فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد ابن خولة

باب رَثَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَعْدَ ابْنَ خَوْلَةَ
هذا ( باب) بالتنوين ( رثى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح الراء مع القصر بلفظ الماضي، ورفع النبي على الفاعلية، ولأبي ذر، والأصيلي: باب رثاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بإضافة باب لتاليه، وكسر راء رثاء، وتخفيف المثلثة، والمد وخفض تاليه بالإضافة ( سعد بن خولة) بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو، نصب على المفعولية.

والمراد هنا: توجعه عليه الصلاة والسلام وتحزنه على سعد، لكونه مات بمكة بعد الهجرة منها، لا مدح الميت وذكر محاسنه، الباعث على تهييج الحزن، وتجديد اللوعة، إذ الأول مباح، بخلاف الثاني فإنه منهي عنه.
وقد أطلق الجوهري الرثاء على عد محاسن الميت مع البكاء، وعلى نظم الشعر فيه.
والأوجه حمل النهي على ما فيه تهييج الحزن، كما مر، أو على ما يظهر فيه تبرم، أو على فعله مع الاجتماع له، أو على الإكثار منه دون ما عدا ذلك، فما زال كثير من الصحابة وغيرهم من العلماء يفعلونه، وقد قالت فاطمة -رضي الله عنها- بنت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا

[ قــ :1247 ... غــ : 1295 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ بِنْتٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَىْ مَالِي؟ قَالَ: لاَ.
فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: لاَ.
ثُمَّ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلْثُ كَبِيرٌ -أَوْ كَثِيرٌ- إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحًا إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ.
يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ".

وبالسند قال: ( حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي، قال: ( أخبرنا مالك) الإمام ( عن ابن شهاب) الزهري ( عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه) سعد ( رضي الله عنه، قال) :

( كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يعودني) بالدال المهملة ( عام حجة الوداع) سنة عشر من الهجرة ( من وجع) اسم لكل مرض ( اشتدّ بي) أي: قوي علي ( فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع) الغاية ( وأنا ذو مال ولا يرثني) من الولد ( إلا بنت) كذا كتب في اليونينية بالتاء المثناة الفوقية المجرورة لا بالهاء.

قيل: هي عائشة، وقيل: إنها أم الحكم الكبرى.
قيل: ما كانت له عصبة، وقيل، معناه: لا يرثني من أصحاب الفروض سواها، وقيل: من النساء.
وهذا قاله قبل أن يولد له المذكور، ( أفأتصدق بثلثي مالي؟) بهمزة الاستفهام على الاستخبار.
( قال) عليه الصلاة والسلام:
( لا) تتصدق بالثلثين ( فقلت) : أتصدق ( بالشطر) أي: بالنصف وللحموي والمستملي: فالشطر، بالفاء والرفع بالابتداء والخبر محذوف، تقديره: فالشطر أتصدق به، وقيده الزمحشري في الفائق، بالنصب بفعل مضمر أي: أوجب الشطر، وقال السهيلي في أماليه: الخفض فيه أظهر من النصب، لأن النصب بإضمار أفعل، والخفض معطوف على قوله: بثلثي مالي: ( فقال) عليه الصلاة والسلام:
( لا) تتصدق بالشطر، ( ثم قال) عليه الصلاة والسلام: ( الثلث) بالرفع، فاعل فعل محذوف، أي: يكفيك الثلث، أو خبر مبتدأ محذوف أي: المشروع الثلث، أو مبتدأ حذف خبره، أي: الثلث كاف.
والنصب على الإغراء، أو بفعل مضمر أي: أعط الثلث ( والثلث كبير) بالموحدة مبتدأ وخبر - ( أو) قال: ( كثير) - بالمثلثة ( إنك أن تذر) بالذال المعجمة وفتح الهمزة في اليونينية: تترك ( ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة) فقراء ( يتكففون الناس) يطلبون الصدقة من أكف الناس، أو يسألونهم بأكفهم.
و: أن تذر، بفتح الهمزة على أنها مصدرية، فهي وصلتها في محل رفع على الابتداء، والخبر: خير، وبالكسر على أنها شرطية.

