظهوره مبارك عليه وعلى أمته تأسّيًا وسلامة من المناكير وضررها، ولها شروط مذكورة في محلها من كتب القوم.

فإن قلت: لمِ خصّ حراء بالتعبد فيه دون غيره؟ قال ابن أبي جمرة: لمزيد فضله على غيره، لأنه منزوٍ مجموع لتحنثه وينظر منه الكعبة المعظمة، والنظر إليها عبادة، فكان له عليه الصلاة والسلام فيه ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى الكعبة.

وعند ابن إسحق أنه كان يعتكف شهر رمضان، ولم يأت التصريح بصفة تعبده عليه الصلاة والسلام، فيحتمل أن عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدًا فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة، وقيل: كان يتعبد بالتفكر، (قبل أن ينزع) بفتح أوّله وكسر الزاي أي

يحن ويشتاق ويرجع (إلى أهله) عياله.
(ويتزود لذلك) برفع الدال في اليونينية لأبوي ذر والوقت عطفًا على يتحنث، أي يتخذ الزاد للخلوة أو التعبد.
(ثم يرجع إلى خديجة) رضي الله عنها، (فيتزود لمثلها) أي لمثل الليالي وتخصيص خديجة بالذكر بعد أن عبر بالأهل يحتمل أنه تفسير بعد الإبهام أو إشارة إلى اختصاص التزوّد بكونه من عندها دون غيرها، وفيه: أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السُّنّة لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينقطع في الغار بالكلية، بل كان يرجع إلى أهله لضروراتهم ثم يخرج لتحنثه.

(حتى جاءه) الأمر (الحق) وهو الوحي (وهو في غار حراء، فجاءه الملك) جبريل يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وهو ابن أربعين سنة كما رواه ابن سعد.
وفاء فجاءه تفسيرية كهي في قوله تعالى: { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] تفصيلية أيضًا لأن المجيء تفصيل للمجمل الذي هو مجيء الحق.
(فقال) له (اقرأ) يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه وأن يكون على بابه من الطلب، فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال، وإن قدر عليه بعد.
(قال) عليه الصلاة والسلام ولأبوي ذر والوقت قلت (ما أنا بقارىء).
وفي رواية ما أحسن أن أقرأ.
فما نافية واسمها أنا وخبرها بقارىء وضعف كونها استفهامية بدخول الباء في خبرها وهي لا تدخل على ما الاستفهامية.
وأجيب بأنها استفهامية بدليل رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ؟ وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحق ماذا أقرأ؟ وبأن الأخفش جوّز دخول الباء على الخبر المثبت، قال ابن مالك في بحسبك زيد أن زيدًا مبتدأ مؤخر لأنه معرفة، وحسبك خبر مقدّم لأنه نكرة، والباء زائدة فيه.
وفي مرسل عبيد بن عمير أنه عليه الصلاة والسلام قال: أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارىء.
قال السهيلي، وقال بعض المفسرين أن قوله تعالى: { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، ] إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل عليه السلام حين قال له اقرأ.
(قال) عليه الصلاة والسلام: (فأخذني) جبريل (فغطني) بالغين المعجمة ثم المهملة أي ضمني وعصرني، وعند الطبري فغتني بالمثناة الفوقية بدل الطاء وهو حب النفس.
(حتى بلغ مني الجهد) بفتح الجيم ونصب الدال أي بلغ الغط مني الجهد أي غاية وسعي، فهو مفعول حذف فاعله.
وفي شرح المشكاة أن المعنى على النصب أن جبريل بلغ في الجهد غايته، وتعقبه التوربشتي بأنه يعود المعنى إلى جبريل غطه حتى استفرغ قوته وجهد جهده بحيث لم تبق فيه بقية، قال: وهذا قول غير سديد فإن البنية البشرية لا تستدعي استنفاد القوة الملكية لا سيما في مبدأ الأمر، وقد دلت القصة على أنه اشمأز من ذلك وداخله الرعب، وحينئذ فمن رواه بالنصب فقد وهم.
وأجاب الطيبي بأن جبريل في حال الغط لم يكن على صورته الحقيقية التي تجلى له بها عند سدرة المنتهى، فيكون استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلى له بها وغطه وحينئذ فيضمحل الاستبعاد انتهى.

ويروى الجهد بالضم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه فهو فاعل بلغ.
(ثم أرسلني) أي أطلقني.
(فقال: اقرأ.
قلت) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي فقلت: (ما أنا بقارىء فأخذني فغطني
الثانية حتى بلغ مني الجهد) بالفتح والنصب وبالضم والرفع كسابقه.
(ثم أرسلني فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة) وهذا الغط ليفرّغه عن النظر إلى أمور الدنيا ويقبل بكنيته إلى ما يلقى إليه.
وكرره للمبالغة واستدل به على أن المؤدب لا يضرب صبيًّا أكثر من ثلاث ضربات.
وقيل: الغطة الأولى ليتخلى عن الدنيا، والثانية ليتفرغ لما يوحى إليه، والثالثة للمؤانسة، ولا يذكر الجهد هنا، نعم هو ثابت عنده في التفسير -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- وعدّ بعضهم هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، إذ لم يناقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي إليه مثله.
(ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق).
قال الطيبي: هذا أمر بإيجاد القراءة مطلقًا، وهو لا يختص بمقروء دون مقروء، فقوله: باسم ربك حال.
أي اقرأ مفتتحًا باسم ربك، أي قل بسم الله الرحمن الرحيم.
وهذا يدل على أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة.
وقوله: ربك الذي خلق، وصف مناسب مُشعِر بعلية الحكم بالقراءة.
والإطلاق في قوله خلق أوّلاً على منوال يعطي ويمنع، وجعله توطئة لقوله: ({ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} ) الزائد في الكرم على كل كريم، وفيه دليل للجمهور أنه أوّل ما نزل.

وروى الحافظ أبو عمرو الداني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أوّل شيء نزل من القرآن خمس آيات إلى { مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وفي المرشد أوّل ما نزل من القرآن هذه السورة في نمط، فلما بلغ جبريل هذا الموضع { مَا لَمْ يَعْلَمْ} طوى النمط، ومن ثم قال القرّاء: إنه وقف تام.
وقال: من علق، فجمع ولم يقل من علقة، لأن الإنسان في معنى الجمع.
وخص الإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه.

(فرجع بها) أي بالآيات (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إلى أهله حال كونه (يرجف) بضم الجيم يخفق ويضطرب، (فؤاده) قلبه أو باطنه أو غشاؤه لما فجأه من الأمر المخالف للعادة والمأَلوف، فنفر طبعه البشري وهاله ذلك ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة لأن النبوّة لا تزيك طباع البشرية كلها (فدخل) عليه الصلاة والسلام (على خديجة بنت خويلد) أم المؤمنين (رضي الله عنها) التي ألف تأنيسها له، فأعلمها بما وقع له (فقال) عليه الصلاة والسلام: (زمّلوني زمّلوني) بكسر الميم مع التكرار مرتين، من التزميل وهو التلفيف.
وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفف، (فزملوه) بفتح الميم (حتى ذهب عنه الروع) بفتح الراء أي الفزع، (فقال) عليه الصلاة والسلام (لخديجة) رضي الله عنها (وأخبرها الخبر) جملة حالية (لقد) أي والله لقد (خشيت على نفسي) الموت من شدة الرعب، أو المرض، كما جزم به في بهجة النفوس أو أني لا أطيق حمل أعباء الوحي لما لقيته أوّلاً عند لقاء الملك، وليس معناه الشك في أن ما أتى من الله وأكد باللاء وقد تنبيهًا على تمكن الخشية من قلبه المقدس وخوفه على نفسه الشريفة.
(فقالت) له عليه الصلاة والسلام (خديجة) رضي الله عنها، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي قالت بإسقاط الفاء (كلا) نفي وإبعاد، أي لا تقل ذلك أو لا خوف عليك، (والله ما يخزيك الله أبدًا) بضم المثناة التحتية

وبالخاء المعجمة الساكنة والزاي المكسورة وبالمثناة التحتية الساكنة من الخزي، أي ما يفضحك الله.

ولأبي ذر عن الكشميهني ما يحزنك الله بفتح أوّله وبالحاء المهملة الساكنة والزاي المضمومة أو بضم أوّله مع كسر الزاي وبالنون من الحزن، يقال حزنه وأحزنه.
(إنك) بكسر الهمزة لوقوعها في الابتداء، قال العلاّمة البدر الدماميني: وفصلت هذه الجملة عن الأولى لكونها جوابًا عن سؤال اقتضته، وهو سؤال عن سبب خاص، فحسن التأكيد.
وذلك أنها لما أثبتت القول بانتفاء الخزي عنه وأقسمت عليه انطوى ذلك على اعتقادها أن ذلك لسبب عظيم، فيقدر السؤال عن خصوصه حتى كأنه قيل: هل سبب ذلك هو الاتّصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف كما يشير إليه كلامك، قالت: إنك (لتصل الرحم) أي القرابة، (وتحمل الكل) بفتح الكاف وتشديد اللام، وهو الذي لا يستقل بأمره، أو الثقل بكسر المثلثة وإسكان القاف، (وتكسب المعدوم) بفتح المثناة الفوقية، أي تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك.
وكسب يتعدى بنفسه إلى واحد نحو كسبت المال، وإلى اثنين نحو كسبت غيري المال وهذا منه.
ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني وتكسب بضم أوّله من أكسب، أي تكسب غيرك المال المعدوم أي تتبرع به له، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، أو تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق، أو تكسب المال وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله ثم تجود به وتنفقه في وجوه المكارم.
والرواية الأولى أصح كما قاله عياض، والرواية الثانية قال الخطابي: الصواب العدم بلا واو أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب.


وأجيب بأنه لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، وفي تهذيب الأزهري عن ابن الأعرابي رجل عديم لا عقل له، ومعدوم لا مال له، قال في المصابيح: "كأنهم نزلوا وجود من لا مال له منزلة العدم".
(وتقري الضيف) بفتح أوّله بلا همز ثلاثيًا قال الآبي وسمع بضمها رباعيًّا، أي تهيىء له طعامه ونزله.
(وتعين على نوائب الحق) أي حوادثه، وإنما قالت نوائب الحق لأنها تكون في الحق والباطل.
قال لبيد:
نوائب من خير وشر كلاهما ... فلا الخير ممدود ولا الشرّ لازب
ولذلك أضافتها إلى الحق، وفيه إشارة إلى فضل خديجة وجزالة رأيها، وهذه الخصلة جامعة لأفراد ما سبق وغيره، وإنما أجابته بكلام فيه قسم وتأكيد بأن.
واللام، لتنزيل حيرته ودهشته واستدلت على ما أقسمت عليه بأمر استقرائي جامع لأصول مكارم الأخلاق.
وفيه دليل على أن من طبع على أفعال الخير لا يصيبه ضير.
(فانطلقت) أي مضت (به خديجة) رضي الله عنها مصاحبة له لأنها تلزم الفعل اللازم المعدى بالباء بخلاف المعدى بالهمزة كأذهبته، (حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة) بنصب ابن الأخير بدلاً من ورقة أو صفة، ولا يجوز جره لأنه يصير صفة لعبد العزى وليس كذلك، ويكتب بالألف ولا تحذف لأنه لم يقع بين علمين وراء ورقة مفتوحة، وتجتمع معه خديجة في أسد لأنها بنت خويلد بن أسد.
(وكان) ورقة (امرأً قد) ترك عبادة الأوثان و (تنصَّر)، وللأربعة وكان امرأ تنصر، (في الجاهلية) بإسقاط قد، وذلك أنه خرج

هو ويزيد بن عمرو بن نفيل لما كرها طريق الجاهلية إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأعجب ورقة النصرانية للقيه من لم يبدل شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، (وكان) ورقة أيضًا (يكتب الكتاب العبراني) أي الكتابة العبرانية، وفي مسلم كالبخاري في الرؤيا الكتاب العربي، وصححه الزركشي باتفاقهما، (فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب) أي الذي شاء الله كتابته، فحذف العائد والعبرانية بكسر العين فيها نسبة إلى العبر بكسر العين وإسكان الموحدة، زيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس.
قيل سميت بذلك لأن الخليل عليه السلام تكلم بها لما عبر الفرات فارًّا من نمروذ، وقيل: إن التوراة عبرانية والإنجيل سرياني، وعن سفيان ما نزل من السماء وحي إلا بالعربية، وكانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تترجمه لقومها، والباء في بالعبرانية تتعلق بقوله فيكتب، أي يكتب باللغة العبرانية من الإنجيل.
وذلك لتمكنه في دين النصارى ومعرفته بكتابهم.

(وكان) ورقة (شيخًا كبيرًا) حال كونه (قد عمي فقالت له خديجة) رضي الله تعالى عنها: (يا ابن عمّ اسمع) بهمرّة وصل (من ابن أخيك) تعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو قالته على سبيل الاحترام، (فقال له) عليه السلام (ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خبر ما) وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني بخبر ما (رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس) بالنون والسين المهملة وهو صاحب السرّ كما عند المؤلف في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال ابن دريد: هو صاحب سرّ الوحي والمراد به جبريل عليه الصلاة والسلام، وأهل الكتاب يسمونه الناموس الأكبر (الذي نزل الله على موسى)، زاد الأصيلي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونزل بحذف الهمزة يستعمل فيما نزل نجومًا، وللكشميهني أنزل الله ويستعمل فيما نزل جملة، وفي التفسير أنزل مبنيًّا للمفعول.


