فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم "

باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»، وَقَوْلِهِ تَعَالَى ( إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)
هذا ( باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مبتدأ مضاف خبره قوله ( الدين النصيحة) أي قوام الدين وعماده النصيحة ( لله) تعالى بأن يؤمن به ويصفه بما هو أهله ويخضع له ظاهرًا وباطنًا ويركب في محابه بفعل طاعته ويرغب عن مساخطه بترك معصيته ويجاهد في رد العاصين إليه ( و) النصيحة ( لرسوله) عليه الصلاة والسلام بأن يصدق برسالته ويؤمن بجميع ما أتى به ويعظمه وينصره حيًّا وميتًا ويحيي سُنته بتعلمها وتعليمها ويتخلق بأخلاقه ويتأدب بآدابه ويحب أهل بيته وأصحابه وأتباعه وأحبابه، ( و) النصيحة ( لأئمة المسلمين) بإعانتهم على الحق وطاعتهم فيه وتنبيههم عند الغفلة برفق وسد خلتهم عند الهفوة ورد القلوب النافرة اليهم، وأما أئمة الاجتهاد فببث علومهم ونشر مناقبهم وتحسين الظن بهم، ( و) نصيحة ( عامّتهم) بالشفقة عليهم والسعي فيما يعود نفعه عليهم وتعليم ما ينفعهم وكفّ الأذى عنهم إلى غير ذلك.
ويستفاد من هذا الحديث أن الدين يطلق على العمل لأنه سمى النصيحة دينًا، وعلى هذا المعنى بنى المؤلف أكثر كتاب الإيمان، وإنما أورده هنا ترجمة ولم يذكره في الباب مسندًا لكونه ليس على شرطه -كما سيأتي قريبًا- ووصله مسلم عن تميم الداري
وزاد فيه: النصيحة لكتاب الله وذلك يقع بتعلمه وتعليمه وإقامة حروفه في التلاوة وتحريرها في الكتابة وبفهم معانيه وحفظ حدوده والعمل بما فيه إلى غير ذلك، وإنما لم يسنده المؤلف لأنه ليس على شرطه لأن راويه تميم، وأشهر طرقه فيه سهيل بن أبي صالح، وقد قال ابن المديني فيما ذكره عنه المؤلف أنه نسي كثيرًا من الأحاديث لموجدته لموت أخيه.
وقال ابن معين: لا يحتج به، ونسبه بعضهم لسوء الحفظ، ومن ثم لم يخرج له البخاري، وقد أخرج له الأئمة كمسلم والأربعة.
وروى عنه مالك ويحيى الأنصاري والثوري وابن عيينة.
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه.
وقال ابن عديّ: هو عندي ثبت لا بأس به مقبول الأخبار، ثم إن هذا الحديث قد عدّ من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام وهو من بليغ الكلام والنصيحة من نصحت العسل إذا صفّيته من الشمع أو من النصح وهو الخياطة بالمنصحة وهي الإبرة، والمعنى أنه يلم شعثه بالنصح كما تلم المنصحة ومنه التوبة النصوح كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله آية يعضد بها الحديث فقال: ( وقوله تعالى) ولأبي الوقت: عز وجل بدل قوله تعالى، ولأبي ذر، وقول الله { إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] بالإيمان والطاعة في السر والعلانية أو بما قدروا عليه فعلاً أو قولاً يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح.


[ قــ :57 ... غــ : 57 ]
- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
[الحديث 57 - أطرافه في: 524، 1401، 2157، 2714، 2715، 7204] .

وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد ( قال: حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان ( عن إسماعيل) بن أبي خالد البجلي التابعي ( قال: حدّثني) بالتوحيد ( قيس بن أبي حازم) بالحاء المهملة وبالزاي المعجمة البجلي بفتح الموحدة والجيم نسبة إلى بجيلة بنت صعب الكوفي التابعي المخضرم، المتوفى سنة أربع أو سبع وثمانين أو منة ثمان وتسعين، ( عن جرير بن عبد الله) بن جابر البجلي الأحمسي بالحاء والسين المهملتين، المتوفى سنة إحدى وخمسين.

( قال بايعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي عاقدته وكان قدومه عليه سنة عشر في رمضان وأسلم وبايعه ( على إقام الصلاة وإيتاء) أي إعطاء ( الزكاة والنصح) بالعطف على المجرور السابق ( لكل مسلم) ومسلمة وفيه تسمية النصح دينًا وإسلامًا، لأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول وهو فرض كفاية على قدر الطاقة إذا علم أنه يقبل نصحه ويأمن على نفسه المكروه، فإن خشي فهو في سعة فيجب على من علم بالمبيع عيبًا أن يبينه بائعًا كان أو أجنبيًّا، وعلى أن ينصح نفسه بامتثال الأوامر واجتناب المناهي وحذف التاء من إقامة تعويضًا عنها بالمضاف إليه ولم يذكر الصوم ونحوه لدخوله في السمع والطاعة.


وهذا الحديث من الخماسيات وفيه اثنان من التابعين إسماعيل وقيس وكل رواته كوفيون غير مسدد وفيه التحديث بالإفراد والجمع والعنعنة.
وأخرجه المؤلف في الصلاة والزكاة والبيوع والشروط ومسلم في الإيمان والترمذي في البيعة.




[ قــ :58 ... غــ : 58 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ.

