فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته

باب مَنْ تَمَطَّرَ فِي الْمَطَرِ حَتَّى يَتَحَادَرَ عَلَى لِحْيَتِهِ
( باب من تمطّر في المطر) بتشديد الطاء كتفعل، أي: تعرض للمطر، وتطلب نزوله عليه ( حتى يتحادر) المطر ( على لحيته) لأنه حديث عهد بربه كما في مسلم أي: قريب العهد بتكوين ربه، ولم

تمسه الأيدي الخاطئة ولم تكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير الله تعالى.
ولله در القائل:
تضوع أرواح نجد من ثيابهم ... عند القدوم لقرب العهد بالدار

[ قــ :999 ... غــ : 1033 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: "أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَسْقِيَنَا.
قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ.
قَالَ: فَثَارَ سَحَابٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ.
قَالَ: فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ وَفِي الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ وَالَّذِي يَلِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى.
فَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ أَوْ رَجُلٌ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ.

     وَقَالَ : اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا.
قَالَ: فَمَا جَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلاَّ تَفَرَّجَتْ، حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ فِي مِثْلِ الْجَوْبَةِ، حَتَّى سَالَ الْوَادِي -وَادِي قَنَاةَ- شَهْرًا، قَالَ: فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلاَّ حَدَّثَ بِالْجَوْدِ".

وبالسند قال: ( حدّثنا محمد) ولأبوي ذر؟ والوقت، وابن عساكر: محمد بن مقاتل ( قال: أخبرنا عبد الله) ولأبي ذر: عبد الله بن المبارك ( قال: أخبرنا الأوزاعي) أبو عمرو، عبد الرحمن ( قال: حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري) المدني ( قال: حدّثني) بالإفراد ( أنس بن مالك) رضي الله عنه ( قال) :
( أصابت الناس سنة) بفتح السين أي: شدة وجهد من الجدب، فاعل مؤخر، ( على عهد رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فبينا) بغير ميم بعد النون ( رسول الله) ولأبي ذر: النبي ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يخطب على المنبر يوم الجمعة، قام أعرابي) من أهل البدو، لا يعرف اسمه ( فقال: يا رسول الله! هلك المال) ألفه منقلبة عن واو بدليل ظهورها في الجمع.

وإنما جمع وإن كان اسم جنس، لاختلاف أنواعه، وهو: كل ما يتملك وينتفع به.
والمراد به هنا: مال خاص، وهو ما يتضرر بعدم المطر من الحيوان والنبات، لكن لا مانع من حمله على عمومه على معنى: أن شدة الغلاء تذهب أموال الناس في شراء ما يقتاتون به، فقد هلكت الأموال.
وإن اختلف السبب.

( وجاع العيال) لقلة الأقوات أو عدمها بحبس المطر ( فادع الله لنا أن يسقينا) .

( قال) أنس: ( فرفع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه) أي: حتى رئي بياض إبطيه ( وما في السماء قزعة) بفتحات، قطعة من سحاب ( قال) أنس: ( فثار السحاب) بالمثلثة، وفى نسخة اليونينية: سحاب،

أي: هاج ( أمثال الجبال) لكثرته ( ثم لم ينزل) عليه الصلاة والسلام ( عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته) المقدسة، وهذا موضع الترجمة، لأن تفعّل، في قوله: تمطر، كما قال في الفتح: الأليق به هنا أن يكون بمعنى مواصلة العمل في مهلة، نحو: تفكّر.

وكأن المؤلّف أراد أن يبين أن تحادر المطر على لحيته عليه الصلاة والسلام، لم يكن اتفاقًا إذ كان يمكنه التوقي منه بثوب ونحوه، كما قاله في المصابيح، أو بنزوله عن المنبر أول ما وكف السقف، لكنه تمادى في خطبته حتى كثر نزوله بحيث تحادر على لحيته، كما قاله في الفتح، فترك فعل ذلك قصدًا للتمطر.

