فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل من نومه، وما نسخ من قيام الليل

باب قِيَامِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاللَّيْلِ وَنَوْمِهِ، وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ

وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وِطَاءً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً}
.
وَقَوْلِهِ: { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: نَشَأَ قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ.
وِطَاءً قَالَ: مُوَاطَأَةَ الْقُرْآنِ، أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ.
{ لِيُوَاطِئُوا} لِيُوَافِقُوا.

( باب قيام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي: صلاته ( بالليل ونومه) بواو العطف ولأبي ذر من نومه ( و) باب ( ما نسخ من قيام الليل) .

( وقوله تعالى) بالجر عطفًا على قوله وما نسخ ( يا أيها المزمل) أصله: المتزمل، وهو الذي يتزمل في الثياب، أي يلتف فيها، قلبت التاء زايًا وأدغمت في الأخرى أي: يا أيها الملتف في ثيابه.

وروى ابن أبي حاتم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] أي: يا محمد قد زملت القرآن.

( { قم الليل إلا قليلاً} ) منه ( { نصفه أو أنقص منه قليلاً أو زد عليه} ) [المزمل: 1 - 3] .
قم أقل من نصف الليل، والضمير في: منه للنصف.

أي: على النصف:، وهو بدل من الليل، وإلا قليلاً: استثناء من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل، والضمير في منه، للنصف.

والمعنى التخيير بين أمرين: أن يقوم أقل من النصف على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين النقصان من النصف والزيادة عليه، قاله في الكشاف.

وتعقبه في البحر: بأنه يلزم منه التكرار، لأنه على تقديره: قم أقل من نصف الليل يكون قوله: { أو أنقص} من نصف الليل تكرارًا.
أو: بدلاً من قليلاً.
وكأن في الآية تخييرًا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، أو قيام أنقص منه، أو أزيد.
ووصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل:
قال في الفتح: وبهذا، أي: الأخير جزم الطبري، وأسند ابن أبي حاتم معناه عن عطاء الخراساني.

وفي حديث مسلم، من طريق سعد بن هشام عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: افترض الله تعالى قيام الليل في أول هذه السورة، يعني: { يا أيها المزمل} فقام نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأصحابه حولاًَ حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوّعًا بعد فريضة.

وقال البرهان النسفي في الشفاء: أمره أن يختار على الهجود التهجد، وعلى التزمل التشمر

للعبادة، والمجاهدة في الله تعالى، فلا جرم أنه عليه السلام قد تشمر لذلك وأصحابه حق التشمر، وأقبلوا على إحياء لياليهم، ورفضوا الرقاد والدعة، وجاهدوا في الله حتى انتفخت أقدامهم، واصفرت ألوانهم، وظهرت السيما على وجوههم، حتى رحمهم ربهم، فخفف عنهم.

وحكى الشافعي، عن بعض أهل العلم: أن آخر السورة نسخ افتراض قيام الليل إلا ما تيسر منه، بقوله: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} [المزمل: 20] ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس.

( { وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} ) أي اقرأه مرتلاً بتبيين الحروف وإشباع الحركات من غير إفراط، وقال أبو بكر بن طاهر: تدبر لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه ( { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} ) أي: القرآن لثقل العمل به، أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن، أو ثقيلاً في الميزان يوم القيامة، أخرجه عنه أيضًا من طريق أخرى ( { إن ناشئة الليل} ) مصدر: من نشأ إذا قام ونهض ( { هي أشد وطأ} ) بكسر الواو وفتح الطاء ممدودًا كما في قراءة أبي عمرو، وابن عامر، والباقون بفتح الواو وسكون الطاء من غير مد، أي: قيامًا ( { وأقوم قيلاً} ) أشد مقالاً وأثبت قراءة لهدو الأصوات، وقيل: أعجل إجابة للدعاء ( { إن لك في النهار سبحًا طويلاً} ) [المزمل: 73] تصرفًا وتقلبًا في مهماتك وشواغلك.
وعن السدي: تطوّعًا كثيرًا.
وقال السمرقندي: فراغًا طويلاً تقضي حوائجك فيه، ففرغ نفسك لصلاة الليل.

( وقوله تعالى: { علم أن لن تحصوه} ) أي: علم الله أن لن تطيقوا قيام الليل، أو: الضمير المنصوب فيه يرجع إلى مصدر مقدر، أي: علم أن لا يصح منكم ضبط للأوقات، ولا يتأتى حسابها بالتسوية إلا بالاحتياط، وهو شاق عليكم ( { فتاب عليكم} ) رخص لكم في ترك القيام المقدر ( { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} ) فصلوا ما تيسر عليكم من قيام الليل، وهو ناسخ للأول، ثم نسخا جميعًا بالصلوات الخمس، أو المراد: قراءة القرآن بعينها، ثم بيَّن حكمة النسخ بقوله: ( { علم أن سيكون منكم مرضى} ) لا يقدرون على قيام الليل ( { وآخرون يضربون} ) يسافرون ( { في الأرض يبتغون من فضل الله} ) في طلب الرزق منه تعالى ( { وآخرون يقاتلون في سبيل الله} ) يجاهدون في طاعة الله ( { فاقرؤوا ما تيسر منه} ) أي: من القرآن، قيل: في صلاة المغرب والعشاء ( { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ) الواجبتين أو المراد: صدقة الفطر، لأنه لم يكن بمكة زكاة، ومن فسرها بها جعل آخر السورة من المدني.

( { وأقرضوا الله قرضًا حسنًا} ) بسائر الصدقات المستحبة، وسماه: قرضًا، تأكيدًا للجزاء ( { وما تقدموا لأنفسكم من خير} ) عمل صالح وصدقة بنية خالصة ( { تجدوه} ) أي: ثوابه ( { عند الله} ) في الآخرة ( { هو خيرًا} ) نصب ثاني مفعولي: وجد ( { وأعظم أجرًا} ) زاد في نسخة: { واستغفروا الله} لذنوبكم { إن الله غفور} لمن تاب { رحيم} [المزمل: 20] لمن استغفر.

( قال ابن عباس رضي الله عنهما) مما وصله عبد بن حميد بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير،

عنه، ولأبي ذر، والأصيلي: قال أبو عبد الله أي: المؤلّف: قال ابن عباس: ( نشأ) بفتحات، مهموزًا معناه ( قام) بتهجد ( بالحبشية) أي: بلسان الحبشة.

وليس في القرآن شيء بغير العربية، وإن ورد من ذلك شيء فهو من توافق اللغتين، وعلى هذا، فناشئة، كما مر، مصدر بوزن فاعلة، من: نشأ إذا قام، أو اسم فاعل: أي: النفس الناشئة بالليل، أي التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي: تنهض، وفي الغريبين لأبي عبيد: كل ما حدث بالليل وبدا فهو ناشئ.

وفي المجاز لأبي عبيدة: ناشية الليل: آناء الليل، ناشئة بعد ناشئة.

( وطأ) بكسر الواو ( قال) المؤلّف، مما وصله عبد بن حميد، من طريق مجاهد، معناه: ( مواطأة القرآن) .
ولأبي ذر، والوقت، مواطأة للقرآن، بالتنوين واللام ( أشد موافقة لسمعه وبصره وقلبه) ثم ذكر ما يؤيد هذا التفسير، فقال في قوله تعالى في سورة براءة { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] ( ليواطؤوا) معناه: ( ليوافقوا) وقد وصله الطبري عن ابن عباس، لكن بلفظ: ليشابهوا.


[ قــ :1102 ... غــ : 1141 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا -رضي الله عنه- يَقُولُ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا.
وَكَانَ لاَ تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ، وَلاَ نَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ".

تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ عَنْ حُمَيْدٍ.
[الحديث 1141 - أطرافه في: 1972، 1973، 3561] .

وبالسند قال: ( حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) بن يحيى القرشي العامري ( قال: حدّثني) بالإفراد ( محمد بن جعفر) هو: ابن أبي كثير المدني ( عن حميد) الطويل ( أنه سمع أنسًا) ولأبي ذر، والأصيلي: أنس بن مالك ( رضي الله عنه، يقول) :
( كان رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه) أي: من الشهر، زاد الأصيلي، وأبو ذر: شيئًا ( و) كان، عليه الصلاة والسلام ( يصوم) منه ( حتى نظن أن لا يفطر) بالنصب، وللأصيلي: أنه لا يفطر، بالرفع، ( منه شيئًا وكان) عليه الصلاة والسلام ( لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته) مصليًا ( ولا) تشاء أن تراه من الليل ( نائمًا إلا رأيته) نائمًا.

أي: ما أردنا منه، عليه الصلاة والسلام، أمرًا إلا وجدناه عليه، إن أردنا أن يكون مصليًا، وجدناه مصليًا، وإن أردنا أن نراه نائمًا، وهو يدل على أنه ربما نام كل الليل، وهذا سبيل التطوع، فلو استمر الوجوب في قوله: { قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2] لما أخل بالقيام.

وفيه أيضًا أن صلاته ونومه كانا يختلفان بالليل، وأنه لا يرتب وقتًا معينًا، بل بحسب ما تيسر له من قيام الليل.


لا يقال: يعارضه قول عائشة: كان إذا سمع الصارخ قام.
فإن كلاً من عائشة وأنس أخبر بما اطلع عليه.

ورواته ما بين: مدني وبصري، وفيه: التحديث والعنعنة والسماع والقول، وأخرجه المؤلّف أيضًا في الصوم.

( تابعه) أي تابع محمد بن جعفر، عن حميد ( سليمان) هو: ابن بلال كما جزم به خلف ( وأبو خالد) سليمان بن حيان ( الأحمر) أو: الواو زائدة في: وأبو، من الناسخ، فإن أبا خالدًا اسمه سليمان، ( عن حميد) الطويل.

ومتابعة أبي خالد وصلها المؤلّف في: الصوم.