فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى

باب مَا جَاءَ أَنَّ الأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
فَدَخَلَ فِيهِ الإِيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلاَةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَالأَحْكَامُ.
.

     وَقَالَ : اللَّهُ: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} : عَلَى نِيَّتِهِ: ونَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ -يَحْتَسِبُهَا- صَدَقَةٌ.
.

     وَقَالَ : وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ.


( باب ما جاء) في الحديث ( أن الأعمال) بفتح همزة أن وكسرها في اليونينية ولكريمة إن العمل ( بالنية والحسبة) بكسر الحاء وإسكان السين المهملتين أي الاحتساب وهو الإخلاص.
( ولكل امرىءٍ ما نوى) ولفظ الحسبة من حديث أبي مسعود الآتي -إن شاء الله تعالى- وأدخلها بين الجملتين للتنبيه على أن التبويب شامل لثلاث تراجم الأعمال بالنيّة والحسبة ولكل امرىءٍ ما نوى.
وفي رواية ابن عساكر قال أبو عبد الله البخاري: وفي رواية الباقي بحذف قال أبو عبد الله وإذا كان الأعمال بالنية ( فدخل فيه) أي في الكلام المتقدم ( الإيمان) أي على رأيه لأنه عنده عمل كما مرّ البحث فيه، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب، ( و) كذا ( الوضوء) خلافًا للحنفية لأنه عندهم من الوسائل لا عبادة مستقلة، وبأنه عليه الصلاة والسلام علم الأعرابي الجاهل الوضوء ولم يعلمه النيّة، ولو كانت فريضة لعلمه ونوقضوا بالتيمم فإنه وسيلة وشرطوا فيه النية، وأجابوا بأنه طهارة ضعيفة فيحتاج لتقويتها بالنية وبأن قياسه على التيمم غير مستقيم لأن الماء خلق مطهرًا.
قال الله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] .
والتراب ليس كذلك، وكان التطهير به تعبدًا محضًا فاحتاج إلى النية إذ التيمم ينبئ لغة عن القصد فلا يتحقق دونه بخلاف الوضوء ففسد قياسه على التيمم، ( و) كذا ( الصلاة) من غير خلاف أنها لا تصح إلا بالنية.
نعم نازع ابن القيم في استحباب التلفّظ بها محتجًّا بأنه لم يروَ أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلفظ بها ولا عن أحد من أصحابه.
وأجيب بأنه عون على استحضار النية القلبية وعبادة للسان وقاسه بعضهم على ما في الصحيح من حديث أنس أنه

سمع النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يلبّي بالحج والعمرة جميعًا يقول: لبيك حجًّا وعمرة، وهذا تصريح باللفظ والحكم
كما يثبت باللفظ يثبت بالقياس وتجب مقارنة النية لتكبيرة الإحرام لأنها أول الأركان، وذلك بأن يأتي بها عند أولها ويستمر ذاكرًا لها إلى آخرها.
واختار النووي في شرحي المهذب والوسيط تبعًا للإمام الغزالي الاكتفاء بالمقارنة العرفية عند العوام بحيث يعد مستحضرًا للصلاة اقتداء بالأولين في تسامحهم بذلك.
وقال ابن الرفعة: إنه الحق، وصوبه السبكي ولو عزبت النية قبل تمام التكبيرة لم تصح الصلاة لأن النية معتبرة في الانعقاد، والانعقاد لا يحصل إلا بتمام التكبيرة، ولو نوى الخروج من الصلاة أو تردد في أن يخرج أو يستمر بطلت بخلاف الصوم والحج والوضوء والاعتكاف لأنها أضيق بابًا من الأربعة، فكان تأثيرها باختلاف النية أشد.
ولو علق الخروج من الصلاة بحضور شيء بطلت في الحال ولو لم يقطع بحصوله كتعليقه بدخول شخص كما لو علق به الخروج من الإسلام فإنه يكفر في الحال قطعًا، وتجب نية فعل الصلاة أي لتمتاز عن بقية الأفعال وتعيينها كالظهر والعصر لتمتاز عن غيرها ( و) كذا يدخل في قوله الأعمال بالنية ( الزكاة) إلا إن أخذها الإمام من الممتنع فإنها تسقط ولو لم ينوِ صاحب المال لأن السلطان قائم مقامه، ( و) كذا ( الحج) وإنما ينصرف إلى فرض من حج عنه غيره لدليل خاص وهو حديث ابن عباس في قصة شبرمة ( و) كذا ( الصوم) خلافًا لمذهب عطاء ومجاهد وزفر أن الصحيح المقيم في رمضان لا يحتاج إلى نية لأنه لا يصح النفل في رمضان، وعند الأربعة تلزم النية.
نعم تعيين الرمضانية لا يشترط عند الحنفية.
( و) كذا ( الأحكام) من المناكحات والمعاملات والجراحات إذ يشترط في كلها القصد، فلو سبق لسانه إلى بعت أو وهبت أو نكحت أو طلّقت لغا لانتفاء القصد إليه ولا يصدق ظاهرًا إلا بقرينة كأن دعا زوجته بعد طهرها من الحيض إلى فراشه وأراد أن يقول: أنت طاهر فسبق لسانه وقال: أنت الآن طالق.
( وقال: { قُلْ كُلٌّ} ) ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر وقال الله تعالى: { قُلْ كُلٌّ} وللأصيلي وكريمة عز وجل { قُلْ كُلٌّ} أي كل أحد { يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] أي ( على نيته) وهو مروي عن الحسن البصري ومعاوية بن قرة المزني وقتادة فيما أخرجه عبد بن حميد والطبري عنهم، وقال مجاهد والزجّاج: شاكلته أي طريقته ومذهبه وحذف المؤلف أداة التفسير ( ونفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة) حال كونه مريدًا بها وجه الله تعالى فيحتسبها حال متوسط بين المبتدأ والخبر، وفي فرع اليونينية كهي نفقة الرجل بحذف الواو، وجملة نفقة الرجل إلى آخرها ساقطة عند أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر.
( وقال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث ابن عباس المروي عند المؤلف مسندًا: لا هجرة بعد الفتح، ( ولكن) طلب الخير ( جهاد ونية) وسقط لغير الأربعة، وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.



