فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب صلاة الكسوف جماعة وصلى ابن عباس لهم في صفة زمزم وجمع علي بن عبد الله بن عباس وصلى ابن عمر

باب صَلاَةِ الْكُسُوفِ جَمَاعَةً
وَصَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ فِي صُفَّةِ زَمْزَمَ.
وَجَمَعَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ.

( باب) مشروعية ( صلاة الكسوف جماعة) .

( وصلّى ابن عباس) رضي الله عنهما ( بهم) بالقوم، ولأبوي ذر، والوقت، والأصيلي: وصلّى لهم ابن عباس ( في صفة زمزم) وصله الإمام الأعظم الشافعي، وسعيد بن منصور، بلفظ: كسفت الشمس، فصلّى ابن عباس في صفة زمزم ست ركعات في أربع سجدات.

( وجمع) بتشديد الميم، وفي اليونينية؛ بالتخفيف ( علي بن عبد الله بن عباس) التابعي، المدعوّ بالسجاد، لأنه كان يسجد كل يوم ألف سجدة، وهو جد الخلفاء العباسيين.
ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب، فسمي باسمه، أي: جمع الناس لصلاة الكسوف.

( وصلى ابن عمر) بن الخطاب صلاة الكسوف بالناس، وهذا وصله ابن أبي شيبة بمعناه، ومراد المؤلّف بذلك كله الاستشهاد على مشروعية الجماعة في صلاة الكسوف.


[ قــ :1019 ... غــ : 1052 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ.
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَعْكَعْتَ.
قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا وَلَوْ أَصَبْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا.
وَأُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ.
وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ.
قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ.
قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ".

وبالسند قال: ( حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي ( عن مالك) الإمام ( عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار) بمثناة تحتية، وسين مهملة مخففة ( عن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما ( قال انخسفت الشمس) بنون بعد ألف الوصل ثم خاء، ( على عهد رسول الله) أي: زمنه، ولأبي ذر، في نسخة، والأصيلي، وأبي الوقت: على عهد النبي ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فصلّى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي: بل الجماعة ليدل على الترجمة ( فقام قيامًا طويلاً نحوًا من قراءة سورة البقرة) وهو يدل على أن القراءة كانت سرًا، ولذا قالت عائشة، كما في بعض الطرق عنها: فحزرت قراءته، فرأيت أنه قرأ سورة البقرة.

وأما قول بعضهم: إن ابن عباس كان صغيرًا، فمقامه آخر الصفوف، فلم يسمع القراءة، فحزر المدة.
فمعارض بأن في بعض طرقه: قمت إلى جانب النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فما سمعت منه حرفًا.

ذكره أبو عمر.

( ثم ركع ركوعًا طويلاً) نحوًا من مائة آية ( ثم رفع) من الركوع ( فقام قيامًا طويلاً) نحوًا من قراءة آل عمران ( وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً) نحوًا من ثمانين آية ( وهو دون الركوع الأول، ثم سجد) أي: سجدتين ( ثم قام قيامًا طويلاً) نحوًا من النساء ( وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً) نحوًا من سبعين آية ( وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، فقام قيامًا طويلاً) نحوًا من المائدة ( وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً) نحوًا من خمسين آية ( وهو دون الركوع الأول، ثم سجد) سجدتين ( ثم انصرف) من الصلاة ( وقد تجلت الشمس) أي: بين جلوسه في التشهد والسلام.
كما دل عليه قوله في الباب السابق: ثم جلس، ثم جلي عن الشمس.


( قال) بالفاء، وللأصيلي: وقال: "-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"
( إن الشمس والقمر) كسوفهما ( آيتان من آيات الله لا يخسفان) بفتح الياء وسكون الخاء وكسر السين ( لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فاذكروا الله قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئًا في مقامك) كذا للأكثر: تناولت بصيغة الماضي، وللكشميهني: تناول، بحذف إحدى التاءين تخفيفًا، وضم اللام بالخطاب، وللمستملي: تتناول، بإثباتها ( ثم رأيناك كعكعت) بالكافين المفتوحتين والممهملتين الساكنتين، وللكشميهني: تكعكعت، بزيادة مثناة فوقية أوّله، أي: تأخرت، أو تقهقرت.

