فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: علامة الإيمان حب الأنصار

باب عَلاَمَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ

[ قــ :17 ... غــ : 17 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ».
[الحديث 17 - طرفه في: 3784] .

( باب) بالتنوين ( علامة الإيمان) التام ( حبّ الأنصار) ، وسقط التنوين للأصيلي، وحينئذ فقوله علامة جر بالإضافة قال ابن المنير: علامة الشيء لا يخفى أنها غير داخلة في حقيقته، فكيف تفيد هذه الترجمة مقصوده من أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وجوابه أن المستفاد منها كون مجرد التصديق بالقلب لا يكفي حتى تنصب عليه علامة من الأعمال الظاهرة التي هي مؤازرة الأنصار ومواددتهم.

وبسندي المذكور أولاً إلى الإمام البخاري قال: ( حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي نسبة لبيع الطيالسة البصري المتوفى سنة عشرين ومائتين، ( قال حدّثنا شعبة) بن الحجاج السابق ( قال أخبرني) بالإفراد ( عبد الله بن عبد الله) بفتح العين فيهما ( ابن جبر) بفتح الجيم وإسكان الموحدة الأنصاري المدني، ( قال سمعت أنسًا) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر أنس بن مالك ( رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :

( آية الإيمان) بالهمزة الممدودة والمثناة التحتية المفتوحة أي علامة الإيمان الكامل ( حب الأنصار) الأوس والخزرج جمع قلة على وزن أفعال، واستشكل بأنه لا يكون لما فوق العشرة وهم ألوف: وأجيب بأن القلة والكثرة إنما يعتبران في نكرات الجموع، أما في المعارف فلا فرق بينهما.

( وآية النفاق) الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر ( بغض الأنصار) .
إذا كان من حيث أنهم أنصاره عليه الصلاة والسلام، لأنه لا يجتمع مع التصديق وإنما خصّوا بهذه المنقبة العظيمة والمنحة الجسيمة لما فازوا به من نصره عليه الصلاة والسلام والسعي في إظهاره وإيوائه وأصحابه، ومؤاساتهم بأنفسهم وأموالهم، وقيامهم بحقهم حق القيام مع معاداتهم جميع من وجد من قبائل العرب والعجم، فمن ثم كان حبهم علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق مجازاة لهم على عملهم والجزاء من جنس العمل.

وقال في شرح المشكاة: وإنما كان كذلك لأنهم تبوءوا الدار والإيمان وجعلوه مستقرًّا وموطنًا لتمكنهم منه واستقامتهم عليه كما جعلوا المدينة كذلك: فمن أحبهم فذلك من كمال إيمانه، من أبغضهم فذلك من علامة نفاقه.

فإن قلت: لم عدل عن لفظ الكفر إلى لفظ النفاق؟ أجيب: بأن الكلام فيمن ظاهره الإيمان وباطنه الكفر فميزهم عن ذوي الإيمان الحقيقي، فلم يقل: وآية الكفر كذا إذ هو ليس بكافر ظاهرًا.
وهذا الحديث وقع للمؤلف رباعي الإسناد، ولمسلم خماسيه، وفيه راوٍ وافق اسمه اسم أبيه.

وفيه التحديث والإخبار بالجمع والإفراد والسماع، وأخرجه المؤلف أيضًا في فضائل الأنصار ومسلم والنسائي.


باب
هذا( باب) بالتنوين بغير ترجمة: ولفظ الباب سقط عند الأصيلي، وحينئذ فالحديث التالي من جملة الترجمة السابقة وعلى رواية إثباته فهو كالفصل عن سابقه مع تعلقه به.
وفي الحديث السابق الإشارة لحب الأنصار، وفي اللاحق ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن ذلك كان ليلة العقبة لما تبايعوا على إعلاء توحيد الله وشريعته، وقد كانوا يسمون قبل ذلك بني قيلة بقاف مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم عليه الصلاة والسلام الأنصار لذلك.


[ قــ :18 ... غــ : 18 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ.
فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ

عَاقَبَهُ».
فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
[الحديث 18 - أطرافه في: 389، 3893، 3999، 4894، 6784، 6801، 6873، 7055، 7199، 713، 7468] .

وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي ( قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة القرشي ( عن الزهري) محمد بن مسلم أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( أبو إدريس عائذ الله) بالمعجمة وهو اسم علم أي ذو عياذة الله فهو عطف بيان لقوله أبو إدريس ( بن عبد الله) الصحابي ابن عمر الخولاني الدمشقي الصحابي، لأن مولده كان عام حُنين، التابعي الكبير من حيث الرواية المتوفى سنة ثمانين، ( أن عبادة) بضم العين ( ابن الصامت) بن قيس الأنصاري الخزرجي المتوفى بالرملة سنة أربع وثلاثين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وقيل: في خلافة معاوية سنة خمس وأربعين، وله في البخاري تسعة أحاديث ( رضي الله عنه وكان شهد بدرًا) أي وقعتها، فالنصب بقوله شهد وليس مفعولاً فيه، ( وهو أحد النقباء) جمع نقيب، وهو الناظر على القوم وضمينهم وعريفهم وكانوا اثني عشر رجلاً ( ليلة العقبة) بمنى، أي فيها والواو في وهو كواو وكان هي الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وإفادة أن اتصافه بها أمر ثابت ولا ريب أن كون شهود عبادة بدر أو كونه من النقباء صفتان من صفاته، ولا يجوز أن تكون الواوان للحال ولا للعطف، قاله العيني.
وهذا ذكره ابن هشام في مغنيه حاكيًا له عن الزمخشري في كشافه، وعبارته في تفسير قوله تعالى في سورة الحجر { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُوم} [الحجر: 4] جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أنه لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُون} [الشعراء: 08] وإنما توسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب انتهى.

وتعقبه ابن مالك في شرح تسهيله بأن ما ذهب إليه من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد، لأن مذهبه في هذه المسألة لا يعرف من البصريين ولا من الكوفيين معوّل عليه، فوجب أن لا يلتفت إليه.
وأيضًا فإنه معلل بما لا يناسب، وذلك لأن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها، وأيضًا مستلزم لتغايرهما، وهو ضد لما يراد من التأكيد، فلا يصح أن يقال للعاطف مؤكد.

وأيضًا لو صلحت الواو لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعًا لا يصلح للحال، نحو إن رجلاً رأيه سديد لسعيد، فرأيه سديد جملة نعت بها، ولا يجوز اقترانها بالواو ولعدم صلاحيتها للحال، بخلاف { ولها كتاب معلوم} فإنها جملة يصلح في موضعها الحال لأنها بعد نفي.

وتعقبه نجم الدين سعيد على الوجه الأوّل بأن الزمخشري أعرف باللغة مع أنه لا يلزم من عدم العرفان بالمعوّل عليه عدمه، وعلى الثاني أن تغاير الشيئين لا ينافي تلاصقهما، والجملة التي هي صفة لها التصاق بالموصوف، والواو أكدت الالتصاق باعتبار أنها في أصلها للجمع المناسب للإلصاق لا أنها عاطفة، وعلى الثالث أن المراد من الالتصاق ليس الالتصاق اللفظي كما فهمه ابن مالك بل المعنوي، والواو تؤكد الثاني دون الأوّل.


وتعقبه البدر الدماميني بأن قوله أعرف باللغة مجرد دعوى مع أنها لو سلمت لا تصلح لردّ أن هذا المذهب غير معروف لبصري ولا كوفي، وإنما وجه الردّ أن يقال بل هو معروف، ويبيّن من قاله منهم انتهى.