فإن قلت: لم قال موسى ولم يقل عيسى مع كونه أي ورقة نصرانيًا؟ أجيب بأن كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام وكذلك كتاب نبينا عليه الصلاة والسلام بخلاف عيسى، فإن كتابه أمثال ومواعظ أو قاله تحقيقًا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه عند أهل الكتابين بخلاف عيسى، فإن كثيرًا من اليهود ينكرون نبوّته، وفي رواية الزبير بن بكار بلفظ عيسى، (يا ليتني فيها) أي في مدة النبوة أو الدعوة، وجعل أبو البقاء المنادى محذوفًا أي يا محمد، وتعقب بأن قائل ليتني قد يكون وحده، فلا يكون معه منادى كقول مريم " { يَا لَيْتَنِي مِتُّ} [مريم: 3] ، وأجيب بأنه قد يجوز أن يجرد من نفسه نفسًا فيخاطبها، كأن مريم قالت: يا نفسي ليتني متُّ، وتقديره هنا ليتني أكون في أيام الدعوة، (جذعًا) بفتح الجيم والمعجمة وبالنصب خبر كان مقدرة عند الكوفيين، أو على الحال من الضمير المستكن في خبر ليت، وخبر ليت قوله فيها أي ليتني كائن فيها حال الشبيبة والقوة لأنصرك، أو على أن ليت تنصب الجزأين، أو بفعل محذوف أي جعلت فيها جزعًا.
وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي جذع بالرفع خبر ليت، وحينئذ فالجار يتعلق بما فيه من معنى الفعل كأنه قال: يا ليتني شاب فيها، والرواية الأولى أكثر وأشهر، والجذع هو الصغير من البهائم، واستعير للإنسان، أي يا ليتني كنت شابًّا عند ظهور نبوّتك حتى أقوى على المبالغة في نصرتك.
(ليتني) وللأصيلى يا

ليتني (أكون حيًّا إذ يخرجك قومك) من مكة، واستعمل إذ في المستقبل كإذا على حد: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39] .
قال ابن ملك: وهو صحيح، وتعقبه البلقيني بأن النحاة منعوا وروده وأوّلوا ما ظاهره ذلك، فقالوا في مثل هذا استعمل الصيغة الدالّة على المضي لتحقق وقوعه، فأنزلوه منزلته.
ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير حين يخرجك قومك وهو على سبيل المجاز كالأوّل، وعورض بأن المؤولين ليسوا النحويين بل البيانيون، وبأنه كيف يمنع وروده مع وجوده في أفصح الكلام؟ وأجيب بأنه لعله أراد بمنع الورود ورودًا محمولاً على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال.

فإن قلت: كيف تمنى ورقة مستحيلاً وهو عود الشباب؟ أجيب: بأنه يسوغ تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، أو بأن التمني ليس مقصودًا على بابه، بل المراد به التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوّة تصديقه فيما يجيء به، أو قاله على سبيل التحسّر لتحقّقه عدم عود الشباب.
(فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أو) بفتح الواو (مخرجيَّ هم) بتشديد الياء مفتوحة، لأن أصله مخرجوني جمع مخرج من الإخراج فحذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، فاجتمعت ياء المتكلم وواو علامة الرفع وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت، ثم أبدلت الضمة التي كانت سابقة الواو كسرة وفتحت ياء مخرجيّ تخفيفًا، وهم مبتدأ خبره مخرجيّ مقدمًا، ولا يجوز العكس لأنه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة، لأن إضافة مخرجيّ غير محضة لأنها لفظية لأنه اسم فاعل بمعنى الاستقبال، والهمزة للاستفهام الإنكاري لأنه استبعد إخراجه عن الوطن لا سيما حرم الله وبلد أبيه إسماعيل من غير سبب يقتضي ذلك، فإنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان جامعًا لأنواع المحاسن المقتضية لإكرامه وإنزاله منهم محل الروح من الجسد.

فإن قلت: الأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف نحو: { فَأَنَّى تُؤْفَكُون} [الأنعام: 95] و { فَأَيْنَ تَذْهَبُون} [التكوير: 6] وحينئذ ينبغي أن يقول هنا وأمخرجيّ، لأن العاطف لا يتقدم عليه جزء مما عطف؟ أجيب: بأن الهمزة خصّت بتقديمها على العاطف تنبيهًا على أصالتها في أدوات الاستفهام وهو له الصدر نحو: أو لم ينظروا، أفلم يسيروا، هذا مذهب سيبويه والجمهور.
وقال جار الله وجماعة: إن الهمزة في محلها الأصلي وإن العطف على جملة مقدّرة بينها وبين العاطف والتقدير أمعاديّ هم ومخرجيّ هم؟ وإذا دعت الحاجة لمثل هذا التقدير فلا يستنكر.

فإن قلت: كيف عطف قوله أو مخرجيّ هم وهو إنشاء على قول ورقة: إذ يخرجك قومك وهو خبر، وعطف الإنشاء على الخبر لا يجوز، وأيضًا فهو عطف جملة على جملة والمتكلم مختلف؟ أجيب بأن القول بأن عطف الإنشاء على الخبر لا يجوز إنما هو رأي أهل البيان، والأصح عند أهل العربية جوازه، وأما أهل البيان فيقدرون في مثل ذلك جملة بين الهمزة والواو وهي المعطوف عليها، فالتركيب سائغ عند الفريقين، أما المجوزون لعطف الإنشاء على الخبر فواضح، وأما المانعون فعلى التقدير المذكور.
وقال بعضهم: يصح أن تكون جملة الاستفهام معطوفة على جملة التمني في قوله

ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، بل هذا هو الظاهر، فيكون المعطوف عليه أول الجملة لا آخرها، الذي هو ظرف متعلق بها، والتمني إنشاء فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء.
وأما العطف على جملة في كلام الغير فسائغ معروف في القرآن العظيم والكلام الفصيح.
قال تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 14] .

(قال) ورقة (نعم لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به) من الوحي (إلا عُودي) لأن الإخراج عن المألوف موجب لذلك، (وإن يدركني) بالجزم بأن الشرطية (يومك) بالرفع فاعل يدركني، أي يوم انتشار نبوّتك، (أنصرك) بالجزم جواب الشرط (نصرًا) بالنصب على المصدرية (مؤزرًا) بضم الميم وفتح الزاي المشددة آخره راء مهملة مهموزًا، أي قويًّا بليغًا وهو صفة لنصرًا، ولما كان ورقة سابقًا واليوم متأخرًا أسند الإدراك لليوم، لأن المتأخر هو الذي يدرك السابق، وهذا ظاهره أنه أقرّ بنبوّته ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام، فيكون مثل بحيرا.
وفي إثبات الصحبة له نظر، لكن في زيادات المغازي من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحق، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل، الحديث.
وفي آخره فلما توفي قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدّقني.

وأخرجه البيهقي من هذا الوجه في الدلائل، وقال: إنه منقطع، ومال البلقيني إلى أنه يكون بذلك أوّل من أسلم من الرجال، وبه قال العراقي في نكته على ابن الصلاح وذكره ابن منده في الصحابة.

(ثم لم ينشب) بفتح المثناة التحتية والمعجمة أي لم يلبث (ورقة) بالرفع فاعل ينشب (أن توفي) بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهو بدل اشتمال من ورقة أي لم تتأخر وفاته عن هذه القصة، واختلف في وقت موت ورقة فقال الواقدي: إنه خرج إلى الشام فلما بلغه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بالقتال بعد الهجرة أقبل يريده حتى إذا كان ببلاد لخم وجذام قتلوه وأخذوا ما معه وهذا غلط بين، فإنه مات بمكة بعد المبعث بقليل جدًّا ودفن بمكة كما نقله البلاذري وغيره، ويعضد قوله هنا وكذا في مسلم، ثم لم ينشب ورقة أن توفي.
(وفتر الوحي) أي احتبس ثلاث سنين كما في تاريخ أحمد، وجزم به ابن إسحق، وفي بعض الأحاديث أنه قدر سنتين ونصف، وزاد معمر عن الزهري في التعبير حتى حزن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك من جهة الإسناد والمتن والمعنى في سورة اقرأ من التفسير.

فإن قلت: إن قوله ثم لم ينشب ورقة أن توفي معارض بما عند ابن إسحق في السبرة أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب لما أسلم، فإنه يقتضي تأخره إلى زمن الدعوة ودخول بعض الناس في الإسلام.
أجيب: بأنّا لا نسلم المعارضة لأن شرطها المساواة.
وما روي في السيرة لا يقاوم ما في الصحيح، ولئن سلمنا فلعل راوي ما في الصحيح لم يحفظ لورقة بعد ذلك شيئًا.
ومن ثم جعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى ما علمه منه لا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وحينئذ فتكون الواو في قوله: وفتر الوحي ليست للترتيب.
ورواة هذا الحديث ما بين مصريّ ومدنيّ، وفيه تابعيّ عن

تابعي، وأخرجه المؤلف في التفسير والتعبير والإيمان، ومسلم في الإيمان، والترمذي والنسائي في التفسير.




[ قــ :4 ... غــ : 4 ]
- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ - وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ - فِي حَدِيثِهِ «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ -إِلَى قَوْلِهِ- وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ».
تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ.
وَتَابَعَهُ هِلاَلُ بْنُ رَدَّادٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
.

     وَقَالَ  يُونُسُ وَمَعْمَرٌ «بَوَادِرُهُ».
[الحديث 4 - أطرافه في: 338، 49، 493، 494، 495، 496، 4954، 614] .


( قال ابن شهاب) الزهري أخبرني عروة بكذا، ( وأخبرني) بالإفراد ( أبو سلمة) بفتحتين واسمه عبد الله ( بن عبد الرحمن) بن عوف المتوفى بالمدينة سنة أربع وتسعين، وأتى المؤلف بواو العطف لغرض بيان الإخبار عن عروة وأبي سلمة، وإلاّ فمقول القول لا يكون بالواو، وحينئذ فليس هذا من التعاليق، ولو كانت صورته صورته خلافًا للكرماني حيث أثبته منها وقد خطأه في الفتح ( أن جابر بن عبد الله) بن عمرو ( الأنصاري) الخزرجيّ المتوفى بعد أن عَمِيَ سنة ثمان أو أربع أو ثلاث أو تسع وسبعين وهو آخر الصحابة موتًا بالمدينة، وله في البخاريّ تسعون حديثًا، وهمزة أن مفتوحة لأنها في محل نصب على الفعولية.
( قال وهو يحدّث عن فترة الوحي) أي في حال التحديث عن احتباس الوحي عن النزول ( فقال) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( في حديثه) .

( بينا) أصله بين فأشبعت فتحة النون فصارت ألفًا وهي ظرف زمان مكفوف بالألف عن الإضافة إلى المفرد، والتقدير بحسب الأصل بيان أوقات ( أنا أمشي) وجواب بينا قوله: ( إذ سمعت صوتًا من السماء) أي في أثناء أوقات المشي فاجأني السماع، ( فرفعت بصري فإذا الملك) جبريل ( الذي جاءني بحراء جالس) خبر عن الملك الذي هو مبتدأ، والذي جاءني بحراء صفته، والفاء في فإذا فجائية نحو خرجت فإذا الأسد بالباب، ويجوز تصب جالس على الحال، وحينئذ يكون خبرًا لمبتدأ محذوفًا، أي فإذا الملك الذي جاءني بحراء شاهد أو حاضر حال كونه جالسًا ( على كرسيّ) بضم الكاف وقد تكسر، ( بين السماء والأرض) ظرف في محل جر صفة لكرسي ( فرعبت منه) بضم الراء وكسر العين المهملة مبني لما لم يسمّ فاعله، وللأصيلي فرعبت بفتح الراء وضم العين أي فزعت، ( فرجعت) إلى أهلي بسبب الرعب، ( فقلت) لهم: ( زملوني زملوني) كذا لأبوي ذر والوقت بالتكرار مرتين ولكريمة مرة واحدة ولسلم كالمؤلف في التفسير من رواية يونس دثروني، قال الزركشي: وهو أنسب لقوله: ( فأنزل الله تعالى) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي عز وجل بدل قوله تعالى: ( { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ) إيناسًا له وتلطفًا، والتدثير والتزميل بمعنى واحد، والمعنى يا أيها المدثر بثيابه، وعن عكرمة

أي المدثر بالنبوّة وأعبائها.
( { قُمْ فَأَنْذِرْ} ) حذر من العذاب من لم يؤمن بك، وفيه دلالة على أنه أمر بالإنذار عقب نزول الوحي للإتيان بفاء التعقيب، واقتصر على الإنذار لأن التبشير إنما يكون لمن دخل في الإسلام ولم يكن إذ ذاك من دخل فيه.
( إلى قوله: والرجز) أي الأوثان ( { فَاهْجُرْ} ) زاد الأربعة الآية.
( فحمي) بفتح الحاء المهملة وكسر الميم أي فبعد نزول هذه الآية كثر ( الوحي) أي نزوله ( وتتابع) ولأبي ذر عن الكشميهني وتواتر بالمثناتين بدل وتتابع، وهما بمعنى.
وإنما لم يكتف بحمي لأنه لا يستلزم الاستمرار والدوام والتواتر.

ورواة هذا الحديث كلهم مدنيون، وأخرجه في الأدب والتفسير ومسلم أيضًا فيه.