[ قــ :54 ... غــ : 54 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
[انظر الحديث رقم 1] .


وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بفتح الميمين واللام ( قال: أخبرنا) وفي رواية ابن عساكر حدّثنا ( مالك) هو إمام الأئمة ( عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن إبراهيم) بن الحرث التيمي ( عن علقمة بن وقاص) الليثي ( عن عمر) بن الخطاب رضي الله عنه ( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( الأعمال) تجزئ ( بالنية) بالإفراد وحذف إنما، واتفق المحققون على إفادة الحصر من هذه الصيغة كالمصدرة بإنما وهو من حصر المبتدأ في الخبر، والتقدير كل الأعمال بالنية نعم خرج من العموم جزئيات بدليل، والجار والمجرور يتعلق بمحذوف قدره بعضهم قبول الأعمال واقع بالنية وفيه حذف المبتدأ وهو قبول وإقامة المضاف إليه مقامه، ثم حذف الخبر وهو واقع.
والأحسن تقدير من قدر الأعمال صحيحة أو مجزئة.
وقيل: تقدير الخبر واقع أولى من تقديره بمعتبر لأنهم أبدًا لا يضمرون إلا ما يدل عليه الظرف وهو واقع أو استقر وهي قاعدة مطّردة عندهم.
وأجيب بأنه مسلم في تقدير ما يتعلق به الظرف مطلقًا مع قطع النظر عن صورة خاصة، وأما الصورة المخصوصة فلا
يقدر فيها إلا ما يليق بها مما يدل عليه المعنى أو السياق، وإنما قدر هذا خبر التقدير المبتدأ وهو قبول، وإذا قدرنا ذلك نفس الخبر لم يحتج إلى حذف المبتدأ.
( ولكل امرئ ما نوى) أي الذي نواه إذا كان المحل قابلاً كما سبق تقريره ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله) نية وعقدًا ( فهجرته إلى الله ورسوله) حكمًا وشرعًا كذا قاله ابن دقيق العيد، ورده الزركشي بأن المقدر حينئذ حال مبنية فلا تحذف، ولذا منع الرندي في شرح الجمل جعل بسم الله متعلقًا بحال محذوفة أي ابتدئ متبركًا.