والأصل كما قاله ابن مالك: إن تركت ورثتك أغنياء فخير، أي: فهو خير لك، فحذف الجواب كقوله تعالى: { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] أي: فالوصية على ما خرجه الأخفش، ثم عطف على قوله: إنك أن تذر ... ما هو علة للنهي عن الوصية بأكثر من الثلث.

فقال: ( وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله) أي: ذاته ( إلا أجرت) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول ( بها) أي: بتلك النفقة ( حتى ما تجعل) أي: الذي تجعله ( فى في امرأتك) وقول الزركشي، كابن بطال: تجعل، برفع اللام و: ما كافة كفت حتى عن عملها.

تعقبه صاحب مصابيح الجامع فقال: ليس كذلك، إذ لا معنى للتركيب حينئذ إن تأملت، بل اسم موصول، وحتى: عاطفة أي: إلا أجرت بتلك النفقة التي تبتغي بها وجه الله، حتى بالشيء الذي تجعله في فم امرأتك.

ثم أورد على نفسه سؤالاً، فقال: فإن قلت: يشترط في حتى العاطفة على المجرور أن يعاد الخافض؟
وأجاب: بأن ابن مالك قيده بأن لا تتعين: حتى، للعطف نحو: عجبت من القوم حتى بنيهم.
قال ابن هشام: يريد أن الموضع الذي يصح أن تحل: إلى، فيه محل: حتى، العاطفة فهي محتملة للجارة، فيحتاج حينئذ إلى إعادة الجار عند قصد العطف، نحو: اعتكفت في الشهر حتى في آخره بخلاف المثال، وما في الحديث.

ثم أورد سؤالاً آخر، فقال: فإن قلت: لا يعطف على الضمير المخفوض، إلا بإعادة الخافض؟
وأجاب: بأن المختار عند ابن مالك، وغيره خلافه، وهو المذهب الكوفي لكثرة شواهده نظمًا ونثرًا، على أنه لو جعل العطف على المنصوب المتقدم، أي: لن تنفق نفقة حتى الشيء الذي تجعله في في امرأتك إلا أجرت.
لاستقام.
ولم يرد شيء مما تقدم.

وفيه: أن المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة، ويثاب عليه، وقد نبه عليه بأخس الحظوظ الدنيوية التي تكون في العادة عند الملاعبة، وهو وضع اللقمة في فم الزوجة، فإذا قصد بأبعد الأشياء عن الطاعة وجه الله، ويحصل به الأجر فغيره بالطريق الأولى.

قال سعد ( فقلت) : ولأبي ذر، وابن عساكر: قلت: ( يا رسول الله أخلف) بضم الهمزة وفتح اللام المشددة مبنيًّا للمفعول، يعني بمكة، بعد أصحابي المنصرفين معك، وللكشميهني: أأخلف بهمزة الاستفهام ( بعد أصحابيّ؟ قال) عليه الصلاة والسلام:
( إنك لن) وللكشميهني: أن ( تخلف) بعد أصحابك ( فتعمل عملاً صالحًا إلا ازددت به) أي: بالعمل الصالح ( درجة ورفعة، ثم لعلك أن تخلف) أي: بأن يطول عمرك، أي: إنك لن تموت بمكة، وهذا من إخباره عليه الصلاة والسلام بالمغيبات، فإنه عاش حتى فتح العراق.
ولعل: للترجي إلا إذا وردت عن الله ورسوله، فإن معناها التحقيق.
قال البدر الدماميني: وفيه دخول أن، على خبر لعل، وهو قليل، فيحتاج إلى التأويل ( حتى ينتفع بك أقوام) من المسلمين بما يفتحه الله على يديك من بلاد الشرك، ويأخذه المسلمون من الغنائم "ويضر بك آخرون" من المشركين الهالكين على يديك وجندك ( اللهم أمض) بهمزة قطع، من الإمضاء وهو الإنفاذ، أي أتتم ( لأصحابي هجرتهم) أي: التي هاجروها من مكة إلى المدينة ( ولا تردّهم على أعقابهم) بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم، فيخيب قصدهم.
قال الزهري، فيما رواه أبو داود الطيالسي، عن إبراهيم بن سعد عنه ( لكن البائس) بالموحدة والهمزة آخره سين مهملة، الذي عليه أثر البؤس أي: شدة الفقر والحاجة ( سعد بن خولة يرثي له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح المثناة التحتية وسكون الراء وبالمثلثة من يرثي ( أن مات بمكة) بفتح الهمزة أي: لأجل موته بالأرض التي هاجر منها، ولا يجوز الكسر على إرادة الشرط، لأنه كان انقضى وتم؛ وهذا موضع الترجمة.