( تابعه) أي تابع يحيى بن بكير شيخ المؤلف في رواية هذا الحديث عن الليث بن سعد، ( عبد الله بن يوسف) التنيسي، وحديثه عند المؤلف في التفسير والأدب.
( و) كذا تابعه ( أبو صالح) كلاهما عن الليث، وأبو صالح هو عبد الله كاتب الليث أو هو عبد الغفار بن داود البكري الحرّاني الإفريقي المولد المتوفى بمصر سنة أربع وعشرين ومائتين وكلاهما روى عنه المؤلف، ووهم في فتح الباري القائل بالثاني، وقد أكثر المؤلف عن الأوّل من المعلقات، وروايته لهذا الحديث عن الليث أخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه مقرونًا بيحيى بن بكير، فيكون رواه عن الليث ثلاثة: يحيى، وعبد الله بن يوسف، وأبو صالح، ( وتابعه) أي وتابع عقيل بن خالد شيخ الليث في هذا الحديث أيضًا ( هلال بن رداد) بدالين مهملتين، الأولى مشدّدة الطائيّ وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الوضع، ( عن الزهري) محمد بن مسلم، وحديثه في الزهريات للذهلي، ( وقال يونس) بن يزيد بن مشكان الأيليّ بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية التابعي المتوفى بمصر سنة تسع وخمسين ومائة مما وصله في التفسير، ( ومعمر) بفتح اليمين وسكون العين أبو عروة بن أبي عمرو بن راشد الأزديّ الحرّانيّ مولاهم عالم اليمن المتوفى سنة أربع أو ثلاث أو اثنتين وخمسين ومائة فيما وصله المؤلف في تعبير الرؤيا في روايتهما عن الزهري ( بوادره) كذا في رواية الأصيلي وأبي الوقت بفتح الموحدة جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الإنسان، فوافقا عقيلاً عليه إلا أنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره، وهما مستويان في أصل المعنى لأن كلاًّ منهما دالّ على الفزع.
ولأبي ذر وكريمة عن الكشميهني وأبي الوقت في نسخة وابن عساكر، وقال يونس ومعمر تواتر، وهذا أوّل موضع جاء فيه ذكر المتابعة، وهي أن يختبر الحديث وينظر من الدواوين المبوّبة والمسندة وغيرهما كالمعاجم والمشيخات.
والفوائد هل شارك راويه الذي يظن تفرده به راوٍ آخر فيما رواه عن شيخه، فإن شاركه راوٍ معتبر فهي متابعة حقيقية وتسمى المتابعة التامة إن اتفقا في رجال السند كلهم، كمتابعة عبد الله وأبي صالح إذا وافقا ابن بكير في شيخه الليث إلى آخره.
وإن شورك شيخه في روايته له عن شيخه فما فوقه إلى آخر السند واحدًا واحدًا حتى الصحابي فتابع أيضًا لكنه في ذلك قاصر عن مشاركته هو كمتابعة هلال إذ وافقه في شيخ شيخه، وكلما بعد فيه المتابع كان أنقص، وفائدتها التقوية ولا اقتصار فيها على اللفظ، بل لو جاءت بالمعنى كفى، كقول يونس ومعمر

في روايتهما عن الزهري بوادره خلافًا لظاهر ألفية العراقي في التخصيص باللفظ.
وحكي عن قوم كالبيهقي نعم هي مخصوصة بكونها من رواية ذلك الصحابي، وقد يسمى كل واحد من المتابع لشيخه فمن فوقه شاهدًا ولكن تسميته تابعًا أكثر.


باب

[ قــ :5 ... غــ : 5 ]
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ - فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَرِّكُهُمَا.
.

     وَقَالَ  سَعِيدٌ أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا -فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ جَمْعُهُ لَهُ فِي صَدْرِكَ، وَتَقْرَأَهُ { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ.
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا قَرَأَ.
[الحديث 5 - أطرافه في: 497، 498، 499، 5044، 754] .


وبه قال: ( حدّثنا) ولأبي الوقت أخبرنا ( موسى) أبو سلمة ( بن إسماعيل) المنقري بكسر الميم وإسكان النون وفتح القاف نسبة إلى منقر بن عبيد الحافظ المتوفى بالبصرة في رجب سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ( قال: حدّثنا أبو عوانة) بفتح العين المهملة والنون الوضاح بن عبد الله اليشكري بضم الكاف المتوفى سنة ست وتسعين ومائة، ( قال: حدّثنا موسى بن أبي عائشة) أبو الحسن الكوفي الهمداني بالميم الساكنة والدال المهملة، وأبو عائشة لا يعرف اسمه، ( قال: حدّثنا سعيد بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية ابن هشام الكوفيّ الأسديّ قتله الحجاج صبرًا في شعبان سنة ست وتسعين ولم يقتل بعده أحدًا، بل لم يعش بعده إلا أيامًا ( عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما عبد الله الحبر ترجمان القرآن أبي الخلفاء وأحد العبادلة الأربعة المتوفى بعد أن عمي بالطائف سنة ثمان وستين، وهو ابن إحدى وسبعين سنة، على الصحيح في أيام ابن الزبير، وله في البخاري مائتا حديث وسبعة عشر حديثًا، ( في قوله تعالى) : وللأصيلي عز وجل ( { لا تحرّك به} ) أي القرآن ( { لسانك لتعجل به} ) ( قال) :
( كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعالج من التنزيل) القرآنيّ لثقله عليه ( شدة) بالنصب.
مفعول يعالج، والجملة في محل نصب خبر كان.
( وكان) عليه الصلاة والسلام ( مما) أي ربما كان قاله في المصابيح ( يحرّك) زاد في بعض الأصول به ( شفتيه) بالتثنية، أي كثيرًا ما كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعل ذلك.
قاله القاضي عياض كالسرقسطي، وكان يكثر من ذلك حتى لا ينسى أو لحلاوة الوحي في لسانه.
وقاله الكرماني: أي كان العلاج ناشئًا من تحريك الشفتين أي مبدأ العلاج منه، أو ما بمعنى من الموصولة،

وأطلقت على من يعقل مجازًا أي وكان ممن يحرك شفتيه، وتعقب بأن الشدّة حاصلة قبل التحريك.

وأجيب بأن الشدة وإن كانت حاصلة له قبل التحريك إلا أنها لم تظهر إلا بتحرك الشفتين، إذ هي أمر باطنيّ لا يدركه الرائي إلا به قال سعيد بن جبير: ( فقال ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما: ( فأنا أحرّكهما) أي شفتيّ ( لكم) كذا للأربعة وفي بعض النسخ كما في اليونينية.

( كما كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحركهما) لم يقل كما قال في الآتي كما رأيت ابن عباس لأن ابن عباس لم يدرك ذلك.
( وقال سعيد) هو ابن جبير ( أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرّك شفتيه) ، وإنما قال ابن جبير كما رأيت ابن عباس لأنه رأى ذلك منه من غير نزاع بخلاف ابن عباس، فإنه لم ير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تلك الحالة لسبق نزول آية القيامة على مولده، إذ كان قبل الهجرة بثلاث سنين ونزول الآية في بدء الوحي كما هو ظاهر صنيع المؤلف، حيث أورده هنا، ويحتمل أن يكون أخبره أحد من الصحابة أنه رآه عليه الصلاة والسلام يحركهما، أو أنه عليه الصلاة والسلام أخبر ابن عباس بذلك بعد، فرآه ابن عباس حينئذ، نعم ورد ذلك صريحًا في مسند أبي داود الطيالسي، ولفظه قال ابن عباس: فأنا أحرّك لك شفتيّ كما رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحركهما، وجملة فقال ابن عباس إلى قوله فأنزل الله اعتراض بالفاء وفائدتها زيادة البيان بالوصف على القول.

وهذا الحديث يسمى المسلسل بتحريك الشفة لكنه لم يتصل تسلسله، ثم عطف على قوله كان يعالج قوله: ( فأنزل الله تعالى) ، ولأبوي ذر والوقت: عز وجل ( لا تحرك) يا محمد ( به) أي بالقرآن ( لسانك) قبل أن يتم وحيه، ( لتعجل به) لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلت منك.
وعند ابن جرير من رواية الشعبي عجل به من حبه إياه، ولا تنافي بين محبته إياه والشّدة التي تلحقه في ذلك، ( إن علينا جمعه وقرآنه) أي قراءته فهو مصدر مضاف للمفعول والفاعل محذوف والأصل وقراءتك إياه.

وقال الحافظ ابن حجر: ولا منافاة بين قوله يحرك شفتيه وبين قوله في الآية لا تحرك به لسانك، لأن تحريك الشفتين بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل في النطق أو الأصل حركة الفم، وكلّ من الحركتين ناشىء عن ذلك وهو مأخوذ من كلام الكرماني، وتعقبه العيني بأن الملازمة بين التحريكين ممنوعة على ما لا يخفى، وتحريك الفم مستبعد بل مستحيل لأن الفم اسم لما يشتمل عليه الشفتان، وعند الإطلاق لا يشتمل على الشفتين ولا على اللسان لا لغة ولا عرفًا بل هو من باب الاكتفاء والتقدير: فكان مما يحرك به شفتيه ولسانه على حد { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أي والبرد، وفي تفسير ابن جرير الطبري كالمؤلف في تفسير سورة القيامة من طريق جرير عن ابن أبي عائشة: ويحرّك به لسانه وشفتيه فجمع بينهما.


( قال) ابن عباس في تفسير جمعه أي ( جمعه) بفتح الميم والعين ( لك صدرك) بالرفع على الفاعلية، كذا في أكثر الروايات وهي في اليونينية للأربعة أي جمعه الله في صدرك.
وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز على حد أنبت الربيع البقل أي أنبت الله في الربيع البقل واللام للتعليل أو

للتبيين، ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر جمعه لك صدرك بسكون الميم وضم العين مصدرًا ورفع راء صدرك فاعل به.
ولكريمة والحموي مما ليس في اليونينية جمعه لك في صدرك بفتح الجيم وإسكان الميم وزيادة في، وهو يوضح الأوّل.
وفي رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر أيضًا مما في الفرع كأصله جمعه له بإسكان الميم، أي جمعه تعالى للقرآن صدرك.
وللأصيلي وحده جمعه له في صدر بزيادة في ( و) قال ابن عباس أيضًا في تفسير قرآنه أي ( تقرأه) بفتح الهمزة في اليونينية.

وقال البيضاوي: إثبات قرآنه في لسانك وهو تعليل للنهي، ( فإذا قرأناه) بلسان جبريل عليك ( فاتبع قرآنه.
قال)
ابن عباس في تفسيره فاتبع أي ( فاستمع له) .
ولأبي الوقت فاتبع قرآنه فاستمع له من باب الافتعال المقتضي للسعي في ذلك، أي لا تكون قراءتك مع قراءته بل تابعة لها متأخرة عنها.
( وأنصت) بهمزة القطع مفتوحة من أنصت ينصت إنصاتًا، وقد تكسر من نصت ينصت نصتًا إذا سكت.
واستمع للحديث، أي تكون حال قراءته ساكتًا.
والاستماع أخص من الإنصات لأن الاستماع الإصغاء والإنصات كما مرّ السكوت، ولا يلزم من السكوت الإصغاء.
( ثم إن علينا بيانه) فسره ابن عباس بقوله: ( ثم إن علينا أن تقرأه) .
وفسره غيره ببيان ما أشكل عليك من معانيه.

قال: وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، أي لكن لا عن وقت الحاجة اهـ.
وهو الصحيح عند الأصوليين ونص عليه الشافعي لما تقتضيه ثم من التراخي، وأوّل من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيب وتبعوه، وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على أن المراد استمرار حفظه له بظهوره على لسانه فلا.
قال الآمدي: يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل.
يقال: بان الكوكب إذا ظهر.
قال: ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه ولا اختصاص لبعضه بالأمر المذكور دون بعض.
وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يراد البيان التفصيلي ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي فلا يتم الاستدلال.
وتعقب باحتمال إرادة المعنيين الإظهار والتفصيل وغير ذلك لأن قوله بيانه جنس مضاف، فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة طه: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُه} [طه: 114] فنهاه عن الاستعجال في تلقي الوحي من الملك ومساوقته في القرآن حتى يتم وحيه.
( فكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك إذا أتاه جبريل) ملك الوحي المفضل به على سائر الملائكة ( استمع فإذا انطلق جبريل) عليه السلام ( قرأه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما قرأ) ولغير أبي ذر والأصيلي وابن عساكر قرأه بضمير المفعول أي القرآن، ولأبي ذر عن الكشميهني كما كان قرأ، والحاصل أن الحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاحه.

ورواة هذا الحديث ما بين مكي وكوفيّ وبصريّ وواسطيّ وفيه تابعي عن تابعي وهما موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير، وأخرجه المؤلف في التفسير وفضائل القرآن ومسلم في الصلاة والترمذي وقال: حسن صحيح.


ولما كان ابتداء نزول القرآن عليه عليه الصلاة والسلام في رمضان على القول به كنزوله إلى السماء جملة واحدة فيه شرع المؤلف يذكر حديث تعاهد جبريل له عليهما السلام في رمضان في كل سنة فقال:

باب

[ قــ :6 ... غــ : 6 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قال: وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ.
فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.
[الحديث 6 - أطرافه في: 190، 30، 3554، 4997] .


( حدّثنا عبدان) بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح المهملة هو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة العتكي بالمهملة والمثناة الفوقية المفتوحتين المروزيّ المتوفى سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومائتين عن ست وسبعين سنة، ( قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم المروزي الإمام المتفق على ثقته وجلالته من تابعي التابعين، وكان والده من الترك مولى لرجل من همدان المتوفى سنة إحدى وثمانين ومائة، ( قال: أخبرنا يونس) بن يزيد بن مشكان الأيليّ ( عن الزهريّ) محمد بن مسلم بن شهاب، ( قال) أي البخاري وفي الفرع كأصله بدل قال: ( ح) مهملة مفردة في الخط مقصورة في النطق على ما جرى عليه رسمهم إذا أرادوا الجمع بين إسنادين فأكثر عند الانتقال من سند لآخر خوف الإلباس، فربما يظن أن السندين واحد، ومذهب الجمهور أنها مأخوذة من التحويل.
وقال عبد القادر الرهاوي وتبعه الدمياطي من الحائل الذي يحجز بين الشيئين، وقال ينطق به ومنعه الأوّل.
وعن بعض المغاربة يقول بدلها الحديث وهو يشير إلى أنها رمز عنه، وعن خط الصابوني وأبي مسلم الليثي وأبي سعيد الخليلي صح لئلا يتوهم أن حديث هذا الإسناد سقط، أو خوف تركيب الإسناد الثاني مع الأوّل فيجعلا إسنادًا واحدًا وزعم بعضهم أنها معجمة أي إسناد آخر فوهم.

( وحدّثنا بشر بن محمد) بكسر الموحدة وسكون المعجمة المروزي السختياني وهو مما انفرد البخاري بالرواية عنه عن سائر الكتب الستة وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين، ( قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك ( قال: أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه) ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر نحوه عن الزهري، يعني أن عبد الله بن المبارك حدّث به عبدان عن يونس وحده، وحدّث به بشر بن محمد عن يونس ومعمر معًا، أما باللفظ فعن يونس وأما بالعنى فعن معمر.
ومن ثم زاد فيه

لفظة نحوه، ( قال) أي الزهري: ( أخبرني) بل بالإفراد، ولأبي ذر أخبرنا ( عبيد الله) بالتصغير ( ابن عبد الله) بن عتبة بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية وفتح الموحدة ابن مسعود الإمام الجليل أحد الفقهاء السبعة التابعي المتوفى بعد ذهاب بصره سنة تسع أو ثمان أو خمس أو أربع وتسعين، ( عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه ( قال) :
( كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجود الناس) بنصب أجود خبر كان أي أجودهم على الإطلاق، ( وكان أجود ما يكون) حال كونه ( في رمضان) برفع أجود اسم كان، وخبرها محذوف وجوبًا على حد قولك أخطب ما يكون الأمير قائمًا وما مصدرية أي أجود أكوان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي رمضان سدّ مسد الخبر أي حاصلاً فيه، أو على أنه مبتدأ مضاف إلى المصدر وهو ما يكون، وما مصدرية وخبره في رمضان تقديره أجود أكوانه عليه الصلاة والسلام حاصل له في رمضان، والجملة كلها خبر كان واسمها ضمير عائد على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وللأصيلي كأبي ذرّ في اليونينية أجود بالنصب خبر كان، وعورض بأنه يلزم منه أن يكون خبرها اسمها، وأجيب بجعل اسم كان ضمير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وما حينئذ مصدرية ظرفية، والتقدير كان عليه الصلاة والسلام متصفًا بالأجودية مدة كونه في رمضان مع أنه أجود الناس مطلقًا، وتعقب بأنه إذا كان فيه ضمير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يصح أن يكون أجود خبرًا لكان، لأنه مضاف إلى الكون ولا يخبر بكون عما ليس بكون، فيجب أن يجعل مبتدأ وخبره في رمضان والجملة خبر كان اهـ فليتأمل.

وقال في المصابيح: ولك مع نصب أجود أن تجعل ما نكرة موصوفة، فيكون في رمضان متعلقًا بكان مع أنها ناقصة بناء على القول بدلالتها على الحدث، وهو صحيح عند جماعة، واسم كان ضمير عائد له عليه الصلاة والسلام أو إلى جوده المفهوم مما سبق، أي وكان عليه الصلاة والسلام أجود شيء يكون، أو وكان جوده في رمضان أجود شيء يكون، فجعل الجود متّصفًا بالأجودية مجازًا كقولهم: شعر شاعر اهـ.


والرفع أكثر وأشهر رواية.
ولأبي ذر فكان أجود بالفاء بدل الواو، وفي هذه الجملة الإشارة إلى أن جوده عليه الصلاة والسلام في رمضان يفوق على جوده في سائر أوقاته.
( حين يلقاه جبريل) عليه السلام، إذ في ملاقاته زيادة ترقيه في المقامات وزيادة اطّلاعه على علوم الله تعالى ولا سيما مع مدارسة القرآن.
( وكان) جبريل ( يلقاه) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وجوّز الكرماني أن يكون الضمير المرفوع للنبي والمنصوب لجبريل، ورجح الأوّل العيني لقرينة قوله حين يلقاه جبريل ( في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن) بالنصب مفعول ثانٍ ليدارسه، على حدّ جاذبته الثوب، والفاء في فيدارسه عاطفة على يلقاه، فبمجموع ما ذكر من رمضاز ومدارسة القرآن وملاقاة جبريل يتضاعف جوده لأن الوقت موسم الخيرات، لأن نعم الله على عباده تربو فيه على غيره، وإنما دارسه بالقرآن لكي يتقرر عنده ويرسخ أتم رسوخ، فلا ينساه.
وكان هذا إنجاز وعده تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام حيث قال له: { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] .
وقال الطيبي: فيه تخصيص بعد تخصيص على سبيل الترقي

فضل أوّلاً جوده مطلقًا على جود الناس كلهم، ثم فضل ثانيًا جود كونه في رمضان على جوده في سائر أوقاته، ثم فضل ثالثًا جوده في ليالي رمضان عند لقاء جبريل على جوده في رمضان مطلقًا، ثم شبّه جوده بالريح فقال: ( فلرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بالرفع مبتدأ خبره قوله ( أجود بالخير من الريح المرسلة) أي المطلقة، إشارة إلى أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح.
وعبر بالرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده عليه الصلاة والسلام كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه، وفيه جواز المبالغة في التشبيه وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليقرب لفهم سامعه، وذلك أنه أثبت له أوّلاً وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح الرسلة، بل جعله أبلغ منها في ذلك لأن الريح قد تسكن.
وفيه استعمال أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي، لأن الجود منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقيقة، ومن الريح مجاز.
فكأنه استعار للريح جودًا باعتبار مجيئها بالخير، فأنزلها منزلة من جاد.
وفي تقديم معمول أجود على المفضل عليه نكتة نطيفة هي أنه لو أخّره لظن تعلقه بالمرسلة.
وهذا وإن كان لا يتغير به المعنى المراد من الوصف بالأجودية إلا أنه تفوت به المبالغة لأن المراد وصفه بزيادة الأجودية على الريح مطلقًا، والفاء في فلرسول الله، وللسببية واللام للابتداء، وزيدت على المبتدأ تأكيدًا أو هي جواب قسم مقدَّر، وحكمة المدارسة ليكون ذلك سنة في عرض القرآن على من هو أحفظ منه، والاجتماع عليه والإكثار منه.
وقال الكرماني: لتجويد لفظه، وقال غيره: تجويد حفظه، وتعقب بأن الحفظ كان حاصلاً له والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس.

وفي هذا الحديث التحديث والإخبار والعنعنة والتحويل وفيه عدد من المراوزة.
وأخرجه المؤلف أيضًا في صفة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفضائل القرآن وبدء الخلق، ومسلم في فضائل النبوّة.

ولما فرغ من بدء الوحي شرع يذكر جملة من أوصاف الموحى إليه فقال مما رويته بالسند السابق:

باب

[ قــ :7 ... غــ : 7 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ -وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّاْمِ- فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا تَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا.
فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ.
ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ.
فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ.

قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.
قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ.
قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟

قُلْتُ: لاَ.
قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ.
قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟.

قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ.
قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟.

قُلْتُ لاَ.
قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟.

قُلْتُ لاَ.
قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ؟.

قُلْتُ لاَ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا.
قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟.

قُلْتُ نَعَمْ.
قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟.

قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ.
قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟.

قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ.
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ،.

قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ.

قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ.
وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ.
فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِيهِ.

ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ.
سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ.
فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .


قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ.
فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإِسْلاَمَ.


وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ -صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ- أُسْقُف عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ.
قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلاَّ الْيَهُودُ فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ.
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ.
فَقَالَ هِرَقْلُ هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ.
ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلاَحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَيَّ.
.

     وَقَالَ  إِنِّي.

قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ.
فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ.
رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
[الحديث 7 - أطرافه في: 51، 681، 804، 941، 978، 3174، 4553، 5980، 660، 7196، 7541] .

( حدّثنا أبو اليمان) بفتح المثناة وتخفيف الميم واسمه ( الحكم بن نافع) بفتح الحاء المهملة والكاف الحمصي البهراني مولى امرأة من بهراء بفتح الموحدة المتوفى سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومائتين، وللأصيلي وكريمة وأبي ذر وابن عساكر في نسخة حدّثنا الحكم بن نافع ( قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة بالحاء المهملة والزاي دينار القرشي الأموي مولاهم أبو بشر المتوفى سنة اثنتين أو ثلاث وستين ومائة، ( عن الزهري) محمد بن مسلم أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( عبيد الله) بالتصغير ( ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن) بفتح الهمزة ( عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما ( أخبره أن) بفتح الهمزة ( أبا سفيان) بتثليث السين يكنى أبا حنظلة واسمه صخر بالهملة ثم المعجمة ( ابن حرب) بالمهملة والراء ثم الموحدة ابن أمية ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة الفتح، وشهد الطائف وحنينًا، وفقئت عينه في الأولى والأخرى يوم اليرموك، وتوفي بالمدينة سنة إحدى أو أربع وثلاثين وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان رضي الله عنهما.

( أخبره) ( أن) أي بأن ( هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء كدمشق، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية، وحكي فيه هرقل بسكون الراء وكسر القاف كخندف والأوّل هو الأشهر والثاني حكاه الجوهري وغيره، واقتصر عليه صاحب الموعب والقزاز ولقبه قيصر، قاله الشافعي وهو أوّل من ضرب الدنانير وملك الروم إحدى وثلاثين سنة وفي ملكه توفي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( أرسل اليه) أي إلى أبي سفيان حال كونه ( في) أي مع ( ركب) جمع راكب كصحب وصاحب، وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها، ( من قريش) صفة لركب وحرف الجر لبيان الجن أو للتبعيض، وكان عدد الركب ثلاثين رجلاً كما عند الحاكم في الإكليل، وعند ابن السكن نحو من عشرين، وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب أن المغيرة بن شعبة منهم، واعترضه الإمام البلقيني بسبق إسلام المغيرة فإنه أسلم عام الخندق فيبعد أن يكون حاضرًا ويسكن مع كونه مسلمًا ( و) الحال أنهم ( كانوا تجارًا) بالضم والتشديد على وزن كفّار وبالكسر والتخفيف على وزن كلاب، وهو الذي في الفرع كأصله جمع تاجر أي متلبسين بصفة التجارة ( بالشام) بالهمز، وقد يترك وقدّ تفتح الشين مع المد وهو متعلق بتجارًا أو بكانوا أو يكون صفة بعد صفة ( في المدة التي كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مادّ) بتشديد الدال من مادد فأدغم الأوّل في الثاني من المثلين وهو مدة صلح الحديبية سنة ست التي مادّ ( فيها أبا سفيان) زاد الأصيلي ابن حرب، ( وكفار قريش) أي مع كفار قريش على وضع الحرب عشر سنين.
وعند أبي النعيم أربع، ورجح الأوّل.
وكفار بالنصب مفعل معه أو عطف على المفعول به وهو أبا سفيان، ( فأتوه) أي أرسل إليه في طلب إتيان الركب، فجاء الرسول فوجدهم بغزة وكانت وجه متجرهم كما في الدلائل لأبي نعيم، فطلب إتيانهم فأتوه ( وهم) بالميم أي هرقل وجماعته، ولأبوي الوقت وذر عن الكشميهني والأصيلي وهو ( بإيلياء) بهمزة مكسورة فمثناتين آخر الحروف أولاهما ساكنة بينهما لام آخره ألف مهموزة بوزن كبرياء، وإيليا بالقصر حكاه البكري، وإلياء بحذف الياء الأولى وسكون اللام.
قال البرماوي: بوزن إعطاء، وإيلاء مثله لكن بتقديم الياء على اللام، حكاه النووي واستغربه.
وإيليا بتشديد الياء الثانية والقصر حكاه البرماوي عن جاجع الأصول، ورأيته في النهاية.

والإيلياء بالألف واللام كذا نقله النووي في شرح مسلم عن مسند أبي يعلى الموصلي واستغربه وهو بيت المقدس والباء بمعنى في ( فدعاهم) هرقل حال كونه ( في مجلسه وحوله) نصب على الظرفية وهو خبر المبتدأ الذي هو ( عظماء الروم) وهم من ولد عيص بن إسحق بن إبراهيم على الصحجح، ودخل فيهم طوائف من العرب من تنوخ وبهراء وغيرهم من غسان كانوا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم واستوطنوها فاختلطت أنسابهم.
وعند ابن السكن وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان ( ثم دعاهم) عطف على قوله فدعاهم، وليس بتكرار بل معناه أمر بإحضارهم، فلما حضروا وقعت مهلة ثم استدناهم كما أشعر بها الأداة الدالّة عليها، ( ودعا ترجمانه) بالنصب على المفعولية وللأصيلي كما في الفتح وأبي الوقت كما في الفرع كأصاله وغيرهما بترجمانه، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بالترجمان بفتح المثناة الفوقية وضم الجيم فيهما وقد تضم التاء فيهما إتباعًا، وهو في ضبط الأصيلي ويجوز فتحهما وضم الأوّل وفتح الثاني وهو المفسر لغة بلغة، يعني أرسل إليه
رسولاً أحضره بصحبته أو كان حاضرًا واقفًا في المجلس كلما جرت به عادة ملوك الأعاجم، ثم أمره بالجلوس إلى جنب أبي سفيان ليعبر عنه بما أراد، ولم يسم الترجمان.
ثم قال هرقل للترجمان قل لهم أيكم أقرب ( فقال) الترجمان ( أيكم أقرب نسبًا لهذا الرجل) ضمن أقرب معنى اقعد فعدّاه بالباء، وعند مسلم المؤلف في آل عمران من هذا الرجل وهو على الأصل، وفي الجهاد إلى هذا الرجل ولا إشكال فيها، فإن أقرب يتعدى بإلى.
قال الله تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [ق: 16] والمفضل عليه محذوف أي من غيره، وزاد ابن السكن الذي خرج بأرض العرب ( الذي يزعم) ، وعند ابن إسحق عن الزهري يدّعي ( أنه نبيّ فقال) بالفاء، ولأبي الوقت وابن عساكر والأصيلي قال ( أبو سفيان: قلت) وفي رواية كما في اليونينية بغير رقم فقلت بزيادة الفاء ( أنا أقربهم نسبًا) .
وللأصيلي كما في الفرع كأصله أنا أقربهم به نسبًا أي من حيث النسب، وأقربية أبي سفيان لكونه من بني عبد مناف وهو الأب الرابع للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولأبي سفيان، وخصّ هرقل الأقرب لكونه أحرى بالاطّلاع على ظاهره وباطنه أكثر من غيره، ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، لكن قد يقال: إن القريب متهم في الإخبار عن نسب قريبه بما يقتضي شرفًا وفخرًا، ولو كان عدوًّا له لدخوله في شرف النسب الجامع لهما، ( فقال) أي هرقل، وللأصيلي وابن عساكر وأبي ذر عن الحموي قال: ( أدنوه مني) بهمزة قطع مفتوحة كما في الفرع، وإنما أمر بإدناء أبي سفيان ليمعن في السؤال ويشفي غليله.
( وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره) لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب كما صرح به الواقدي في روايته.
( ثم قال) هرقل ( لترجمانه: قل لهم) أي لأصحاب أبي سفيان ( إني سائل هذا) أي أبا سفيان ( عن هذا الرجل) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأشار إليه إشارة القريب لقرب العهد بذكره أو لأنه معهود في أذهانهم ( فإن كذبني) بالتخفيف أي إن نقل إليّ الكذب ( فكذبوه) بتشديد الذال المعجمة المكسورة، قال التيمي كذب بالتخفيف يتعدّى إلى مفعولين مثل صدق تقول كذبني الحديث وصدقني الحديث، وكذب بالتشديد يتعدى إلى مفعول واحد وهما من غرائب الألفاظ لمخالفتهما الغالب، لأن الزيادة تناسب الزيادة وبالعكس والأمر هنا بالعكس اهـ.

( قال) أي أبو سفيان وسقط لفظ قال لكريمة وأبي الوقت كذا هي ساقطة من اليونينية مطلقًا، ( فوالله لولا الحياء) وفي نسخة كريمة لولا أن الحياء: ( من أن يأثروا عليّ) بضم المثلثة وكسرها، وعلي بمعنى عني أي رفقتي يروون عني ( كذبًا) بالتنكير، وفي غير الفرع وأصله الكذب فأعاب به لأنه قبيح ولو على عدوّ ( لكذبت عنه) .
لأخبرت عن حاله بكذب لبغضي اياه.
وللأصيلي وأبوي الوقت وذر عن الحموي لكذبت عليه.
( ثم كان أوّل ما سألني عنه) بنصب أوّل في فرع اليونينية كهي، قال في الفتح: وبه جاءت الرواية وهو خبر كان واسمها ضمير الشأن وقوله الآتي إن قال، بدل من قوله ما سألني عنه.
ويجوز أن يكون إن قال اسم ان، وقوله أوّل ما سألني خبره وتقديره، ثم كان قوله كيف نسبه فيكم أوّل ما سألني عنه، ويجوز رفعه اسمًا لكان، وذكر العيني وروده رواية ولم يصرح به في الفتح، إنما قال: ويجوز رفعه على الاسمية وخبره قوله ( أن قال كيف نسبه) عليه الصلاة والسلام ( قيكم) أي ما حال نسبه أهو من أشرافكم أم لا؟ لكن قال العلاّمة البدر الدماميني: إن جواز

النصب والرفع لا يصح على إطلاقه، وإنما الصواب التفصيل، فإن جعلنا ما نكرة بمعنى شيء تعين نصبه على الخبرية، وذلك لأن إن قال وأوّل ما سألني هو الخبر ضرورة أنه متى اختلف الاسمان تعريفًا وتنكيرًا فالمعرف الاسم والمنكر الخبر، ولا بعكس إلاّ في الضرورة.
وإن جعلناها موصولة جاز الأمران، لكن المختار جعل أن قال هو الاسم لكونه أعرف اهـ.

قال أبو سفيان: ( قلت هو فينا ذو نسب) أي صاحب نسب عظيم، فالتنوين للتعظيم كقوله تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] أي عظيمة، ( قال) هرقل ( فهل قال هذا القول منكم) من قريش ( أحد قط) بتشديد الطاء المضمومة مع فتح القاف، وقد يضمان وقد تخفف الطاء وتفتح القاف ولا يستعمل إلا في الماضي المنفي، واستعمل هنا بغير أداة النفي وهو نادر، وأجيب بأن الاستفهام حكمه حكم النفي كأنه قال: هل قال هذا القول أحد أو لم يقله أحد قط ( قبله) بالنصب على الظرفية، وللأصيلي والكشميهني وكريمة وابن عساكر مثله بدل قوله قبله، وحينئذ يكون بدلاً من قوله هذا القول، قال أبو سفيان ( قلت لا) أي لم يقله أحد قبله.
( قال) هرقل ( فهل كان من آبائه من) بكسر الميم حرف جر ( ملك) بفتح الميم وكسر اللام صفة مشبهة، وهذه رواية كريمة والأصيلي وأبي الوقت وابن عساكر، ورواه ابن عساكر في نسخة وأبو ذر عن الكشميهني من بفتح الميم اسم موصول وملك فعل ماضٍ، ولأبي ذر كما في الفتح فهل كان من آبائه ملك بإسقاط من، والأوّل أشهر وأرجح.
قال أبو سفيان ( قلت: لا.
قال)
هرقل ( فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم) وعند المؤلف في التفسير أيتبعه أشراف الناس بإثبات همزة الاستفهام، وللأربعة فأشراف الناس اتبعوه.
قال أبو سفيان ( قلت) ولغير الأربعة فقلت ( بل ضعفاؤهم) أي اتبعوه، والشرف علو الحسب والمجد والمكان العالي، وقد شرف بالضم فهو شريف وقوم شرفاء وأشراف وفي الفتح تخصيص الشرف هنا بأهل النخوة والتكبّر لا كل شريف ليخرج مثل العمرين ممن أسلم قبل سؤال هرقل، وتعقبه العيني بأن العمرين وحمزة كانوا من أهل النخوة.
فقول أبي سفيان جرى على الغالب.

ووقع في رواية ابن إسحق تبعه منا الضعفاء والمساكين والأحداث، وأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد.
قال الحافظ ابن حجر، وهو محمول على الأكثر الأغلب.
( قال) هرقل ( أيزيدون أم ينقصون) بهمزة الاستفهام، وفي رواية سورة آل عمران بإسقاطها، وجزم ابن مالك بجوازه مطلقًا خلافًا لمن خصّه بالشعر.
قال أبو سفيان ( قلت بل يزيدون.
قال)
هرقل: ( فهل يرتد أحد منهم سخطة) بفتح السين المهملة في اليونينية ليس إلا وبالنصب مفعول لأجله أو حال أي ساخطًا أي كراهة وعدم رضا، وجوّز في الفتح ضم السين.
وعبارته سخطة بضم أوّله وفتحه، وتعقبه العيني فقال: السخطة بالتاء إنما هي بالفتح فقط، والسخط بلا تاء يجوز فيه الضم والفتح مع أن الفتح يأتي بفتح الخاء، والسخط بالضم يجوز فيه الوجهان ضم الخاء معه وإسكانها اهـ.

قلت: في رواية الحموي والمستملي سخطة بضم السين وسكون الخاء، أي فهل يرتد أحد منهم كراهة ( لدينه بعد أن يدخل فيه) أخرج به من ارتد مكرهًا أولاً سخطًا لدين الإسلام بك لرغبة في

غيره كحظ نفساني كما وقع لعبيد الله بن جحش.
قال أبو سفيان ( قلت: لا) .

فإن قلت: لمِ لم يستغن هرقل بقوله بل يزيدون عن قوله هل يرتد أحد منهم الخ، أجيب: بأنه لا ملازمة بين الازدياد والنقص فقد يرتد بعضهم ولا يظهر فيهم النقص باعتبار كثرة من يدخل وقلة من يرتد مثلاً، وإنما سأل عن الارتداد لأن من دخل على بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه بخلاف من دخل في أباطيل.
( قال) هرقل: ( فهل كنتم تتهمونه بالكذب) على الناس ( قبل أن يقول ما قال) قال أبو سفيان: ( قلت: لا) وإنما عدل عن السؤال عن نفس الكذب إلى السؤال عن التهمة تقريرًا لهم على صدقه لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها.
( قال) هرقل ( فهل يغدر) بدال مهملة مكسورة أي ينقض العهد؟ قال أبو سفيان: ( قلت لا، ونحن منه) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( في مدة) أي مدة صلح الحديبية أو غيبته وانقطاع أخباره عنّا.
( لاّ ندري ما هو فاعل فيها) أي في المدة، وفي قوله: لا ندري إشارة إلى عدم الجزم بغدره ( قال) أبو سفيان ( ولم تمكني) بالمثناة الفوقية أو التحتية ( كلمة أدخل فيها شيئًا) انتقصه به ( غير هذه الكلمة) .
قال في الفتح: التنقيص هنا أمر نسبي لأن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبة ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة، وقد كان عليه الصلاة والسلام معروفًا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر، ولكن لما كان الأمر مغيبًا لأنه مستقبل أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب، ولذا أورده على التردد ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه اهـ.
وغير بالرفع صفة لكلمة، ويجوز فيها النصب صفة لشيئًا وليس في الفرع غير الأوّل، وصحح عليه.

فإن قلت: كيف يكون غير صفة لهما وهما نكرتان وغير مضاف إلى المعرفة؛ أجيب: بأنه لا يتعرف بالإضافة إلا إذا اشتهر المضاف بمغايرة المضاف إليه، وههنا ليس كذلك.
وعورض بأن هذا مذهب ابن السراج والجمهور على خلافه فنحو غير المغضوب عليهم يعرب بدلاً من الذين أو صفة له تنزيلاً للموصول منزلة النكرة فجاز وصفها بالنكرة.
( قال) هرقل ( فهل قاتلتموه) نسب ابتداء القتال إليهم ولم ينسبه إليه عليه الصلاة والسلام لما اطّلع عليه من أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يبدأ قومه بالقتال حتى يقاتلوه، قال أبو سفيان ( قلت نعم) قاتلناه.
( قال) هرقل ( فكيف كان قتالكم إياه) بفصل ثاني الضميرين والاختيار أن لا يجيء المنفصل إذا تأتى أن يجيء المتصل، وقيل قتالكم إياه أفصح من قتالكموه باتصال الضمير، فلذلك فصله وصوّبه العيني تبعًا لنص الزمخشري.
قال أبو سفيان ( قلت) وللأصيلي قال ( الحرب بيننا وبينه سجال) بكسر السين المهملة وبالجيم المخففة أي نوب نوبة لنا ونوبة له كما قال ( ينال منا وننال منه) أي يصيب منا ونصيب منه.
قال البلقيني: هذه الكلمة فيها دسيسة أيضًا لأنهم لم ينالوا منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قطّ، وغاية ما في غزوة أُحُد أن بعض المقاتلين قتل وكانت العزة والنصرة للمؤمنين اهـ.

وتعقب بأنه قد وقعت المقاتلة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم قبل هذه القصة في ثلاثة مواطن: بدر وأُحُد والخندق، فأصاب المسلمون من المثركين في بدر وعكسه في أُحُد وأصيب من

الطائفتين ناس قليل في الخندق، فصح قول أبي سفيان يصيب منا ونصيب منه، وحينئذ فلا دسيسة هنا في كلام أبي سفيان كما لا يخفى، والجملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب.

قال في المصابيح: فإن قلت: فما يصنع الشلوبين القائل بأنها في حكم مفسرها إن كان ذا محل فهي كذلك وإلاّ فلا، وهي ههنا مفسرة للخبر فيلزم أن تكون ذات محل لكنها خالية عن رابط يربطها بالمبتدأ قلت: تقدره أي ينال منا فيها وننال فيها منه اهـ.

والسجال مرفوع خبر للحرب واستشكل جعله خبرًا لكونه جمعًا والمبتدأ مفرد فلم تحصل المطابقة بينهما، وأجيب كما في الفتح بأن الحرب اسم جنس والسجال اسم جمع، وتعقبه العيني بأن السجال ليس اسم جمع بل هو جمع وبينهما فرق، وجوّز أن يكون سجال بمعنى المساجلة فلا يرد السؤال أصلاً.
وفي قوله الحرب بيننا وبينه سجال تشبيه بليغ شبه الحرب بالسجال مع حذف أداة التشبيه لقصد المبالغة كقولك: زيد أسد إذا أردت به المبالغة في بيان شجاعته فصار كأنه عين الأسد.
وذكر السجال وأراد به النوب يعني الحرب بيننا وبينه نوب نوبة لنا ونوبة له كالمستقيين إذا كان بينهما دلو يستقي أحدهما دلوًا والآخر دلوًا.

( قال) هرقل ( ما) بإسقاط الباء الموحدة في اليونينية وهي مكشوطة من الفرع، وفي بعض الأصول بما، وفي نسخة فما ( ذا يأمركم) ، أي ما الذي يأمركم به؟ قال أبو سفيان: ( قلت يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا) بالواو، وفي رواية المستملي اعبدوا الله لا تشركوا بحذف الواو، وحينئذ فيكون تأكيدًا لقوله وحده، وهذه الجملة عطف على اعبدوا الله وهي من عطف المنفي على المثبت وعطف الخاص على العام؛ على حدّ { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر: 4] ، فإن عبادته تعالى أعمّ من عدم الإشراك به ( واتركوا ما يقول آباؤكم) من عبادة الأصنام وغيرهما مما كانوا عليه في الجاهلية.
( ويأمرنا بالصلاة) المعهودة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، وفي نسخة مما في اليونينية بزيادة والزكاة ( والصدق) وهو القول المطابق للواقع.
وفي رواية للمؤلف بالصدقة بدل الصدق، ورجحها الإمام البلقيني، قال الحافظ ابن حجر: ويقوّيها رواية المؤلف في التفسير والزكاة وقد ثبت عنده من رواية أبي ذر عن شيخه الكشميهني والسرخسي اللفظان الصدقة والصدق ( والعفاف) بفتح العين أي الكف عن المحارم وخوارم المروءة ( والصلة) للأرحام وهي كل ذي رحم لا تحلّ مناكحته أو فرضت الأنوثة مع الذكورة، أو كل ذي قرابة.
والصحيح عمومه في كل ما أمر الله به أن يوصل كالصدقة والبر والإنعام.
قال في التوضيح: من تأمل ما استقرأه هرقل من هذه الأوصاف تبين له حسن ما استوصف من أمره واستبرأه من حاله والله دره من رجل ما كان أعقله لو ساعدته المقادير بتخليد ملكه والأتباع ( فقال) هرقل ( للترجمان قل له) أي لأبي سفيان: ( سألتك عن) رتبة ( نسبه) فيكم أهو شريف أم لا ( فذكرت أنه فيكم ذو) أي صاحب ( نسب) شريف عظيم ( فكذلك) بالفاء وللأربعة وكذلك ( الرسل تبعث في) أشرف ( نسب قومها) جزم به هرقل لما تقرر عنده في الكتب السالفة.


( وسألتك: هل قال أحد) ولأبي ذر كما في الفرع كأصله وسألتك قال أحد ( منكم هذا القول) زاد في نسخة قبله.
( فذكرت أن لا فقلت) أي في نفسي وأطلق على حديث النفس قولاً ( لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله) يأتسي بهمزة ساكنة بعدها مثناة فوقية مفتوحة وسين مهملة مكسورة أي يقتدي ويتبع.
ولأبي ذر عن الكشميهني يتأسى بتقديم المثناة الفوقية على الهمزة المفتوحة، وفتح السين المشدّدة.
( وسألتك هل كان من آبائه من ملك) وللكشميهني من ملك بفتح الميمين ( فذكرت أن لا قلت) وللأصيلي وابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني فقلت ( فلو) ولأبي الوقت لو ( كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه) .

فإن قلت لم قال أبيه بالإفراد؟ أجيب: ليكون أعذر في طلب الملك بخلاف ما لو قال ملك آبائه أو المراد بالأب ما هو أعم من حقيقته ومجازه.
نعم في سورة آل عمران آبائه بالجمع.

فإن قلت لم قال هرقل فقلت في هذين الموضعين وهما: هل قال هذا القول أحد منكم، وهل كان من آبائه من ملك؟ أجيب: بأن هذين المقامين مقاما فكر ونظر بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل.

قال هرقل لأبي سفيان: ( وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أئه لم يكن ليذر) اللام فيه لام الجحود لملازمتها النفي وفائدتها تأكيد النفي نحو: { لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 168] أي لم يكن ليدع ( الكذب على الناس) قبل أن يظهر رسالته.

( ويكذب) بالنصب ( على الله) بعد إظهارها.
( وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل) غالبًا لأنهم أهل الاستكانة بخلاف أهل الاستكبار المصرّين على الشقاق بغيًا وحسدًا كأبي جهل، ويؤيد استشهاده على ذلك قوله تعالى: { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُون} [الشعراء: 111] المفسر بأنهم الضعفاء على الصحيح.
قال هرقل لأبي سفيان ( وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان) فإنه لا يزال في زيادة ( حتى يتم) بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها، ولهذا نزل في آخر سنيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
( وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين) بالنون، وفي بعض النسخ حتى بالمثناة الفوقية، وفي آل عمران، وكذلك الإيمان إذا خالط قال في الفتح وهو يرجح أن رواية حتى وهم، والصواب وهو رواية الأكثر حين ( تخالط) بالمثناة الفوقية ( بشاشته القلوب) بفتح الموحدة والشينين المعجمتين وضم التاء وإضافته إلى ضمير الإيمان.
والقلوب نصب على المفعولية.
أي تخالط بشاشة الإيمان القلوب التي تدخل فيها، وللحموي والمستملي يخالط بالمثناة التحتيه بشاشة بالنصب على المفعولية والقلوب بالجر على الإضافة، والمراد ببشاشة القلوب انشراح الصدر والفرح والسرور بالإيمان.
( وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر) لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر بخلاف من طلب الآخرة.
( وسألتك بما يأمركم) بإثبات الألف مع ما الاستفهامية وهو قليل.
كذا قاله الزركشي وغيره، وتعقبه في المصابيح بأنه لا داعي هنا إلى التخريج على ذلك، إذ يجوز أن تكون الباء بمعنى عن متعلقة بسأل نحو فاسأل به خبيرًا، وما موصولة والعائد محذوف، ثم أورد سؤالاً وهو أن أمر يتعدى بالباء إلى المفعول الثاني، تقول: أمرتك بكذا فالعائد حينئذ مجرور بغير ما جر به الموصول معنى، فيمتنع حذفه.
وأجاب بأنه قد ثبت حذف حرف الجر من المفعول الثاني فينصب حينئذ نحو: أمرتك الخير، وعليه حمل جماعة من المغربين قوله تعالى: { مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] فجملوا ماذا المفعول الثاني، وجعلوا الأوّل محذوفًا لفهم المعنى، أي تأمريننا.
وإذا كان كذلك جعلنا العائد المحذوف منصوبًا ولا ضير اهـ.

( فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا و) أنه ( ينهاكم عن عبادة الأوثان) جمع وثن بالمثلثة وهو الصنم واستفاده هرقل من قوله ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم لأن مقولهم الأمر بعبادة الأوثان ( و) أنه ( يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف) ولم يعرج هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان، وسقط هنا إيراد تقدير السؤال العاشر، والذي بعده جوابه وثبت ذلك جميعه في الجهاد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم قال هرقل لأبي سفيان: ( فإن كان ما تقول حقًا) لأن الخبر يحتمل الصدق والكذب ( فسيملك) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( موضع قدميّ هاتين) أرض بيت المقدس أو أرض ملكه.
( وقد كنت أعلم أنه) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( خارج) قاله لما عنده من علامات نبوّته عليه الصلاة والسلام الثابتة في الكتب القديمة، وفي رواية سورة آل عمران فإن كان ما تقول حقًا فإنه نبي؛ وفي الجهاد وهذه صفة نبي، ووقع في أمالي المحاملي رواية الأصبهانيين من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أبي سفيان أن صاحب بصرى أخذه وناسًا معه في تجارة، فذكر القصة مختصرة دون الكتاب وزاد في آخرها قال: فأخبرني هل تعرف صورته إذا رأيتها، قلت: نعم، قال: فأدخلت كنيسة لهم فيها الصور فلم أره ثم أدخلت أخرى فإذا أنا بصورة محمد وصورة أبي بكر ( لم) بإسقاط الواو ولابن عساكر في نسخة ولم ( أكن أظن أنه منكم) أي من قريش ( فلو أني أعلم أني) وسقطت أني الأولى في نسخة، ولأبي الوقت إنني ( أخلص) بضم اللام أي أصل ( إليه لتجشمت) بالجيم والشين المعجمة أي لتكلفت ( لقاءه) على ما فيه من المشقة، وهذا التجشم كما قاله ابن بطال هو الهجرة وكانت فرضًا قبل الفتح على كل مسلم، وفي مرسل ابن إسحق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال: ويحك والله إني لأعلم أنه نبي مرسل ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، ونحوه عند الطبراني بسند ضعيف فقد خاف هرقل على نفسه أن يقتله الروم كما جرى لغيره وخفي عليه قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الآتي أسلم تسلم، فلو حمل الجزاء على عمومه في الدارين لسلم لو أسلم من جميع المخلوف .. ( ولو كنت عندما) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( لغسلت عن قدميه) مما لعله يكون عليهما.
قاله مبالغة في الخدمة أو لأزلت عنهما كقوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] قال الزمخشري: أي الذين يصدّون عن أمره، وقال غيره: عدي بعن لأن في المخالفة معنى التباعد والحيد، كأن المعنى الذين يحيدون عن أمره بالمخالفة والإتيان بعن أبلغ للتنبيه على هذا الغرض.
وفي باب دعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس إلى الإسلام والنبوّة، ولو كنت عنده لغسلت قدميه.
وفي رواية عن

عبد الله بن شدّاد عن أبي سفيان لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه.
وزاد فيها ولقد رأيت جبهته يتحادر عرقها من كرب الصحيفة يعني لما قرىء عليه الكتاب، وتثنية قدميه رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر والأصيلي.
وفي رواية قدمه بالإفراد.

قال أبو سفيان: ( ثم دعا) هرقل ( بكتاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي من وكّل ذلك إليه، ولهذا عدي إلى الكتاب بالباء كذا قرره في الفتح.
وقال العيني: الأحسن أن يقال: ثم دعا من أتى بكتاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجوز زيادة الباء، أي دعا الكتاب على سبيل المجاز أو ضمن دعا معنى طلب ( الذي بعث به دحية) بكسر الدال وفتحها ورفع التاء على الفاعلية ابن خليفة الكلبي، ولأبوي ذر والوقت عن المستملي وابن عساكر بعث به مع دحية أي بعثه عليه الصلاة والسلام معه، وكان في آخر سنة ست بعد أن رجع من الحديبية ( إلى عظيم) أهل ( بصرى) بضم الموحدة مقصورًا مدينة حوران أي أميرها الحرث بن أبي شمر الغساني.
( فدفعه إلى هرقل) فيه مجاز لأنه أرسل به إليه صحبة عديّ بن حاتم كما في رواية ابن السكن في الصحابة، وكان وصوله إليه كما قاله الواقدي وصوّبه الحافظ ابن حجر في سنة سبع ( فقرأه) هرقل بنفسه أو الترجمان بأمره، وفي مرسل محمد بن كعب القرظيّ عند الواقدي في هذه القصة فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فقرأه ( فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم) فيه استحباب تصدير الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرًا.

فإن قلت: قد قدم سليمان اسمه على البسملة، أجيب: أنه إنما ابتدأ بالبسملة وكتب اسمه عنوانًا بعد ختمه لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه المعهود، ولذلك قالت: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم.
فالتقديم واقع في حكاية الحال.

( من محمد عبد الله ورسوله) وصف نفسه الشريفة بالعبودية تعريضًا لبطلان قول النصارى في المسيح أنه ابن الله، لأن الرسل مستوون في أنهم عباد الله.
وللأصيلي وابن عساكر من محمد بن عبد الله ورسول الله ( إلى هرقل عظيم) أهل ( الروم) أي المعظم عندهم ووصفه بذلك لمصلحة التأليف ولم يصفه بالأمرة ولا الملك لكونه معزولاً بحكم الإسلام، وقوله: عظيم بالجر بدل من سابقه، ويجوز الرفع على القطع والنصب على الاختصاص وذكر المدائني أن القارىء لما قرأ من محمد رسول الله غضب أخو هرقل واجتذب الكتاب فقال له هرقل: ما لك؟ فقال: لأنه بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم.
قال: إنك لضعيف الرأي أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه لئن كان رسول الله إنه لأحق أن يبدأ بنفسه ولقد صدق أنا صاحب الروم والله مالكي ومالكه.
( سلام) بالتنكير، وعند المؤلف في الاستئذان السلام ( على من اتبع الهدى) أي الرشاد على حد قول موسى وهارون لفرعون: { وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] ، والظاهر أنه من جملة ما أُمرا به أن يقولاه، ومعناه سلم من عذاب الله من أسلم فليس المراد به التحية وإن كان اللفظ يُشعِر به لأنه لم يسلم، فليس هو ممن اتبع الهدى.

( أما بعد) بالبناء على الضم لقطعه عن الإضافة المنوية لفظًا، ويؤتى بها للفصل بين الكلامين.
قال في الفتح: واختلف في أول من قالها فقيل داود، وقيل يعرب بن قحطان، وقيل كعب بن لؤي،

وقيل قس بن ساعدة، وقيل سحبان.
وفي خمس غرائب مالك للدارقطني أن يعقوب عليه السلام أول من قالها، فإن ثبت وقلنا إن قحطان من ذرية إسماعيل فيعقوب أوّل من قالها مطلقًا، وإن قلنا إن قحطان قبل إبراهيم فيعرب أوّل من قالها.
( فإني أدعوك بدعاية الإسلام) .
بكسر الدال المهملة، ولمسلم كالمؤلف في الجهاد بداعية الإسلام أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام وهي شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله، والباء بمعنى إلى، أي أدعوك إلى الإسلام.
( أسلم) بكسر اللام ( تسلم) بفتحها ( يؤتك الله أجرك مرتين) بالجزم في الأول على الأمر، وفي الثاني جواب له، والثالث بحذف حرف العلة جواب ثانٍ له أيضًا، أو بدل منه، وإعطاء الأجر مرتين لكونه مؤمنًا بنبيّه.
ثم آمن بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو من جهة أن إسلامه يكون سببًا لإسلام أتباعه.
وقوله: أسلم تسلم فيه غاية الاختصار ونهاية الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني مع ما فيه من الجناس الاشتقاقي، وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد، وعند المؤلف في الجهاد أسلم تسلم وأسلم يؤتك بتكرار أسلم مع زيادة الواو في الثانية، فيكون الأمر الأوّل للدخول في الإسلام والثاني للدوام عليه على حدّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] قاله في الفتح، وعورض بأن الآية في حق المنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا نفاقًا آمنوا إخلاصًا.
وأجيب بأنه قول مجاهد.
وقال ابن عباس في مؤمني أهل الكتاب، وقال جماعة من المفسّرين: خطاب للمؤمنين، وتأويل آمنوا بالله أقيموا ودوموا واثبتوا على أيمانكم.
( فإن توليت) أي أعرضت عن الإسلام ( فإن عليك) مع إثمك ( إثم اليريسين) بمثناتين تحتيتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة بينهما راء مكسورة ثم سين مكسورة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم نون، جمع يريس على وزن كريم.
وفي رواية الأريسين بقلب المثناة الأولى همزة وفي أخرى اليريسيين بتشديد الياء بعد السين جمع يريسيّ وهي التي في الفرع كأصله عن الأربعة، والرابعة وهي للأصيلي كما في اليونينية الأريسيين بتشديد الياء بعد السين كذلك، إلا أنه بالهمزة في أوّله موضع الياء، والمعنى أنه إذا كان عليه إثم الاتباع بسبب اتباعهم له على استمرار الكفر، فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى.

فإن قلت: هذا معارض بقوله تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أجيب بأن وزر الإثم لا يتحمله غيره، ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين، جهة فعله وجهة تسببه.
والأريسيون الأكارون أي الفلاحون والزراعون، أي عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك.
ونبّه بهم على جميع الرعايا لأنهم الأغلب في رعاياه، وأسرع انقيادًا فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا.
وقال أبو عبيد المراد بالفلاحين أهل مملكته لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أم بغيره، وعند كراع هم الأجراء.
وعند الليث العشارون يعني أهل المكس.
وعند أبي عبيدة الخدم والخول يعني لصده إياهم عن الدين.
كما قال تعالى: { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} [الأحزاب: 67] الآية.
والأوّل أظهر.
وقيل: كان أهل السواد أهل فلاحة وكانوًا مجوسًا، وأهل الروم أهل صناعة، فاعلموا بأنهم وإن كانوا أهل كتاب بأن عليهم إن لم يؤمنوا

من الإثم مثل إثم المجوس الذين لا كتاب لهم، وفي قوله: فإن توليت استعارة تبعية لأن حقيقة التولي إنما هو بالوجه، ثم استعمل مجازًا في الإعراض عن الشيء.

( ويا أهل الكتاب) كذا في رواية عبدوس والنسفيّ والقابسي، وهو الذي في اليونينية بالواو عطفًا على قوله أدعوك أي أدعوك بدعاية الإسلام وأدعوك بقوله تعالى أو أتلو عليك أو أقرأ عليك أهل الكتاب، وعلى هذا التقدير فلا تكون زائدة في التلاوة لأن الواو إنما دخلت على محذوف ولا محذور فيه.

قإن قلت: يلزم عليه حذف المعطوف وبقاء حرف العطف وهو ممتنع أجيب: بأنما ذاك إذا حذف المعطوف وجميع متعلقاته، أما إذا بقي من اللفظ شيء هو معمول للمحذوف فلا نسلم امتناع ذلك كقوله تعالى: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9] ، أي وأخلصوا الإيمان.
وكقوله:
وزججن الحواجب والعيونا
أي وكحلن
وعلفتها تبنًا وماءً باردًا
أي وسقيتها إلى غير ذلك.

فإن قلت: العطف مشكل لأنه يقتضي تقييد التلاوة بتوليه وليس كذلك، أجيب: بأنه إنما هو معطوف على مجموع الجملة المشتملة على الشرط والجزاء لا على الجزاء فقط، وقيل: إنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يرد التلاوة بل أراد مخاطبتهم بذلك، وحينئذ فلا إشكال، وعورض بأن العلماء استدلوا بهذا الحديث على جواز كتابة الآية والآيتين إلى أرض العدو، ولولا أن المراد الآية لما صح الاستدلال، وهم أقوم وأعرف.
وبأنه لو لم يرد الآية لقال عليه الصلاة والسلام فإن توليتم، وفي الحديث: فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون، لكن يمكن الانفصال عن هذا الأخير بأنه من باب الالتفات.
وفي رواية الأصيلي وأبي ذر كما قاله عياض يا أهل الكتاب بإسقاط الواو، فيكون بيانًا لقوله بدعاية الإسلام.
وقوله: يا أهل الكتاب يعمّ أهل الكتابين.

( تعالوا) بفتح اللام ( إلى كلمة سواء) أي مستوية ( بيننا وبينكم) لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل، وتفسير الكلمة ( أن لا نعبد إلاّ الله) أي نوحده بالعبادة ونخلص له فيها ( ولا نشرك به شيئًا) ولا نجعل غيره شريكًا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلاً لأن يعبد ( ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله) .
فلا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من التحريم والتحليل، لأن كلاً منهم بعضنا بشر مثلنا.
روي أنه لما نزلت { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله.
قال: أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم.
قال: ( فإن تولوا) عن التوحيد ( فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) .
أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون

بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل، وقد قيل: إنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتب ذلك قبل نزول الآية، فوافق لفظه لفظها لما نزلت لأنها نزلت في وفد نجران سنة الوفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان قبل ذلك سنة ست، وقيل: بل نزلت في اليهود، وجوّز بعضهم نزولها مرتين.
وقيل، فيما حكاه السهيلي: إن هرقل وضع هذا الكتاب في قصبة من ذهب تعظيمًا له وإنهم لم يزالوا يتوارثونه كابرًا عن كابر في أعز مكانٍ.
وحكي أن ملك الفرنج في دولة الملك المنصور قلاوون الصالحي أخرج لسيف الدين قلج صندوقًا مصفحًا بالذهب، واستخرج منه مقلمة من ذهب فأخرج منها كتابًا زالت أكثر حروفه فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا فنحن نحفظه.


( قال أبو سفيان فلما قال) هرقل ( ما قال) أي الذي قاله في السؤال والجواب، ( وفرغ من قراءة الكتاب) النبوي ( كثر عنده الصخب) بالصاد المهملة والخاء المعجمة المفتوحتين أي اللغط كما في مسلم، وهو اختلاط الأصوات في المخاصمة، ( وارتفعت الأصوات) بذلك ( وأخرجنا) بضم الهمزة وكسر الراء ( فقلت لأصحابي حين أخرجنا) وعند المؤلف في الجهاد حين خلوت بهم، والله ( لقد أمر) بفتح أوله مقصورًا وكسر ثانيه أي كبر وعظم ( أمر ابن أبي كبشة) بسكون الميم أي شأنه، وكبشة بفتح الكاف وسكون الموحدة.
قال ابن جني: اسم مرتجل ليس بمؤنث الكبش، لأن مؤنث الكبش من غير لفظه يريد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها كنية أبيه من الرضاعة الحارث بن عبد العزى فيما قاله ابن ماكولا وغيره، وعند ابن بكير أنه أسلم وكانت له بنت تسمى كبشة، فكنّي بها أو هو والد حليمة مرضعته أو ذلك نسبة إلى جد جده وهب لأن أمه آمنة بنت وهب وأم جد وهب قيلة بنت أبي كبشة، أو لجد جده عبد المطلب لأمه، أو هو رجل من خزاعة اسمه وجز بواو مفتوحة فجيم ساكنة فزاي، ابن غالب خالف قريشًا في عبادة الأوثان فعبد الشعرى فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة.
( إنه يخافه) .
بكسر الهمزة على الاستئناف.
وجوّز العيني فتحها قال: وإن كان على ضعف على أنه مفعول من أجله، والمعنى عظم عليه الصلاة والسلام لأجل أنه يخافه ( ملك بني الأصفر) وهم الروم لأن جدهم روم بن عيص بن إسحق تزوّج بنت ملك الحبشة فجاء ولده بين البياض والسواد، فقيل له الأصفر، أو لأن جدته سارة حفّته بالذهب.
وقيل غير ذلك.
قال أبو سفيان ( فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام) فأبرزت ذلك اليقين، ( وكان ابن الناطور) بالمهملة أي حافظ البستان وهو لفظ عجمي تكلمت به العرب، وفي رواية الحموي الناظور بالمعجمة.
وفي رواية الليث عن يونس بن ناطورا بزيادة ألف في آخره والواو عاطفة، فالقصة الآتية موصولة إلى ابن الناطور مروية عن الزهري خلاقًا لمن توهم أنها معلقة أو مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان، والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله وذكر الحديث، ثم قال الزهري: وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة.

وقوله ( صاحب إيلياء) بكسر الهمزة واللام بينهما مثناة تحتية مع المد على الأشهر وهي بيت
المقدس أي أميرها، وصاحب منصوب في رواية أبي ذر على الاختصاص أو الحال لا خبر كان لأن خبرها إما أسقفًا أو يحدث، وجوّزه البدر الدماميني بأنه لا مانع من تعدد الخبر.
وفي رواية غير أبي ذر صاحب بالرفع صفة لابن الناطور، ورده الزركشي بأنه معرفة.
وصاحب لا يتعرف بالإضافة لأنها في تقدير الانفصال.
وجوّزه الكرماني لأن الإضافة معنوية.
قال البرماوي وهو الظاهر.
وقال البدر الدماميني: وهو أي قول الزركشي وهم، فقد قال سيبويه: تقول مررت بعبد الله ضاربك، كما تقول مررت بعبد الله صاحبك أي المعروف بضربك.
قال الرضي: فإذا قصدت هذا المعنى لم يعمل اسم الفاعل في محل المجرور به نصبًا كما في صاحبك، وإن كان أصله اسم فاعل من صحب يصحب، بل نقدره كأنه جامد، وأعربه بعضهم خبر مبتدأ محذوف أي هو صاحب إيلياء.
( وهرقل) بفتح اللام مجرور عطفًا على إيلياء أي صاحب إيلياء وصاحب هرقل، وأطلق عليه الصحبة إما بمعنى التبع وإما بمعنى الصداقة، فوقع استعمال صاحب في المجاز بالنسبة لامرية إيلياء، وفي الحقيقة بالنسبة إلى هرقل.


( أسقف) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول من الثلاثي المزيد وهي رواية المستملي والحموي، وعزاها في الفرع كأصله للكشميهني فقط، وعند الجواليقي.
وهي في الفرع كأصله للقابسي فقط أسقفًا بضم الهمزة وسكون السين وضم القاف وتخفيف الفاء، وعند القابسي أسقفًا كذلك إلا أنه بتشديد الفاء.
وعزاها في الفرع كأصله لابن عساكر فقط.
قال النووي وهو الأشهر، وعند الكشميهني وهي في اليونينية نسخة بغير رقم سقف بضم أوّله مبنيًّا للمفعول من التسقيف.
ولأبي ذر والأصيلي عن المروزي سقف بالتخفيف مبنيًّا للمفعول، وللجرجاني سقفًا بضم السين وكسر القاف وتشديد الفاء، ولأبي ذر عن المستملي سقفًّا بضم السين والقاف وتشديد الفاء أي مقدّمًا.
( على نصارى الشام) لكونه رئيس دينهم أو عالمهم أو هو قيم شريعتهم، وهو دون القاضي أو هو فوق القسيس ودون المطران أو الملك المتخاشع في مشيته، الجمع أساقفة وأساقف ( يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء) عند غلبة جنوده على جنود فارس وإخراجهم في سنة عمرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحديبية ( أصبح خبيث النفس) رديئها غير طيبها مما حل به من الهم وعبّر بالنفس عن جملة الإنسان روحه وجسده اتساعًا لغلبة أوصاف الجسد على الروح، وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر أصبح يومًا خبيث النفس ( فقال) له ( بعض بطارقته) بفتح الموحدة جمع بطريق بكسرها أي قواده وخواص دولته وأهل الرأي والشورى منهم، ( قد استنكرنا هيئتك) أي سمتك وحالتك لكونها مخالفة لسائر الأيام ( قال ابن الناطور) ولابن عساكر الناظور بالظاء المعجمة ( وكان) عطف على مقدر تقديره قال ابن الناطور: كان ( هرقل) عالمًا وكان ( حزاء) فلما حذف المعطوف عليه أظهر هرقل في المعطوف، وحزاء منصوب لأنه خبر كان، وهو بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منوّنة أي كاهنًا ( ينظر في النجوم) خير ثانٍ لكان.
إن قلنا إنه ينظر في الأمرين، أو هو تفسير لحزاء، لأن الكهانة تؤخذ تارة من ألفاظ الشياطين وتارة من أحكام النجوم، وكان هرقل علم ذلك بمقتضى حساب المنجمين الزاعمين بأن المولد النبوي كان بقران العلويين ببرج العقرب وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي الثلاثة بروجها في ستين
سنة، وكان ابتداء العشرين الأول للمولد النبوي في القرآن المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل عليه السلام بالوحي، وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية التي جرّت.
فتح مكة وظهور الإسلام، وفي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى.
وليس المراد بذكر هذا هنا تقوية قول المنجمين، بل المراد البشارات به عليه الصلاة والسلام على لسان كل فريق من إنسي وجني، والجملة السابقة من قوله قال ابن الناطور اعتراض بين سؤال بعض البطارقة وجواب هرقل إياهم إلى قوله ( فقال) هرقل ( لهم) أي لبعض بطارقته ( حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان) بفتح الميم وكسر اللام، ولغير الكشميهني ملك بالضم ثم الإسكان ( قد ظهر) أي غلب، وهو كما قال لأن في تلك الأيام كان ابتداء ظهوره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إذ صالح الكفار بالحديبية وأنزل الله تعالى سورة الفتح ومقدمة الظهور ظهور ( فمن يختتن من هذه الأمة) أي من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز.
وفي رواية يونس فمن يختتن من هذه الأمم؟ ( قالوا) مجيبين لاستفهامه إياهم ( ليس يختتن إلا اليهود) أجابوا بمقتضى علمهم لأن اليهود كانوا بإيلياء تحت الذلة مع النصارى بخلاف العرب.
( فلا يهمنّك) بضم المثناة التحتية من أهم، أي لا يقلقنك ( شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك) بالهمز وقد يترك ( فيقتلوا من فيهم من اليهود) .
وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر فليقتلوا باللام ( فبينما هم) بالميم وأصله بين فأشبعت الفتحة فصار بينا ثم زيدت عليها الميم، وفي رواية الأربعة فبينما بغير ميم ومعناهما واحد وهم مبتدأ خبره ( على أمرهم) مشورتهم التي كانوا فيها ( أتي هرقل برجل) أي بينا هم أوقات أمرهم إذ أُتي برجل ( أرسل به ملك غسان) بالغين المعجمة والسين المهملة المشددة والملك هو الحرث بن أبي شمر وغسان اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، أو ماء بالمشلل ولم يسم الرجل ولا من أرسل به ( يخبر عن خبر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فقال كما عند ابن إسحاق خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس فكانت بينهم ملاحم في مواطن وتركتهم وهم على ذلك ( فلما استخبره هرقل) وأخبره بذلك ( قال) هرقل لجماعته: ( اذهبوا فانظروا) إلى الرجل ( أمختتن هو) بهمزة الاستفهام وفتح المثناة الفوقية الأولى وكسر الثانية ( أم لا فنظروا إليه) .
وعند ابن إسحاق فجرّدوه فإذا هو مختتن ( فحدثوه) أي هرقل ( أنه مختتن) بفتح الفوقية الأولى وكسر الثانية.
( وسأله عن العرب) هل يختتنون ( فقال) أي الرجل ( هم يختتنون) .
وفي رواية الأصيلي وابن عساكر في نسخة مختتنون بالميم قال العيني كابن حجر والأول أفيد وأشمل.
( فقال هرقل: هذا) الذي نظرته في النجوم ( ملك هذه الأمة) أي العرب، ( قد ظهر) بضم الميم وسكون اللام وللقابسي ملك بالفتح ثم الكسر.
فاسم الإشارة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو مبتدأ خبره ملك هذه الأمة، وقد ظهر حال، ولأبي ذر عن الكشميهني وحده: يملك فعل مضارع هذه الأمة بالنصب على المفعولية لكنه في فرع اليونينية كالأصل ضبب على الياء ثم ضرب على الضبة بالحمرة خافيًا.
وقال عياض: أظنها أي الياء ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت، ووجهها العيني كغيره بأن قوله هذا مبتدأ ويملك جملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبره، وقوله هذه الأمة مفعول يملك، وقوله قد ظهر جملة وقعت حالاً.
قال: وقد علم أن الماضي المثبت إذا وقع حالاً لا بدّ أن

تكون فيه ظاهرة أو مقدّرة.
وقال غيره: قوله قد ظهر جملة مستأنفة لا في موضع الصفة ولا الخبر، ويجوز أن يكون يملك صفة أي هذا الرجل يملك هذه الأمة، وقد جاء النعت بعد النعت ثم حذف المنعوت انتهى.

( ثم كتب هرقل إلى صاحب له) يسمى ضغاطر الأسقف ( برومية) بالتخفيف أي فيها، وفي رواية ابن عساكر بالرومية وهي مدينة رياسة الروم، وقيل: إن دور سورها أربعة وعشرون ميلاً: ( وكان نظيره) ، وفي رواية ابن عساكر والأصيلي وكان هرقل نظيره ( في العلم، وسار هرقل إلى حمص) مجرور بالفتحة لأنه غير منصرف للعلمية والتأنيث لا للعلمية والعجمة على الصحيح لأنها لا تمنع صرف الثلاثي، وجوّز بعضهم صرفه كعدمه نحو هند وغيره من الثلاثي الساكن الوسط، ولم يجعل للعجمة أثرًا وإنما سار هرقل إلى حمص لأنها دار ملكه ( فلم يرم) هرقل ( حمص) بفتح المثناة التحتية وكسر الراء، أي لم يبرح منها أو لم يصل إليها ( حتى أتاه كتاب من صاحبه) ضغاطر ( يوافق رأي هرقل على خروج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي ظهوره ( وأنه نبي) بفتح الهمزة عطف على خروج، وهذا يدل على أن هرقل وصاحبه أقرّا بنبوّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن هرقل لم يستمر على ذلك ولم يعمل بمقتضاه بل شح بملكه ورغب في الرئاسة فآثرهما على الإسلام بخلاف صاحبه ضغاطر: فإنه أظهر إسلامه وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام فقتلوه ( فأذن) بالقصر من الإذن، وللمستملي وغيره فآذن بالمد أي أعلم ( هرقل لعظماء الروم في دسكرة) بمهملتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة وفتح الكاف والراء كائنة ( له بحمص) أي فيها، والدسكرة القصر حوله البيوت، ( ثم أمر بأبوابها) أي الدسكرة ( فغلقت) بتشديد اللام لأبي ذر وكأنه دخلها ثم أغلقها وفتح أبواب البيوت التي حولها وأذن للروم في دخولها ثم أغلقها، ( ثم اطلع) عليهم من علو خوف أن ينكروا مقالته فيقتلوه ثم خاطبهم ( فقال: يا معشر الروم هل لكم) رغبة ( في الفلاح والرشد) بالضم ثم السكون أو بفتحتين خلاف الغي، ( وأن يثبث) بفتح الهمزة وهي مصدرية عطفًا على قوله في الفلاح، أي وهل لكم في ثبوت ( ملككم فتبايعوا) بمثناة فوقية مضمومة ثم موحدة وبعد الألف مثناة تحتية منصوب بحذف النون بأن مقدرة في جواب الاستفهام، وفي نسخة بفرع اليونينية كأصلها فبايعوا بإسقاط المثناة قبل الموحدة، وفي رواية الأصيلي نبايع بنون الجمع ثم موحدة، وفي أخرى لأبي الوقت نتابع بنون الجمع أيضًا ثم مثناة فوقية فألف فموحدة، ولأبي ذر عن الكشميهني فتتابعوا بمثناتين فوقيتين وبعد الألف موحدة، فالثلاثة الأول من البيعة والتي بعدها من الاتباع كالرواية الأخرى لابن عساكر في نسخة فنتبع ( هذا النبي) ، وفي اليونينية بين الأسطر من غير رقم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي رواية ابن عساكر وأبي ذر لهذا باللام، وإنما قال هذا لما عرفه من الكتب السالفة أن التمادي على الكفر سبب لذهاب الملك.
ونقل أن في التوراة ونبيًّا مثلك أرسله أيّ إنسان لم يقبل كلامي الذي يؤدّيه عنّي فإني أهلكه ( فحاصوا) بمهملتين أي نفروا ( حيصة حمر الوحش) أي كحيصتها ( إلى الأبواب) المعهودة ( فوجدوها قد غلقت) بضم الغين المعجمة وكسر اللام مشددة، وشبه نفرتهم وجفلهم مما قال لهم من أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام بنفرة حمر

الوحش لأنها أشد نفرة من سائر الحيوانات، ( فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس) بهمزة ثم مثناة تحتية جملة حالية بتقدير قد، وفي رواية الأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني يئس بتقديم الياء على الهمزة وهما بمعنى والأوّل مقلوب من الثاني أي قنط، ( من الإيمان) أي من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لكونه شح بملكه: وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه ويسلم ويسلمون.
( قال: ردّوهم عليّ وقال) لهم ( إنّي قلت مقالتي آنفًا) بالمد مع كسر النون، وقد تقصر، وهو نصب على الظرفية.
أي.
قلت مقالتي هذه الساعة حال كوني ( اختبر) .
أي امتحن ( بها شدتكم) أي رسوخكم ( على دينكم فقد رأيت) شدتكم، فحذف المفعول للعلم به مما سبق.
وعند المؤلف في التفسير فقد رأيت منكم الذي أحببت.
( فسجدوا له) حقيقة على عادتهم لملوكهم أو قبلوا الأرض بين يديه لأن ذلك ربما كان كهيئة السجود، ( ورضوا عنه فكان ذلك آخر) بالنصب خبر كان ( شأن هرقل) فيما يتعلق بهذه القصة خاصة، أو فيما يتعلق بالإيمان، فإنه قد وقعت له أمور من تجهيز الجيش إلى مؤتة وتبوك ومحاربته للمسلمين، وهذا يدل ظاهره على استمراره على الكفر، ولكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لمملكته وخوفًا من أن يقتله قومه، إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إني مسلم قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بل هو على نصرانيته الحديث.

( رواه) أي حديث هرقل، وفي رواية ابن عساكر، ورواه بواو العطف، وفي رواية قال محمد أي البخاري رواه ( صالح بن كيسان) بفتح الكاف أبو محمد أو أبو الحرث الغفاري بكسر الغين المعجمة مخفف الفاء المدني المتوفى بعد الأربعين ومائة أو سنة خمس وأربعين ومائة عن مائة سنة ونيف وستين سنة.

( و) رواه أيضًا ( يونس) بن يزيد الأيلي، ( و) رواه ( معمر) بفتح الميمين بينهما عين ساكنة ابن راشد الثلاثة ( عن الزهري) .
فالأول أخرجه المصنف في الجهاد من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح عن الزهري، لكنه انتهى عند قول أبي سفيان حتى أدخل الله عليّ الإسلام وكذا مسلم، والثاني أيضًا بهذا الإسناد في الجهاد مختصرًا من طريق الليث، وفي الاستئذان أيضًا مختصرًا من طريق ابن المبارك كلاهما عن يونس عن الزهري بسنده بعينه، والثالث أيضًا بتمامه في التفسير.
فالأحاديث الثلاثة عند المصنف عن غير أبي اليمان والزهري إنما رواها لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عبيد الله بن عبد الله، وفي هذا الحديث من لطائف الإسناد رواية حمصي عن حمصي عن شامي عن مدني، وأخرج متنه المؤلف هنا.
وفي الجهاد والتفسير في موضعين، وفي الشهادات والجزية والأدب في موضعين، وفي الإيمان والعلم والأحكام والمغازي وخبر الواحد والاستئذان، وأخرجه مسلم في المغازي، وأبو داود في الأدب، والترمذي في الاستئذان، والنسائي في التفسير.
ولم يخرجه ابن ماجة ووجه مناسبة ذكر هذا الحديث في هذا الباب أنه مشتمل على ذكر جمل من أوصاف من يوحى إليه، والباب في كيفية بدء الوحي، وأيضًا فإنّ قصة هرقل متضمنة كيفية حاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ابتداء الأمر.


ولما فرغ المؤلف من باب الوحي الذي هو كالمقدمة لهذا الكتاب الجامع شرع يذكر المقاصد الدينية وبدأ منها بالإيمان لأنه ملاك الأمر كله، لأن الباقي مبنيّ عليه ومشروط به وهو أوّل واجب على المكلف فقال مبتدئًا: ( بسم الله الرحمن الرحيم) كأكثر كتب هذا الجامع تبركًا وزيادة في الاعتناء بالتمسك بالسُّنَّة، واختلفت الروايات في تقديمها هنا على كتاب أو تأخيرها عنه، ولكلٍّ وجه ووجه الثاني بأنه جعل الترجمة قائمة مقام تسمية السورة ووجه الأوّل ظاهر.