     وَقَالَ : عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لأَمِيرِكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ.
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلاَمِ.
فَشَرَطَ عَلَىَّ "وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".
فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ.
ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ.

وبه قال: ( حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي بفتح السين الأولى نسبة إلى سدوس بن شيبان البصري المعروف بعارم بمهملتين المختلط بأخرة المتوفى بالبصرة سنة أربع عشرة ومائتين ( قال: حدّثنا أبو عوانة) بفتح العين والنون الوضاح اليشكري ( عن زياد بن علاقة) بكسر العين المهملة وبالقاف ابن مالك الثعلبي بالمثلثة والمهملة الكوفي المتوفى سنة خمس وعشرين ومائة.


( قال: سمعت جرير بن عبد الله) البجلي الأحمسي الصحابي المشهور، المتوفى سنة إحدى وخمسين، وله في البخاري عشرة أحاديث أي سمعت كلامه، فالمسموع هو الصوت والحروف فلما حذف هذا وقع ما بعده تفسيرًا له وهو قوله ( يقول) قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: { إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193] أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع ( يوم) بالنصب على الظرفية أضيف إلى قوله: ( مات المغيرة بن شعبة) سنة خمسين من الهجرة وكان واليًا على الكوفة فى خلافة معاوية واستناب عند موته ولده عروة، وقيل استناب جريرًا ولذا خطب وقد:
( قام فحمد الله) أي أثنى عليه بالجميل عقب قيامه وجملة قام لا محل لها من الأعراب لأنها استئنافية ( وأثنى عليه) ذكره بالخير أو الأوّل وصف بالتحلّي بالكمال، والثاني وصف بالتخلي عن النقائص، وحينئذ فالأولى إشارة إلى الصفات الوجودية، والثانية إلى الصفات العدمية أي التنزيهات ( وقال: عليكم باتقاء الله) أي الزموه ( وحده) أي حال كونه منفردًا ( لا شريك له والوقار) أي الرزانة وهو بفتح الواو والجر عطفًا على اتّقاء أي وعليكم بالوقار ( والسكينة) أي السكون ( حتى يأتيكم أمير) بدل أميركم المغيرة المتوفى ( فإنما يأتيكم الأن) بالنصب على الظرفية أي المدة القريبة من الآن فيكون الأمير زيادًا إذ ولاّه معاوية بعد وفاة المغيرة الكوفة، أو المراد الآن حقيقة فيكون الأمير جريرًا بنفسه
لما روي أن المغيرة استخلف جريرًا على الكوفة عند موته، وإنما أمرهم بما ذكره مقدمًا لتقوى الله تعالى، لأن لغالب أن وفاة الأمراء تؤدي إلى الاضطراب والفتنة سيما ما كان عليه أهل الكوفة إذ

ذاك من مخالفة ولاة الأمور، ومفهوم الغاية من حتى هنا وهو أن المأمور به وهو الاتقاء ينتهي بمجيء الأمير ليس مرادًا، بل يلزم عند مجيء الأمير بطريق الأولى وشرط اعتبار مفهوم المخالفة أن لا يعارضه مفهوم الموافقة.

( ثم قال) جرير ( استعفوا) بالعين المهملة أي اطلبوا العفو ( لأميركم) المتوفى من الله تعالى ( فإنه) أي الأمير والفاء للتعليل ( كان يحب العفو) عن ذنوب الناس فالجزاء من جنس العمل، وفي رواية أبي الوقت وابن عساكر: استغفروا لأميركم بغين معجمة وزيادة راء ( ثم قال أما بعد) بالبناء على الضم ظرف زمان حذف منه المضاف إليه ونوى معناه وفيه معنى الشرط تلزم الفاء في تاليه والتقدير أما بعد كلامي هذا ( فإني أتيت النيي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلت) لم يأت بأداة العطف لأنه بدل اشتمال من أتيت أو استئناف وفي رواية أبي الوقت فقلت له: يا رسول الله ( أبايعك على الإسلام.
فشرط)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( علي) بتشديد الياء أي الإسلام ( والنصح) بالجر عطفًا على قوله الإسلام وبالنصب عطفًا على المقدر أي شرط عليّ الإسلام وشرط النصح ( لكل مسلم) وكذا لكل ذمي بدعائه إلى الإسلام إرشاده إلى الصواب إذا استشار فالتقييد بالمسلم من حيث الأغلب، ( فبايعته على هذا) المذكور من الإسلام والنصح، ( وربّ هذا المسجد) أي مسجد الكوفة إن كانت خطبته ثم أو أشار به إلى المسجد الحرام، ويؤيده ما في رواية الطبراني بلفظ: ورب الكعبة تنبيهًا على شرف المقسم به ليكون أقرب إلى القلوب ( إني لناصح لكم) فيه إشارة إلى أنه وفى بما بايع به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن كلامه عارٍ عن الأغراض الفاسدة، والجملة جواب القسم مؤكد بأن واللام والجملة الاسمية، ( ثم استغفر) الله ( ونزل) عن المنبر أو قعد من قيامه لأنه خطب قائمًا كما مرَّ.
وهذا الحديث من الرباعيات، ورواته ما بين كوفي وبصري وواسطي مع التحديث والسماع والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الشروط، ومسلم في الإيمان، والنسائي في البيعة والسير والشروط، والله أعلم.