وتعقبه العيني: بأن، يأتي لمعان: للتكلف، كتشجع لأن معناه كلف نفسه الشجاعة، وللاتخاذ: نحو: توسدت التراب، أي اتخذته وسادة.
وللتجنب: نحو، تأثم أي جانب الإثم.
وللعمل: يعني فيدل على أن أصل الفعل حصل مرة بعد مرة نحو: تجرعته، أي شربته جرعة بعد جرعة.

قال ولا دليل في قوله: حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، على التمطر الذي هو من التفعل الدال على التكلف، ودعوى أنه قصد التمطر لا برهان عليها، وليس في الحديث ما يدل لها.

واستدلاله بقوله: لأنه لو لم يكن باختياره لنزل عن المنبر لا يساعده لأن لقائل أن يقول: عدم نزوله عن المنبر، إنما كان لئلا يقطع الخطبة.
كذا قال فليتأمل.

( قال) أنس ( فمطرنا يومنا) ظرف، أي: في يومنا ( ذلك، وفي الغد) ولأبوي ذر: والوقت، والأصيلي، وابن عساكر: ومن الغد ( ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو) قال أنس: قام ( رجل غيره) ولا منافاة بين تردد أنس هنا وبين قوله في الرواية الأخرى: فأتى الرجل بالألف واللام المفيدة للعهد الذكري إذ ربما نسي، ثم تذكر، أو كان ذاكرًا ثم نسي.

( فقال: يا رسول الله! تهدم البناء وغرق المال) من كثرة المطر ( فادع الله لنا) يمسكها عنا.
( فرفع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه، وقال) بالواو، ولأبي ذر وابن عساكر.
وأبي الوقت: فقال:
( اللهم) أي: يا الله أنزل المطر ( حوالينا ولا) تنزله ( علينا) وفي بعض الروايات: حولنا من غير ألف، وهما بمعنى.
وهو في موضع نصب إما على الظرف، وإما على المفعول به.

والمراد بحوالى المدينة: مواضع النبات أو الزرع، لا في نفس المدينة وبيوتها، ولا فيما حوالى المدينة من الطرق، إلا لم تزل بذلك شكواهم جميعًا.

ولم يطلب عليه الصلاة والسلام رفع المطر من أصله، بل سأل رفع ضرره، وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق، بحيث لا يتضرر به ساكن ولا ابن سبيل، بل سأل إبقاءه في مواضع الحاجة، لأن

الجبال والصحارى، ما دام المطر فيها، كثرت الفائدة فيها في المستقبل من كثرة المرعى والمياه وغير ذلك من المصالح، وفي هذا دليل على قوّة إدراكه عليه الصلاة والسلام للخير على سرعة البديهة.

( قال) أنس: ( فما جعل) عليه الصلاة والسلام ( يشير بيده) ولأبي ذر: فما جعل يشير رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده ( إلى ناحية من السماء إلا تفرجت) بفتح المثناة الفوقية والفاء وتشديد الراء بالجيم، أي: تقطع السحاب، وزال عنها امتثالاً لأمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
وفيه دلالة على عظم معجزته عليه الصلاة والسلام، وهو: أن سخرت له السحب كلما أشار إليها امتثلت بالإشارة دون كلام ( حتى صارت المدينة في مثل الجوبة) بفتح الجيم وسكون الواو وبالموحدة، أي: تقطع السحاب عن المدينة وصار مستديرًا حواليها، وهي خالية منه ( حتى سال الوادي- وادي قناة) بفتح القاف والنون الخفيفة، واد من أودية المدينة عليه حرث ومزارع، وأضافه هنا إلى نفسه، أي: جرى فيه الماء من المطر ( شهرًا) .

وهو من أبعد أمد المطر الذي يصلح الأرض التي هي متوعرة جبلية، لأنه يتمكن في تلك الأيام بطولها الري فيها، لأنها بارتفاع أقطارها لا يثبت الماء عليها فتبقى فيها حرارة، فإذا دام سكب المطر عليها قلت تلك الحرارة وخصبت الأرض.

( قال) أنس: ( فلم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود) بفتح الجيم وسكون الواو، أي: بالمطر الكثير.