وقال أبو عبيدة: كعكعته فتكعكع، وهو يدل على: أن كعكع متعد، وتكعكع لازم.
وكعكع يقتضي مفعولاً، أي: رأيناك كعكعت نفسك.
ولمسلم رأيناك كففت نفسك من الكف وهو المنع.

( قال) ولأبي ذر في نسخة: ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( إني رأيت الجنة) أي: رؤيا عين كشف له عنها، فرآها على حقيقتها، وطويت المسافة بينهما كبيت المقدس حين وصفه لقريش.

وفي حديث أسماء الماضي في أوائل صفة الصلاة ما يشهد له، حيث قال فيه: دانت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها، أو مثلت له في الحائط كانطباع الصور في المرآة، فرأى جميع ما فيها.

وفي حديث أنس الآتي، إن شاء الله تعالى، في التوحيد، ما يشهد له حيث قال فيه: عرضت عليّ الجنة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط، وأنا أصلي.

وفي رواية: لقد مثلت، ولمسلم: صوّرت، ولا يقال الانطباع إنما هو في الأجسام الصقيلة لأن ذلك شرط عادي فيجوز أن تنخرق العادة خصوصًا له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

( فتناولت) أي: في حال قيامه الثاني من الركعة الثانية، كما رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن زيد بن أسلم ( عنقودًا) منها أي: من الجنة: أي: وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرًا على تحويله، لكن لم يقدّر لي قطفه ( ولو أصبته) أي: لو تمكنت من قطفه.
في حديث عقبة بن عامر، عند ابن خزيمة، ما يشهد لهذا التأويل، حيث قال فيه: أهوى بيده ليتناول شيئًا ( لأكلتم منه) أي: من العنقود ( ما بقيت الدنيا) .

وجه ذلك أنه يخلق الله تعالى مكان حبة تنقطف حبة أخرى، كما هو المروي في خواص ثمر الجنة، والخطاب عام في كل جماعة يتأتى مهم السماع، والأكل إلى يوم القيامة لقوله: ما بقيت الدنيا.
وسبب تركه، عليه الصلاة والسلام، تناول العنقود، قال ابن بطال: لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية ولا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى.


وقال صاحب المظهر: لأنه لو تناوله ورآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب، فيخشى أن يقع رفع التوبة، قال تعالى: { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ} [الأنعام: 158] وقال غيره: لأن الجنة جزاء الأعمال، والجزاء لا يقع إلا في الآخرة.

( ورأيت النار) بضم الهمزة وكسر الراء، مبنيًا للمفعول، وأقيم المفعول الذي هو الرائي في الحقيقة مقام الفاعل، والنار نصب مفعول ثانٍ لأن أريت من الإراءة، وهو يقتضي مفعولين، ولغير أبي ذر كما في الفتح: ورأيت بتقديم الراء على الهمزة مفتوحتين.

وكانت رؤيته النار قبل رؤيته للجنة، كما يدل له رواية عبد الرزاق حيث قال فيها: عرضت على النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النار، فتأخر عن مصلاه حتى إن الناس ليركب بعضهم بعضًا، وإذ رجع عرضت عليه الجنة، فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه.

ويؤيده حديث مسلم، حيث قال فيه: قد جيء بالنار، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها.
وفيه: ثم جيء بالجنة، حين رأيتموني تقدّمت حتى قمت مقامي ... الحديث.

واللام في النار للعهد، أي: رأيت نار جهنم.

