فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب فضل الجمعة

باب فَضْلِ الْجُمُعَةِ
( باب فضل الجمعة) شامل لليوم والصلاة.


[ قــ :855 ... غــ : 881 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَىٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ».

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي ( قال: أخبرنا مالك) الإمام ( عن سميّ) بضم المهملة وفتح الميم ( مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح) ذكوان ( السمان) نسبة إلى بيعه، ( عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( من اغتسل يوم الجمعة) من ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد ( غسل الجنابة) بنصب اللام، صفة لمصدر محذوف، أي: غسلاً كغسل الجنابة.
وعند عبد الرزاق من رواية ابن جريج، عن سميّ: "فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة" فالتشبيه للكيفية لا للحكم، أو أشار به إلى الجماع يوم الجمعة، ليغتسل فيه من الجنابة، ليكون أغضّ لبصره، وأسكن لنفسه في الرواح إلى الجمعة.
ولا تمتد عينه إلى شيء يراه ( ثم راح) أي ذهب، زاد في الموطأ: في الساعة الأولى.
وصحح النووي، رحمه الله وغيره، إنها من طلوع الفجر، لأنه أول اليوم شرعًا: لكن يلزم منه أن يكون التأهب قبل طلوع الفجر.
وقد قال الشافعي، رحمه الله: يجزئ الغسل إذا كان بعد الفجر، فأشعر بأن الأولى أن يقع بعد ذلك.
( فكأنما قرّب بدنة) من الإبل، ذكرًا أم أُنثى، والتاء للوحدة لا للتأنيث، أي: تصدق بها متقربًا إلى الله تعالى.
وفي رواية ابن جريج عند عبد الرزاق: فله من الأجر مثل الجزور،

وظاهره: أن الثواب لو تجسد لكان قدر الجزور.
( ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرّب بقرة) ذكرًا أو أُنثى، والتاء للوحدة، ( ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا) ذكرًا ( أقرن) وصفه به لأنه أكمل وأحسن صورة، ولأن قرنه ينتفع به.
وفي رواية النسائي: ثم كالمهدي شاة.
( ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة) بتثليث الدال والفتح هو الفصيح ( ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة) .

استشكل التعبير: بالدجاجة والبيضة بقوله، في رواية الزهري: كالذي يهدي، لأن الهدي لا يكون منهما.

وأجيب: بأنه من باب المشاكلة، أي من تسمية الشيء، باسم قرينه، والمراد بالهدي هنا التصدق، كما دلّ عليه لفظ: قرب وهو يجوز بهما.

والمراد بالساعات عند الجمهور من أوّل النهار، وهو قول الشافعي رحمه الله، وابن حبيب من المالكية، وليس المراد من الساعات الفلكية الأربعة والعشرين التي قسم عليها الليل والنهار، بل ترتيب درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة، لئلا يستوي فيه رجلان جاءا في طرفي ساعة، ولأنه لو أريد ذلك لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف.

وقال في شرح المهذّب، وشرح مسلم: بل المراد الفلكية، لكن بدنة الأوّل أكمل من بدنة الأخير، وبدنة المتوسط متوسطة، فمراتبهم متفاوتة، وإن اشتركوا في البدنة مثلاً، كما في درجات صلاة الجماعة الكثيرة والقليلة، وحينئذٍ فمراده بساعات النهار الفلكية اثنتا عشرة زمانية صيفًا أو شتاءً.

وقد روى النسائي مرفوعًا: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة.
وقال الماوردي: إنه من طلوع الشمس موافقة لأهل الميقات، ليكون ما قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب.

واستشكل بأن الساعات ست لا خمس، والجمعة لا تصح في السادسة بل في السابعة.

نعم، عند النسائي بإسناد صحيح بعد الكبش: بطة، ثم دجاجة ثم بيضة.
وفي أخرى: دجاجة ثم عصفورًا، ثم بيضة.

ومعلوم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يخرج إلى الجمعة متصلاً بالزوال، وهو بعد انقضاء الساعة السادسة.

وفي حديث واثلة عند الطبراني في الكبير مرفوعًا: "إن الله تعالى يبعث الملائكة يوم الجمعة على أبواب المسجد يكتبون القوم: الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس، فإذا بلغوا السابع كانوا بمنزلة من قرب العصافير".

وقال مالك، رحمه الله، وإمام الحرمين، والقاضي حسين: إنها لحظات لطيفة بعد الزوال، لأن الرواح لغة لا يكون إلا من الزوال، والساعة في اللغة الجزء من الزمان، وحملها على الزمانية التي

يقسم النهار فيها إلى اثني عشر جزءًا يبعد إحالة الشرع عليه لاحتياجه إلى حساب ومراجعة آلات تدل عليه، ولأنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول، فالمتهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة، الحديث.

