فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الجمعة في القرى والمدن

باب الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدْنِ
( باب) حكم الصلاة ( الجمعة في القرى) والقرية: واحدة القرى، كل مكان اتصلت فيه الأبنية واتخذ قرارًا، ويقع ذلك على المدن وغيرها، والأمصار المدن الكبار، واحدها مصر، والكفور القرى الخارجة عن المصر، وأحدها كفر.
بفتح الكاف ( والمدن) بضم الميم وسكون الدال، جمع مدينة.
وقد تضم الدال.
وللأصيلي: والمدائن، بفتح الميم والدال، جمع مدينة أيضًا، قال أبو علي الفسوي: بالهمزة إن كان من: مدن، وبتركه إن كان من: دين أي ملك.


[ قــ :866 ... غــ : 892 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ -بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ".
[الحديث 892 - طرفه في: 4371] .

وبالسند قال: ( حدّثنا) بالجمع، ولأبي الوقت ونسخة لأبي ذر: حدّثني ( محمد بن المثنى) العنزي البصري ( قال: حدّثنا أبو عامر) عبد الملك بن عمر ( العقدي) بفتح العين المهملة والقاف، نسبة إلى العقد، قوم من قيس ( قال: حدّثنا إبراهيم بن طهمان) بفتح المهلة وسكون الهاء، الخراساني ( عن أبي جمرة) بالجيم والراء، نصر بن عبد الرحمن بن عصام ( الضبعي) بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة وبالعين المهملة، نسبة إلى ضبيعة، أبي حي من بكر بن وائل ( عن ابن عباس) رضي الله عنهما ( أنه قال: إن أول جمعة جمعت) بضم الجيم وتشديد الميم المكسورة، وزاد في رواية أبي داود، عن وكيع، عن ابن طهمان في الإسلام ( بعد جمعة) زاد المصنف في أواخر المغازي: جمعت ( في
مسجد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أي: في المدينة، ما في رواية وكيع ( في مسجد عبد القيس) قبيلة كانوا
ينزلون البحرين، موضع قريب من عمان، بقرب القطيف والأحشاء ( بجؤاثى من البحرين) بضم الجيم وتخفيف الواو، وقد تهمز ثم مثلثة خفيفة، وهي قرية من قرى عبد القيس، أو مدينة أو حصن، وفي رواية وكيع: قرية من قرى البحرين.

واستدلّ به إمامنا الأعظم الشافعي، وأحمد على: أن الجمعة تقام في القرية إذا كان فيها أربعون رجلاً أحرارًا بالغين، مقيمين، ولا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاء إلا لحاجة، سواء كانت أبنيتها من حجر أو طين، أو خشب أو قصب، أو نحوها، فلو انهدمت أبنيتها فأقام أهلها على العمارة لزمتهم الجمعة فيها، لأنها وطنهم، سواء كانوا في مظال أم لا، وسواء فيها المسجد والدار والفضاء، بخلاف الصحراء.

وخصه المالكية بالجامع المبني، وبالعتيق: في كل قرية فيها مسجد وسوق.


واشترط الحنفية لإقامتها المصر أو فناءه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا جمعة ولا تشريق إلاّ في مصر جامع".
رواه عبد الرزاق.

وأجابوا عن قوله جؤاثى: إنها مدينة، كما قاله البكري، وقول امرئ القيس:
ورحنا كأنا من جؤاثى عشية ... نعالي النعاج بين عدل ومحقب
يريد: كأنا من تجار جؤاثى لكثرة ما معهم من الصيد، وأراد: كثرة أمتعة تجار جؤاثى، وكثرة الأمتعة تدل غالبًا على كثرة التجار، وكثرة التجار تدل على أن جؤاثى مدينة قطعًا، لأن القرية لا يكون فيها تجار غالبًا عادة، ولئن سلمنا أنها قرية، فليس في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام اطّلع على ذلك وأقرّهم عليه.
اهـ.

وقد سبق في نفس الحديث من رواية وكيع: أنها قرية من قرى البحرين، وفي أخرى عنه: من قرى عبد القيس.
وكذا للإسماعيلي من رواية محمد بن أبي حفصة، عن ابن طهمان، وهو نص في موضع النزاع، فالمصير إليه أولى من قول البكري وغيره، على أنه يحتمل أنها كانت في الأول قرية، ثم صارت مدينة.

والظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدل جابر وأبو سعيد على جواز العزل، بأنهم فعلوه والقرآن ينزل، فلم ينهوا عنه.

والمصر عند أبي حنيفة، رحمه الله: كل بلدة فيها ملك وأسواق ولها رساتيق ووالٍ لدفع الظلم، وعالم يرجع إليه في الحوادث.

وعند أبي يوسف، رحمه الله: كل موضع له أمير وقاضٍ ينفذ الأحكام، وهو مختار الكرخي، وعنه أيضًا أن: يبلغ سكانه عشرة آلاف، وأما فناؤه فهو ما أعدّ لحوائج المصر، من: ركض الخيل، والخروج للرمي، وغيرهما.

وفي الخانية: لا بدّ أن يكون متصلاً بالمصر، حتى لو كان بينه وبين المصر فرجة، من المزارع والمراعي لا يكون فناء له، ومقدار التباعد أربعمائة ذراع، وعند أبي يوسف ميلان.
اهـ.

ورواة هذا الحديث ما بين بصري وهروي، وفيه التحديث والعنعنة والقول.




[ قــ :867 ... غــ : 893 ]
- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ».
وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ: يُونُسُ كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ -وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي الْقُرَى-: هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ؟ وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ يَعْمَلُهَا وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَيْلَةَ، فَكَتَبَ ابْنُ شِهَابٍ -وَأَنَا أَسْمَعُ- يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَمِّعَ، يُخْبِرُهُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ

عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ -قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
[الحديث 893 - أطرافه في: 409، 554، 558، 751، 5188، 500، 7138] .

وبه قال: ( حدّثنا بشر بن محمد) بكسر الموحدة وسكون المعجمة ( المروزي) السجستاني، وسقط: المروزي، عند ابن عساكر ( قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك ( قال: أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي ( عن) ابن شهاب ( الزهري) أنه ( قال: أخبرنا) بالجمع، ولأبي ذر وابن عساكر: أخبرني ( سالم بن عبد الله) بن عمر، وسقط: ابن عبد الله للأربعة ( عن ابن عمر) بن الخطاب ( رضي الله عنهما) أنه ( قال: سمعت) ولكريمة: قال إن ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) :
( كلكم راعٍ) أي: حافظ ملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره، فكل مَن كان تحت نظره شيء فهو مطلوب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ومتعلقاته، فإن وفى ما عليه من الرعاية، حصل له الحظ الأوفر، والجزاء الأكبر، وإلاَّ طالبه كل واحد من رعيته في الآخرة بحقه.

( وزاد الليث) بن سعد، إمام المصريين، رحمه الله، في روايته على رواية عبد الله بن المبارك، مما وصله الذهلي عن أبي صالح، كاتب الليث، عنه ( قال يونس) بن يزيد: ( كتب رزيق بن حكيم) بتقديم الراء المضمومة على الزاي المفتوحة في الأوّل، وضم الحاء المهملة وفتح الكاف على صيغة تصغير الثلاثي في الثاني، الفزاري، مولى بني فزارة، ولابن عساكر: وكتب ( إلى ابن شهاب) الزهري ( وأنا معه يومئذ بوادي القرى) من أعمال المدينة، فتحه عليه الصلاة والسلام في جمادى الآخرة سنة سبع من الهجرة، لما انصرف من خيبر.

( هل ترى أن أجمع) أي: أن أصلي بمن معي الجمعة بضم الهمزة وتشديد الميم المكسورة، ( ورزيق) يومئذ ( عامل على أرض يعملها) أي يزرعها ( وفيها جماعة من السودان وغيرهم، ورزيق يومئذ) أمير من قبل عمر بن عبد العزيز ( على أيلة) بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية وفتح اللام، كانت مدينة ذات قلعة، وهي الآن خراب ينزل بها حجاج مصر وغزة، وبعض آثارها ظاهر.

والذي يظهر أنه سأله عن إقامة الجمعة في الأرض التي كان يزرعها من أعمال أيلة، لا عن أيلة نفسها، لأنها كانت بلدًا لا يسأل عنها.

قال يونس: ( فكتب) إليه ( ابن شهاب) بخطه وقرأه ( وأنا أسمع) حال كونه ( يأمره) أي: ابن شهاب يأمر رزيق بن حكيم في كتابه إليه: ( أن يجمع) أي: بأن يصلّي بالناس الجمعة، أو أملاه ابن شهاب على كاتبه، فسمعه يونس منه، فالمكتوب الحديث، والمسموع المأمور به.
كذا قرره البرماوي كالكرماني.