قال: لأن حذف الحال لا يجوز انتهى.
وأجيب بمنع أن المقدر حال بل هو تمييز ويجوز حذف التمييز إذا دلّ عليه دليل نحو: { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] أي رجلاً.
ويمكن أن يقال لم يرد بتقدير نية وعقدًا في الأول وحكمًا وشرعًا في الثاني أن هناك لفظًا محذوفًا، بل أراد بيان المعنى ومغايرة الأول للثاني، وتأوّله بعضهم على إرادة المعهود المستقر في النفوس، فإن المبتدأ والخبر وكذلك الشرط والجزاء قد يتحدان لبيان الشهرة وعدم التغيير وإرادة المعهود المستقر في النفس، ويكون ذلك للتعظيم وقد يكون للتحقير وذلك بحسب المقامات والقرائن، فمن الأول قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] .
وقوله عليه الصلاة والسلام: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" ومن الثاني قوله: ( ومن كانت هجرته لدنيا) وفي رواية لأبوي ذر والوقت وابن عساكر وكريمة إلى دنيا ( يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) أي إلى ما ذكر واستشكل استعمال دنيا لأنها في الأصل مؤنث أدنى وأدنى أفعل تفضيل من الدنو وأفعل التفضيل إذا نكر لزم الإفراد والتذكير، وامتنع تأنيثه وجمعه ففي استعمال دنيا بالتأنيث مع كونه منكرًا إشكال، ولهذا لا يقال قصوى ولا كبرى.
وأجاب ابن مالك بأن دنيا خلعت عن الوصفية غالبًا وأجريت مجرى ما لم يكن قطّ وصفًا مما وزنه فعلى كرجعى وبهمى، فلهذا ساغ فيها ذلك.
ثم إن غرض المؤلف من إيراد هذا الحديث هنا الرد على من زعم من المرجئة: أن الإيمان قول باللسان دون

عقد القلب، فبين أن الإيمان لا بدّ له من نية واعتقاد قلب فافهم.
وإنما أبرز الضمير في الجملة الأولى لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما.

أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
وهذا بخلاف الدنيا والمرأة لا سيما والسياق يُشعِر بالحثّ على الإعراض عنهما، وهذه الجملة الأولى هنا سقطت عند المؤلف من رواية الحميدي أول الكتاب فذكر في كل تبويب ما يناسبه بحسب ما رواه.




[ قــ :55 ... غــ : 55 ]
- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ».
[الحديث 55 - طرفاه في: 4006، 5351] .


وبه قال: ( حدّثنا حجاج بن منهال) بكسر الميم، وفي رواية أبي ذر الحجاج بن المنهال بالتعريف فيهما ولأبي الوقت حجاج بن المنهال أبو محمد الأنماطي بفتح الهمزة وسكون النون نسبة إلى الأنماط ضرب من البسط السلمي بضم المهملة وفتح اللام، المتوفى بالبصرة سنة ست عشرة أو سبع عشرة ومائتين ( قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج ( قال: أخبرني) بالإفراد ( عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي، المتوفى سنة ست عشرة ومائة ( قال: سمعت عبد الله بن يزيد) بن حصين الأنصاري الخطمي بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة، المتوفى زمن ابن الزبير، ( عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو بفتح العين وسكون الميم ابن ثعلبة الأنصاري الخزرجي البدري المتوفى بالكوفة أو بالمدبنة قبل الأربعين سنة إحدى وثلاثين أو إحدى أو اثنتين وأربعين، وله في البخاري أحد عشر حديثًا.
( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( إذا أنفق الرجل) نفقة من دراهم أو غيرها ( على أهله) زوجة وولد حال كون الرجل ( يحتسبها) أي يريد بها وجه الله ( و) أي الإنفاق، ولغير الأربعة فهي أي النفقة ( له صدقة) أي كالصدقة في الثواب لا حقيقة وإلا حرمت على الهاشمي والمطلبي، والصارف له عن الحقيقة الإجماع وإطلاق الصدقة على النفقة مجاز أو المراد بها الثواب كما تقدم، فالتشبيه واقع على أصل الثواب لا في الكمية ولا في الكيفية.

قال القرطبي: أفاد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة سواء كانت واجبة أم مباحة، وأفاد مفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة لأنها معقولة المعنى، وحذف المعمول ليفيد التعميم أي أي نفقة كانت كبيرة أو صغيرة.

وفي هذا الحديث الرد على المرجئة قالوا: إن الإيمان إقرار باللسان فقط ورجاله خمسة ما بين بصري وواسطي وكوفي، ورواية صحابي عن صحابي، وفيه التحديث والإخبار والسماع والعنعنة،

وأخرجه المؤلف أيضًا في المغازي والنفقات، ومسلم في الزكاة، والترمذي في البر وقال حسن صحيح، والنسائي في الزكاة.




[ قــ :56 ... غــ : 56 ]
- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ».
[الحديث 56 - أطرافه في: 195، 74، 744، 3936، 4409، 5354، 5659، 5668، 6373، 6733] .

وبه قال: ( حدّثنا الحكم) بفتح الكاف هو أبو اليمان ( بن نافع قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي
حمزة القرشي ( عن الزهري) أبي بكر محمد بن شهاب ( قال: حدّثني) بالإفراد ( عامر بن سعد) بسكون
العين ( عن سعد بن أبي وقاص) المدني أحد العشرة ( أنه أخبره أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) يخاطب سعدًا ومن يصح منه الإنفاق.

