فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب التشهد في الآخرة

باب التَّشَهُّدِ فِي الآخِرَةِ
( باب) وجوب ( التشهد في) الجلسة ( الآخرة) .


[ قــ :809 ... غــ : 831 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْنَا: السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ.
فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ -فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ- أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
[الحديث 831 - أطرافه في: 835، 1202، 6230، 6265، 6328، 7381] .

وبه قال: ( حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين ( قال: حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران ( عن شقيق بن سلمة) هو أبو وائل ( قال: قال عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه ( كنّا إذا صلَّينا خلف النبيّ) ولأبي ذر والأصيلي: خلف رسول الله ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في رواية أبي داود عن مسدد: إذا جلسنا، ( قلنا) : السلام على الله من عباده، ( السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان) زاد في رواية عبدِ الله بن نمير عن الأعمش عند ابن ماجة: يعنون الملائكة.

والأظهر كما قاله أبو عبد الله الأبّي، أن هذا كان استحسانًا منهم، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يسمعه إلاّ حين أنكره عليهم.

قال: ووجه الإنكار عدم استقامة المعنى، لأنه عكس ما يجب أن يقال، كما يأتي قريبًا إن شاء الله.

وقوله: كنا، ليس من قبيل المرفوع، حتى يكون منسوخًا بقوله: إن الله هو السلام لأن النسخ إنما يكون فيما يصح معناه، وليس تكرر ذلك منهم مظنة سماعه له منهم، لأنه في التشهد، والتشهد سرّ.

( فالتفت إلينا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) : ظاهره أنه عليه الصلاة والسلام كلمهم في أثناء الصلاة، لكن في رواية حفص بن غياث، أنه بعد الفراغ من الصلاة ولفظه: فلما انصرف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الصلاة، قال:
( إن الله هو السلام) أي أنه اسم من أسمائه تعالى، ومعناه السالم من سمات الحدوث، أو المسلم عباده من المهالك، أو المسلم عباده في الجنة أو أن كل سلام ورحمة له ومنه وهو مالكهما ومعطيهما، فكيف يدعى له بهما وهو المدعو؟ وقال ابن الأنباري: أمرهم أن يصرفوه إلى الخلق
لحاجتهم إلى السلامة، وغناه سبحانه عنها، ( فإذا صلّى أحدكم) قال ابن رشيد: أي أتمّ صلاته، لكن تعذر الحمل على الحقيقة لأن التشهد لا يكون بعد السلام، فلما تعين المجاز كان حمله على آخر جزء من الصلاة أولى لأنه الأقرب إلى الحقيقة.
وقال العيني: أي إذا أتم صلاته بالجلوس في آخرها، فليقل وفي رواية حفص بن غياث فإذا جلس أحدكم في الصلاة ( فليقل) بصيغة الأمر المقتضية للوجوب، وفي حديث ابن مسعود عند الدارقطني بإسناد صحيح: وكنا لا ندري ما نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ( التحيات لله) جمع تحية وهو السلام أو البقاء، أو الملك، أو السلامة من الآفات، أو العظمة أي أنواع التعظيم له، وجمع لأن الملوك كان كل واحد منهم يحييه أصحابه بتحية مخصوصة، فقيل: جميعها لله وهو المستحق لها حقيقة، ( والصلوات) أي الخمس واجبة لله، لا يجوز أن يقصد بها غيره، أو هو إخبار عن قصد إخلاصنا له تعالى، أو العبادات كلها، أو الرحمة، لأنه المتفضل بها ( والطيبات) التي يصلح أن يثني على الله بها دون ما لا يليق به، أو ذكر الله أو الأقوال الصالحة.
أو التحيات: العبادات القولية، والصلوات: العبادات الفعلية، والطيبات: العبادات المالية.
وأتى بالصلوات والطيبات منسوقًا بالواو لعطفه على التحيات، أو أن الصلوات مبتدأ خبره محذوف والطيبات معطوف عليها، فالأولى عطف الجملة على الجملة والثانية عطف المفرد على الجملة، قاله البيضاوي.

وقال ابن مالك: إذا جعلت التحيات مبتدأ، أو لم تكن صفة لموصوف محذوف، كان قولك: والصلوات، مبتدأ، لئلا يعطف نعت على منعوته، فيكون من باب عطف الجمل بعضها على بعض، وكل جملة مستقلة بفائدتها.
وهذا المعنى لا يوجد عند إسقاط الواو.

وقال العيني: كل واحد من الصلوات والطيبات مبتدأ حذف خبره، أي الصلوات لله، والطيبات لله، فالجملتان معطوفتان على الأولى وهي: التحيات لله ..
( السلام) أي: السلامة من المكاره، أو السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء، أو الذي سلمه الله عليك ليلة المعراج ( عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) .
فأل للعهد التقريري، أو المراد حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد عمّن يصدر، وعلى من ينزل، فتكون أل للجنس أو هي للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى: { وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] .
وأصل سلام عليك: سلمت سلامًا، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره.
وإنما قال: عليك، فعدل عن الغيبة إلى الخطاب مع أن لفظ الغيبة يقتضيه السياق لأنه إتباع لفظ الرسول بعينه حين علم الحاضرين من أصحابه وأمرهم أن يفردوه بالسلام عليه لشرفه ومزيد حقه.
( السلام) الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء ( علينا) يريد به المصلي نفسه والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة ( وعلى عباد الله الصالحين) القائمين بما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وهو عموم بعد خصوص.


وجوّز النووي، رحمه الله، حذف اللام من السلام في الموضعين، قال: والإثبات أفضل وهو الموجود في روايات الصحيحين.
اهـ.

وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس، وهو من أفراد مسلم.

( فإنكم إذا قلتموها) أي قوله: وعلى عباد الله الصالحين ( أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض) جملة اعتراض بين قوله: الصالحين وتاليها الآتي، فائدة الإتيان بها الاهتمام بها لكونه أنكر عليهم عدّ الملائكة واحدًا واحدًا، ولا يمكن استيفاؤهم.

وفيه أن الجمع المحلى بالألف واللام للعموم، وأن له صيغًا، وهذه منها.
قال ابن دقيق العيد: وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب، وتصرفات ألفاظ الكتاب والسُّنّة.
اهـ
وفيه خلاف عند أهل الأصول.

( أشهد أن لا إله إلاّ الله) زاد ابن أبي شيبة: وحده لا شريك له.
وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ ( وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) بالإضافة إلى الضمير.

وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السُّنن: وأشهد أن محمدًا رسول الله بالإضافة إلى الظاهر وهو الذي رجّحه الشيخان الرافعي والنووي، وأن الإضافة للضمير لا تكفي.
لكن المختار أنه يجوز: ورسوله.
لما ثبت في مسلم، رواه البخاري هنا.

وحديث التشهد روي عن جماعة من الصحابة منهم:
ابن مسعود رضي الله عنه، رواه المؤلّف والباقون، ولفظ مسلم: علمني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
التشهد، كفى بين كفيه، كما يعلمنا السورة من القرآن، فقال: "إذا قعد أحدكم فليقل: إلخ.
وزاد في غير الترمذي وابن ماجة: "وليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به"، واختاره أبو حنيفة وأحمد والجمهور لأنه أصح ما في الباب، واتفق عليه الشيخان قال النووي: إنه أشدها صحة باتفاق المحدثين، وروي من نيف وعشرين طريقًا وثبتت فيه الواو بين الجملتين، وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فتكون كل جملة ثناء مستقلاً بخلاف غيرها من الروايات، فإنها ساقطة وسقوطها يصيرها صفة لما قبلها، ولأن السلام فيه معرّف وفي غيره منكر، والمعرّف أعمّ.

ومنهم ابن عباس عند الجماعة إلا البخاري ولفظه: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، وكان يقول: "التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله.
السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد

أن محمدًا رسول الله".
واختاره الإمام الشافعي، رحمه الله، لزيادة لفظ: المباركات فيه.
وهي موافقة
لقوله تعالى: { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] .

وأجيب: بأن الزيادة مختلف فيها، وحديث ابن مسعود متفق عليه.

ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رواه الطحاوي عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه سمع عمر بن الخطاب يعلم الناس التشهد على المنبر، وهو يقول: "التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".
واختاره ابن مالك.
لأنه علمه الناس على المنبر ولم ينازعه أحد، فدلّ على تفضيله وتعقب بأنه موقوف، فلا يلحق بالمرفوع.

وأجيب بأن ابن مردويه رواه في كتاب التشهد مرفوعًا.

ومنهم ابن عمر، عند أبي داود والطبراني في الكبير.

ومنهم عائشة عند البيهقي.

ومنهم جابر بن عبد الله عند النسائي، وابن ماجة، والترمذي في العلل، ولفظه كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: "بسم الله، وبالله، التحيات لله ... إلخ".

وصححه الحاكم، لكن ضعفه البخاري والترمذي والنسائي والبيهقي، كما قاله النووي في الخلاصة.

ومنهم أبو سعيد الخدري عند الطحاوي.

ومنهم أبو موسى الأشعري عند مسلم، وأبي داود، والنسائي.

ومنهم سلمان الفارسي عند البزار.

ومذهب الشافعي أن التشهد الأول سنة، والثاني واجب، وقال أبو حنيفة ومالك: سنتان.

وقال أحمد: الأول واجب يجبر تركه بالسجود، والثاني ركن تبطل الصلاة بتركه.

ورواة حديث الباب ما بين حمصي ومدني، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة وأخرجه المؤلّف أيضًا في الصلاة وكذا مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.