وقال في الفتح: والذي يظهر أن المكتوب عين المسموع، وهو الأمر والحديث معًا.

ثم استدل ابن شهاب على أمره رزيق بن حكيم بالجمعة، حال كونه ( يخبره) أي: رزيقًا في كتابه إليه، والجملة حالية من الضمير المرفوع فهي متداخلة والحالان السابقان، أعني: وأنا أسمع، ويأمره، مترادفان ( أن سالمًا حدّثه أن) أباه ( عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( يقول) ولأبي ذر وابن عساكر عن الكشميهني: قال: ( سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حال كونه يقول) :
( كلكم راعٍ وكلكم) في الآخرة ( مسؤول عن رعيته) ولأبى الوقت: وابن عساكر، والأصيلي: كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته: ( الإمام راعٍ) فيمن ولي عليهم، يقيبم فيهم الحدود والأحكام على سنن الشرع.

وهذا موضع الترجمة، لأنه لما كان رزيق عاملاً من جهة الإمام على الطائفة التي ذكرها، فكان عليه أن يراعي حقوقهم، ومن جملتها إقامة الجمعة، فيجب عليه إقامتها وإن كانت في قرية.

فهو راع عليهم ( ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله) يوفّيهم حقهم من النفقة والكسوة والعشرة ( وهو مسؤول عن رعيته) سقط لفظ: وهو عند الأربعة في رواية الكشميهني ( والمرأة راعية في بيت زوجها) بحسن تدبيرها في المعيشة والنصح له، والأمانة في ماله، وحفظ عياله، وأضيافه ونفسها، ( ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده) يحفظه ويقوم بما يستحق من خدمته ( ومسؤول عن رعيته) .

( قال) ابن عمر، أبو سالم، أو يونس ( وحسبت أن قد قال) كلمة: أن، مخففة من الثقيلة، ولأبي ذر والأصيلي عن الكشميهني: أنه قال، أي: النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
( والرجل راعٍ في مال أبيه) يحفظه ويدبر مصلحته ( ومسؤول) وفي رواية أبي ذر والأصيلي: وهو مسؤول ( عن رعيته، وكلكم راعٍ) أي: مؤتمن حافظ ملتزم إصلاح ما قام عليه ( ومسؤول عن رعيته) ولابن عساكر: "فكلكم راعٍ مسؤول عن رعيته، بالفاء بدل الواو، وإسقاط الواو من: ومسؤول، ولأبي ذر في نسخة: "فكلكم راعٍ".
بالفاء، "وكلكم مسؤول"، وكذا للأصيلي، لكنه قال: "بالواو" بدل الفاء.

وفي هذا الحديث من النكت أنه: عمم أوّلاً، ثم خصص ثانيًا.
وقسم الخصوصية إلى أقسام: من جهة الرجل، ومن جهة المرأة، ومن جهة الخادم، ومن جهة النسب.
ثم عمم ثالثًا وهو قوله: "وكلكم راعٍ" ... إلخ ... تأكيدًا، وردًّا للعجز إلى الصدر بيانًا لعموم الحكم أوّلاً وآخرًا.

قيل: وفي الحديث: أن الجمعة تقام بغير إذن من السلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم، وهذا مذهب الشافعية إذ إذن السلطان عندهم ليس شرطًا لصحتها، اعتبارًا بسائر الصلوات.


وبه قال المالكية وأحمد في رواية عنه.

وقال الحنفية وهو رواية عن أحمد أيضًا: إنه شرط، لقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن ترك الجمعة وله إمام، جائر أو عادل، لا جمع الله شمله".
رواه ابن ماجة والبزار وغيرهما، فشرط فيه أن يكون له إمام ويقوم مقامه نائبه وهو الأمير، أو القاضي، وحينئذ فلا دلالة فيه للشافعية، لأن رزيقًا كان نائب الإمام.

ورواة الحديث ما بين مدني ومروزي وأيلي، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة والقول والسماع والكتابة، وشيخ المؤلّف من أفراده، وأخرجه أيضًا في: الوصايا والنكاح، ومسلم في: المغازي، وكذا الترمذي.