( إنك لن تنفق نفقة) قليلة أو كثيرة ( تبتغي) أي تطلب ( بها وجه الله) تعالى هو منع المتشابه وفيه مذهبان التفويض والتأويل.

قال العارف المحقق شمس الدين بن اللبان المصري الشاذلي وقد جاء ذكره في آيات كثيرة: فإذا أردت أن تعلم حقيقة مظهره من الصور فاعلم أن حقيقته من غمام الشريعة بارق نور التوحيد ومظهره من العمل وجه الإخلاص: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} [الروم: 43] الآية.
ويدل على أن وجه الإخلاص مظهره قوله تعالى { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 5] .
وقوله تعالى: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] .
وقوله عز وجل: { إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 0] .
والمراد بذلك كله الثناء بالإخلاص على أهله تعبيرًا بإرادة الوجه عن إخلاص النية وتنبيهًا على أنه مظهر وجهه سبحانه وتعالى.
ويدل على أن حقيقة الوجه هو بارق نور التوحيد.
قوله عز وجل: { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي إلاّ نور توحيده انتهى.


والباء في قوله في الحديث بها للمقابلة أو بمعنى على، ولذا وقع في بعض النسخ عليها بدل بها أو للسببية أي لن تنفق نفقة تبتغي بسببها وجه الله تعالى ( إلا) نفقة ( أجرت عليها) بضم الهمزة وكسر الجيم ولكريمة إلاّ أجرت بها وهي في اليونينية لأبي ذر والأصيلي وابن عساكر لكنه ضرب عليها بالحمرة.
( حتى ما تجعل) أي الذي تجعله ( في فم امرأتك) فأنت مأجور فيه، وعلى هذا فالمرائي بعمل الواجب غير مثاب وإن سقط عقابه بفعله كذا قاله البرماوي كالكرماني.
وتعقبه العيني بأن سقوط العقاب مطلقًا غير صحيح، بل الصحيح التفصيل فيه وهو أن العقاب الذي يترتب على ترك الواجب يسقط لأنه أتى بعين الواجب ولكنه كان مأمورًا أن يأتي بما عليه بالإخلاص وترك الرياء،
فينبغي أن يعاقب على ترك الإخلاص لأنه مأمور به وتارك المأمور به يعاقب.
وقال النووي: ما أريد به وجه الله يثبت فيه الأجر وإن حصل لفاعله في ضمنه حظ شهوة من لذة أو غيرها كوضع لقمة

في فم الزوجة وهو غالبًا لحظ النفس والشهوة، وإذا ثبت الأجر في هذا ففيما يراد به وجه الله فقط أحرى، وفي رواية الكشميهني في في امرأتك بغير ميم.
قال في الفتح: وهي رواية الأكثر والمستثنى محذوف لأن الفعل لا يقع مستثنى، والتقدير كما قال العيني: لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلاّ نفقة أجرت عليها، ويكون قوله: أجرت عليها صفة للمستثنى، والمعنى على هذا لأن النفقة المأجور فيها هي التي تكون ابتغاء لوجه الله تعالى لأنها لو لم تكن لوجه الله لما كانت مأجورًا فيها، والاستثناء متصل لأنه من الجنس والتنكير في قوله نفقة في سياق النفي يعم القليل والكثير والخطاب في أنك للعموم، إذ ليس المراد سعدًا فقط فهو مثل: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} [السجدة: 1] .
والصارف قرينة عدم اختصاصه، ويحتمل أن يكون بالقياس.
وحتى ابتدائية وما مبتدأ خبره المحذوف المقدر بقوله: ( فأنت مأجور فيه) ، فالنية الصالحة إكسير تقلب العادة عبادة والقبيح جميلاً، فالعاقل لا يتحرك حركة إلاّ لله فينوي بمكثه في المسجد زيارة ربه في انتظار الصلاة واعتكافه على طاعته وبدخوله الأسواق ذكر الله، وليس الجهر بشرط وأمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر وينوي عقب كل فريضة انتظار أخرى فأنفاسه إذًا نفائس ونيته خير من عمله.

وهذا الحديث المذكور في الباب قطعة من حديث طويل مشهور أخرجه المؤلف في الجنائز والمغازي والدعوات والهجرة والطب والفرائض، ومسلم في الوصايا، وأبو داود والترمذي فيها أيضًا.
وقال: حسن صحيح، والنسائي فيها وفي عشرة النساء وفي اليوم والليلة، وابن ماجة في الوصايا.