( فلم أر منظرًا كاليوم قط) منظرًا نصب بـ "أَرَ" وقط بتشديد الطاء وتخفيفها، ظرف للماضي، وقوله: ( أفظع) أقبح وأشنع وأسوأ صفة للمنصوب، وكاليوم قط اعتراض بين الصفة والموصوف، وأدخل كاف التشبيه عليه لبشاعة ما رأى فيه.

وجوّز الخطابي في: أفظع وجهين: أن يكون بمعنى فظيع، كأكبر بمعنى كبير، وأن يكون أفعل تفضيل على بابه على تقدير منه.
فصفة أفعل التفضيل محذوفة.

قال ابن السيد:
العرب تقول: ما رأيت كاليوم رجلاً، وما رأيت كاليوم منظرًا.
والرجل والمنظر لا يصح أن يشبها باليوم.

والنحاة تقول: معناه ما رأيت كرجل أراه اليوم رجلاً: وما رأيت كمنظر رأيته اليوم منظرًا، وتلخيصه: ما رأيت كرجل اليوم رجلاً، وكمنظر اليوم منظرًا، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وجازت إضافة الرجل والمنظر إلى اليوم لتعلقهما به، وملابستهما له، باعتبار رؤيتهما فيه.

وقال غيره: الكاف هنا اسم، وتقديره: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرًا.
ومنظرًا تمييز.

ومراده باليوم: الوقت الذي هو فيه، ذكره الدماميني والبرماوي؛ لكن تعقب الدماميني الأخير، وهو قوله: وقال غيره ... الخ، بأن اعتباره في الحديث يلزم منه تقدم التمييز على عامله، والصحيح منعه، فالظاهر في إعرابه أن منظرًا: مفعول أر، وكاليوم: ظرف مستقر، صفة له وهو

بتقدير مضاف محذوف، كما تقدم أي: كمنظر اليوم، وقط: ظرف لأر، وأفظع: حال من اليوم على ذلك التقدير، والمفضل عليه وجاره محذوفان، أي كمنظر اليوم حال كونه أفظع من غيره.
انتهى.

وللحموي والمستملي: فلم أنظر كاليوم قط أفظع.

( ورأيت أكثر أهلها النساء) استشكل مع حديث أبي هريرة: إن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا، ومقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة.

وأجيب: بحمل حديث أبي هريرة على ما بعد خروجهن من النار، وأنه خرج مخرج التغليظ والتخويف، وعورض بإخباره عليه الصلاة والسلام بالرؤية الحاصلة.

وفي حديث جابر: "وأكثر من رأيت فيها النساء اللاتي، إن ائتمنّ أفشين، وإن سئلن بخلن، وإن سألن ألحفن، وإن أعطين لم يشكرن.
فدلّ على أن المرئي في النار منهن من اتصف بصفات ذميمة.

( قالوا: بم يا رسول الله؟) أصله: بما، بالألف، وحذفت تخفيفًا ( بكفرهن قيل: يكفرن بالله) وللأربعة: أيكفرن بالله؟ بإثبات همزة الاستفهام ( قال) عليه الصلاة والسلام ( يكفرن العشير) الزوج أي: إحسانه لا ذاته، وعدي الكفر بالله بالباء ولم يعد كفر العشير بها، لأن كفر العشير لا يتضمن معنى الاعتراف.
ثم فسر كفر العشير بقوله: ( ويكفرن الإحسان) فالجملة مع الواو مبينة للجملة الأولى، على طريق: أعجبني زيد وكرمه، وكفر الإحسان تغطيته وعدم الاعتراف به، أو جحده وإنكاره، كما يدل عليه قوله: ( لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله) عمر الرجل، أو الزمان جميعه، لقصد المبالغة، نصب على الظرفية ( ثم رأت منك شيئًا) قليلاً لا يوافق غرضها في أي شيء كان ( قالت: ما رأيت منك خيرًا قط) .
وليس المراد من قوله: أحسنت، خطاب رجل بعينه، بل كل من يتأتى منه الرؤية، فهو خطاب خاص لفظًا، عام معنى.