وقد تبع الزمخشري في ذلك أبو البقاء، وقال في الدران في محفوظه أن ابن جني سبق الزمخشري بذلك وقوّاه بآية { إلا لها منذرون} وقراءة ابن أبي عبلة إلا لها كتاب بإسقاط الواو، ويحتمل أن يكون قائل ذلك أبا إدريس فيكون متصلاً إن حمل على أنه سمع ذلك من عبادة أو الزهري، فيكون منقطعًا.
والجملة اعتراض بين إن وخبرها الساقط من أصل الرواية هنا، ولعلها سقطت من ناسخ بعده.
واستمر بدليل ثبوتها عند المصنف في باب من شهد بدرًا والتقدير هنا أن عبادة بن الصامت أخبر ( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال وحوله) بالنصب على الظرفية ( عصابة من أصحابه) بكسر العين ما بين العشرة إلى الأربعين، والجملة اسمية حالية وعصابة مبتدأ خبره حوله مقدمًا، ومن أصحابه صفة لعصابة، وأشار الراوي بذلك إلى المبالغة في ضبط الحديث، وأنه عن تحقيق وإتقان، ولذا ذكر أن الراوي شهد بدرًا وأنه أحد النقباء والمراد به التقوية، فإن الرواية تترجح عند المعارضة بفضل الراوي وشرفه.
ومقول قوله عليه الصلاة والسلام.

( بايعوني) أي عاقدوني ( على) التوحيد ( أن لا تشركوا بالله شيئًا) أي على ترك الإشراك وهو عام، لأنه نكرة في سياق النهي كالنفي، وقدمه على ما بعده لأنه الأصل.
( و) على أن ( لا تسرقوا) فيه حذف المفعول ليدل على العموم، ( ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم) خصّهم بالذكر لأنهم كانوا في الغالب يقتلونهم خشية الإملاق، أو لأن قتلهم أكثر من قتل غيرهم، وهو الوأد وهو أشنع القتل، أو أنه قتل وقطيعة رحم، فصرف العناية إليه أكثر.
( ولا تأتوا) بحذف النون، ولغير الأربعة ولا تأتون ( ببهتان) أي بكذب يبهت سامعه أي يدهشه لفظاعته كالرمي بالزنا والفضيحة والعار.
وقوله ( تفترونه) من الافتراء أي تختلقونه ( بين أيديكم وأرجلكم) أي من قبل أنفسكم، فكنى باليد والرجل عن الذات لأن الأفعال بهما، والمعنى لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم أو أن البهتان ناشىء عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل ثم يبرزه بلسانه، والمعنى لا تبهتوا الناس بالمعايب كفاحًا مواجهة، ( ولا تعصوا في معروف) وهو ما عرف من الشارع حسنه نهيًا وأمرًا وليد به تطييبًا لقلوبهم، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا به، وقال البيضاوي في الآية والتقييد بالمعروف مع أن الرسول لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وخصّ ما ذكر من المناهي بالذكر دون غيره للاهتمام به ( فمن وفى) بالتخفيف، وفي رواية أبي ذر وفي بالتشديد، أي ثبت على العهد ( منكم فأجره على الله) فضلاً ووعدًا أي بالجنة، كما وقع التصريح به في الصحيحين من حديث عبادة في رواية الصنابحي.
وعبر بلفظ على وبالأجر للمبالغة في تحقق وقوعه، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القاطعة على أنه لا يجب على الله شيء، بل الأجر من فضله عليه لما ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت الأجر في موضع أحدهما.
( ومن أصاب) منكم أيها المؤمنون

( من ذلك شيئًا) غير الشرك، بنصب شيئًا مفعول أصاب الذي هو صلة من الموصول المتضمن معنى الشرط والجاز للتبعيض، ( فعوقب) أي به كما رواه أحمد أي بسببه ( في الدنيا) أي بأن أقيم عليه الحد، ( فهو) أي العقاب ( كفارة له) فلا يعاقب عليه في الآخرة، وفي رواية الأربعة فهو كفّارة بحذف له، وقد قيل: إن قتل القاتل حدّ وإرداع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يجز العفو في القاتل، والذي ذهب إليه أكثر الفقهاء أن الحدود كفارات لظاهر الحديث، وفي الترمذي وصححه من حديث عليّ بن أبي طالب مرفوعًا نحو هذا الحديث، وفيه: ومن أصاب ذنبًا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة.

وشيئًا نكرة تفيد العموم لأنها في سياق الشرط، وقد صرح ابن الحاجب بأنه كالنفي في إفادته، وحينئذ فيشمل إصابة الشرك وغيره، واستشكل بأن المرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون قتله كفّارة.