لكن نازع الإسماعيلي المؤلّف بأن هذا ليس من مراثي الوتى، وإنما هو من إشفاق

النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، من موته بمكة بعد هجرته منها، وكان يهوى أن يموت بغيرها، وكراهة ما حدث عليه من ذلك، كقولك: أن أرثي لك مما جرى عليك، كأنه يتحزن عليه.
قال الزركشي: ثم هو بتقدير تسليمه، ليس بمرفوع، وإنما هو مدرج من قول الزهري.

وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في: المغازي، والدعوات، والهجرة، والطب، والفرائض، والوصايا، والنفقات، ومسلم في: الوصايا، وكذا أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.


باب مَا يُنْهَى مِنَ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
( باب ما ينهى عن الحلق عند المصيبة) .


[ قــ :147 ... غــ : 196 ]
- وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ: "وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ، وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ".

( وقال الحكم بن موسى) القنطري بفتح القاف وسكون النون، البغدادي، مما وصله مسلم في صحيحه، وكذا ابن حبان.
ومثل هذا يكون على سبيل المذاكرة لا بقصد التحمل، ولأبوي: ذر، والوقت، كما في الفرع: حدّثنا الحكم.
لكن قال الحافظ ابن حجر: إنه وهم، لأن الذين جمعوا رجال البخاري في صحيحه أطبقوا على ترك ذكره في شيوخه، فدلّ على أن الصواب رواية الجماعة بصيغة التعليق، قال: ( حدّثنا يحيى بن حمزة) قاضي دمشق ( عن عبد الرحمن بن جابر) الأزدي، ونسبه إلى جده، واسم أبيه يزيد ( أن القاسم بن مخيمرة) بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية وبعد الميم المكسورة راء مهملة مصغرًا، وهو كوفي سكن البصرة ( حدثه قال: حدثني) بالإفراد ( أبو بردة) بضم الموحدة، عامر أو الحرث ( بن أبي موسى) الأشعري ( رضي الله عنه قال) :
( وجع) بكسر الجيم، أي: مرض أبي ( أبو موسى وجعًا) بفتح الجيم زاد ابن عساكر: شديدًا ( فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله) بتثليث حاء حجر كما في القاموس، أي: حضنها.
زاد مسلم: فصاحت؛ وله من وجه آخر: أغمي على أبي موسى، فأقبلت امرأته، أم عبد الله، تصيح برنة.
وفي النسائي، هي: أم عبد الله بنت أبي دومة، وفي تاريخ البصرة، لعمر بن شبة: أن اسمها صفية بنت دمون.
وأن ذلك وقع حيث كان أبو موسى أميرًا على البصرة من قبل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؛ والواو في قوله: ورأسه، للحال ( فلم يستطع) أبو موسى ( أن يردّ عليها شيئًا، فلما أفاق قال: أنا) وللحموي والمستملي: إني ( بريء ممن برئ منه رسول الله) ولأبي ذر: محمد ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إن

رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بريء من الصالقة)
بالصاد المهملة والقاف، الرافعة صوتها في المصيبة ( والحالقة) التي تحلق شعرها ( والشاقة) التي تشق ثوبها.

وموضع الترجمة قوله: والحالقة، وخصها بالذكر دون غيرها لكونها أبشع في حق النساء، وقوله برئ بكسر الراء، يبرأ بالفتح قال القاضي: برئ من فعلهن، أو مما يستوجبن من العقوبة، أو من عهدة ما لزمني من بيانه.
وأصل البراءة الانفصال، وليس المراد التبري من الدين والخروج منه، قال النووي: ويحتمل أن يراد به ظاهره، وهو البراءة من فاعل هذه الأمور.