فإن قالوا: قد تستعمل الهاجرة في غير موضعها فيجب الحمل عليه جمعًا.

قلنا: ليس إخراجها عن ظاهرها بأولى من إخراج الساعة الأولى عن ظاهرها، فإذا تساويا على ما زعمت فما أرجح؟
قلت: عمل الناس جيلاً بعد جيل، لم يعرف أن أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم كان يأتي المسجد لصلاة الجمعة عند طلوع الشمس، ولا يمكن حمل حالهم على ترك هذه الفضيلة العظيمة.
اهـ.

وأجيب: بأن الرواح، كما قاله الأزهري، يطلق لغة على الذهاب، سواء كان أول النهار أو آخره أو الليل، وهذا هو الصواب الذي يقتضيه الحديث، والمعنى: فدلّ على أنه لا فضيلة لمن أتى بعد الزوال، لأن التخلّف بعد النداء حرام، ولأن ذكر الساعات إنما هو للحثّ على التبكير إليها والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل الصف الأول، وانتظارها والاشتغال بالتنفل والذكر ونحوه، وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال.
وحكى الصيدلاني: أنه من ارتفاع النهار وهو وقت الهجير.

( فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة) الذين وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة، وما تشتمل عليه من ذكر وغيره، وهم غير الحفظة ( يستمعون الذكر) أي الخطبة.

وزاد في رواية الزهري الآتية طووا صحفهم.
ولمسلم من طريقه: فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر.
فكان ابتداؤه خروج الإمام، وانتهاؤه بجلوسه على المنبر وهو أول سماعهم للذكر.

وفي حديث ابن عمر عند أبي نعيم في الحلية مرفوعًا "إذا كان يوم اجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور"، الحديث.
ففيه صفة الصحف، وأن الملائكة المذكورين غير الحفظة.

والمراد بطيّ الصحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعًا.

وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن خزيمة: "فيقول بعض الملائكة لبعض: ما حبس فلانًا؟ فيقول: اللهم إن كان ضالاًّ فاهده، وإن كان فقيرًا فأغنه وإن كان مريضًا فعافه".


وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما ذكر فضل الاغتسال يوم الجمعة، وفضل التبكير إليها.

وإن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما، وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل، ولو تعارض الغسل والتبكير فمراعاة الغسل، كما قال الزركشي أولى، لأنه مختلف في وجوبه، ولأن نفعه متعدٍّ إلى غيره بخلاف التبكير.

تنبيه:
السُّنَّة في التبكير إنما هي لغير الإمام، أما الإمام فيندب له التأخير إلى وقت الخطبة لاتباعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخلفائه.
قاله الماوردي، ونقله في المجموع، وأقرّه.
والله أعلم.


باب
هذا ( باب) بالتنوين من غير ترجمة، وهو كالفصل من الباب السابق.


[ قــ :856 ... غــ : 88 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه- بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ.
فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلاَّ سَمِعْتُ النِّدَاءَ فَتَوَضَّأْتُ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ".

وبه قال: ( حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين ( قال: حدّثنا شيبان) بفتح المعجمة والموحدة، ابن عبد الرحمن التميمي النحوي، نسبة إلى بطن من الأزد، لا إلى علم النحو، البصري، نزيل الكوفة ( عن يحيى) زاد أبو ذر: هو ابن أبي كثير ( عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل ( عن أبي هريرة) رضي الله عنه ( أن عمر) بن الخطاب ( رضي الله عنه، بينما) بالميم ( هو يخطب يوم الجمعة) أي: على المنبر، وجواب بينما، قوله، ( إذ دخل رجل) هو عثمان بن عفان رضي الله عنه ( فقال) له ( عمر) وللأصيلي: عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ( لم تحتبسون عن) الحضور إلى ( الصلاة) في أول وقتها؟ ( فقال الرجل) عثمان: ( ما هو) أي الاحتباس ( إلا أن سمعت النداء) الأذان، ولغير أبي ذر والأصيلي وابن عساكر: إلاّ سمعت النداء ( فتوضأت فقال) : عمر له ولمن حضر من الصحابة: ( ألم تسمعوا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) كذا لأبي ذر والأصيلي، ولغيرهما: قال:
( إذا راح أحدكم) أي: أراد أحدكم الرواح ( إلى) صلاة ( الجمعة فليغتسل) ندبًا، كما مرّ.

ووجه مطابقته للترجمة السابقة من حيث إنكار عمر على عثمان احتباسه عن التبكير بمحضر من الصحابة، وكبار التابعين، مع عظم جلالته، فلولا عظم فضل ذلك لما أنكر عليه، وإذا ثبت الفضل في التبكير إلى الجمعة ثبت الفضل لها.


ورواة الحديث الخمسة ما بين كوفي ويماني ومدني، وفيه التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه مسلم في الصلاة، وأبو داود في الطهارة، والله أعلم.