وأجيب بأن عموم الحديث مخصوص بقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] أو المراد به الشرك الأصغر وهو الرياء، وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وأجيب بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز فهو محتمل وإن كان ضعيفًا، وتعقب بأنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك وأنه مخصوص.
وقال قوم بالوقف لحديث أبي هريرة المروي عند البزار والحاكم، وصححه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لا أدري الحدود كفّارة لأهلها أم لا، وأجيب بأن حديث الباب أصح إسنادًا وبأن حديث أبي هريرة ورد أولاً قبل أن يعلم عليه السلام، ثم أعلمه الله تعالى آخرًا.
وعورض بتأخر إسلام أبي هريرة، وتقدم حديث الباب إذ كان ليلة العقبة الأولى، وأجيب بأن حديث أبي هريرة صحيح سابق على حديث الباب، وأن المبايعة المذكورة لم تكن ليلة العقبة وإنما هي بعد فتح مكة وآية الممتحنة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة.
وعورض بأن الحديث رواه الحاكم ولا يخفى تساهله في التصحيح.
على أن الدارقطني قال: إن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله، وحينئذ فلا تساوي بينهما.
وعلى ذلك فلا يحتاج إلى الجمع والتوفيق بين الحديثين، وبأن عياضًا وغيره جزموا بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة عند البيعة الأولى بمنى، ويؤيده قوله عصابة المفسر بالنقباء الاثني عشر، بل صرح بذلك في رواية النسائي، ولفظه: بايعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة العقبة في رهط، والرهط ما دون العشرة من الرجال فقط.
وقال ابن دريد: وربما جاوز ذلك قليلاً، وهو ضد الكثير وأقله ثلاثة وأكثر القليل اثنان فتضاف للتسعة فالمجموع أحد عشر، فكان المراد من الرهط هنا أحد عشر نقيبًا، ومع عبادة اثنا عشر نقيبًا.
وإذا ثبت هذا فقد دلّ قطعًا أن هذه المبايعة كانت ليلة العقبة الأولى لأن الواقعة بعد الفتح كان فيها الرجال والنساء معًا مع العدد الكثير انتهى.

( ومن أصاب من ذلك) المذكور ( شيئًا ثم ستره الله) وفي رواية ابن عساكر وعزاها الحافظ ابن حجر لكريمة زيادة عليه ( فهو) مفوّض ( إلى الله) تعالى ( إن شاء عفا عنه) بفضله، ( وإن شاء عاقبه) بعدله، ( فبايعناه على ذلك) .
مفهوم هذا يتناول من تاب ومن لم يتب، وأنه لم يتحتم دخوله النار بل

هو إلى مشيئة الله.
وقال الجمهور: إن التوبة ترفع المؤاخذة، نعم لا يأمن من مكر الله لأنه لا اطّلاع له على قبول توبته.
وقال قوم بالتفرقة بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب.

فإن قلت: ما الحكمة فى عطف الجملة المتضمنة للعقوبة على ما قبلها بالفاء والمتضمنة للستر بثم؟ أجيب باحتمال أنه للتنفير عن مواقعة المعصية، فإن السامع إذا علم أن العقوبة مفاجئة لإصابة المعصية غير متراخية عنها وأن الستر متراخٍ، بعثه ذلك على اجتناب المعصية وتوقيها قاله في المصابيح.
ورجال إسناد هذا الحديث كلهم شاميون وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وفيه رواية قاضٍ عن قاضٍ أبو إدريس وعبادة، ورواية من رآه عليه الصلاة والسلام عمن رآه، لأن أبا إدريس له رؤية، وأخرجه المؤلف أيضًا في المغازي والأحكام في وفود الأنصار وفي الحدود، ومسلم في الحدود أيضًا، والترمذي والنسائي وألفاظهم مختلفة.

ولما فرغ المصنف من تلويحه بمناقب الأنصار من بذلهم أرواحهم وأموالهم في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فرارًا بدينهم من فتن الكفر والضلال، شرع يذكر فضيلة العزلة والفرار من الفتن فقال: