فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: الميت يسمع خفق النعال

باب الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ
هذا ( باب) بالتنوين ( الميت يسمع خفق النعال) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الفاء ثم قاف أي: صوت نعال الأحياء من الذين باشروا دفنه، وغيرهم، عند دوسها على الأرض.


[ قــ :1286 ... غــ : 1338 ]
- حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ح ....

     وَقَالَ  لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ -حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ- أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ.
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا.
.
وَأَمَّا الْكَافِرُ -أَوِ الْمُنَافِقُ- فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ.
فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ، وَلاَ تَلَيْتَ.
ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ

حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ».
[الحديث 1338 - طرفه في: 1374] .

وبالسند قال: ( حدّثنا عياش) بمثناة تحتية مشددة وشين معجمة، ابن الوليد الرقام، قال: ( حدّثنا عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي، بالمهملة، قال: ( حدّثنا سعيد) بكسر العين: ابن أبي عروبة.
قال المؤلّف: ( ح) .

( وقال لي خليفة) بن خياط، ومثل هذه الصيغة تكون في المذاكرة غالبًا ( حدّثنا ابن زريع) بضم الزاي مصغرًا، ولأبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر: يزيد بن زريع، من الزيادة، قال: ( حدّثنا سعيد) هو السابق ( عن قتادة) بن دعامة ( عن أنس) بن مالك ( رضي الله عنه، عن النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال) :
( العبد) المؤمن المخلص ( إذا وُضع في قبره وتولى) بضم الواو وكسر الضاد، من: وضع، وفتح المثناة الفوقية والواو واللام من: تولى، مبنيًّا للفاعل، أي: أدبر ( وذهب أصحابه) من باب تنازع العاملين، وقول ابن التين: إنه كرر اللفظ، والمعنى واحد، تعقب أن التولي هو: الإعراض، ولا يلزم منه الذهاب، وفي اليونينية: وتُولّي بضم الفوقية وكسر الواو واللام، مصحح عليهما، وفي غيرها بضم الواو مبنيًا للمفعول، قال الحافظ ابن حجر: إنه رآه كذلك مضبوطًا بخط معتمد، أي: تولي أمره أي: الميت وسيأتي في رواية عياش بلفظ: وتولى عنه أصحابه، وهو الموجود في جميع الروايات، عند مسلم وغيره.

( حتى إنه) أي الميت، وهمزة إن مكسورة لوقوعها بعد حتى الابتدائية كقولهم: مرض زيد حتى إنهم لا يرجونه، قاله الزركشي، والبرماوي وغيرهما، وزاد الدماميني أيضًا: وجود لام الابتداء المانع من الفتح في قوله: ( ليسمع قرع نعالهم) بفتح القاف وسكون الراء، وهذا موضع الترجمة، لأن الخفق والقرع بمعنى واحد، وإنما ترجم بلفظ: الخفق إشارة إلى وروده بلفظه عند أحمد، وأبي داود من حديث البراء في حديث طويل فيه: وإنه ليسمع خفق نعالهم، زاد في رواية إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، عن أبيه عن أبي هريرة عند ابن حبان في صحيحه: إذا ولوا مدبرين.

( أتاه ملكان) بفتح اللام، وهما المنكر والنكير، وسميا بذلك لأنهما لا يشبه خلقهما خلق الآدميين، ولا الملائكة، ولا غيرهم.
بل لهما خلق منفرد بديع، لا أنس فيهما للناظر إليهما، أسودان أزرقان، جعلهما الله تعالى تكرمة للمؤمن ليثبته ويبصره، وهتكًا لسر المنافق في البرزخ، من قبل أن يبعث، حتى يحل عليه العذاب الأليم، وأعاذنا الله من ذلك بوجهه الكريم ونبيه الرؤوف الرحيم، ( فأقعداه) أي: أجلساه غير فزع، ( فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد) بالجر عطف بيان، أو بدل من سابقه ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟) ولم يقولا: ما تقول في هذا النبي؟ أو غيره من ألفاظ التعظيم، لقصد الامتحان للمسؤول، إذ ربما تلقن تعظيمه من ذلك، ولكن { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] ( فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال) أي: فيقول له الملكان

المذكوران أو غيرهما: ( انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة.
قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فيراهما جميعًا)
أي: المقعدين اللذين أحدهما من الجنة والآخر من النار، أعاذنا الله منها ( وأما الكافر -أو المنافق-) شك الراوي، لكن: الكافر لا يقول المقالة المذكورة، فتعين: المنافق ( فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس! فيقال) أي: فيقول المنكر والنكير، أو غيرهما: ( لا دريت) بفتح الراء ( ولا تليت) بالمثناة التحتية الساكنة بعد اللام المفتوحة، وأصله: تلوت، بالواو.

يقال: تلا يتلو القرآن، لكنه قال: تليت بالياء للازدواج مع دريت أي: لا كنت داريًا ولا تاليًا.
وقال في الفائق: أي: لا علمت بنفسك بالاستدلال، ولا اتبعت العلماء بالتقليد فيما يقولون، أو: لا تلوت القرآن، أي: لم تدر، ولم تتل، أي: لم تنتفع بدرايتك ولا تلاوتك، ولأبي ذر: ولا أتليت، بهمزة مفتوحة وسكون التاء.
قال ابن الأنباري: وهو الصواب، دعاء عليه بأن لا تتلى إبله، أي: لا يكون لها أولاد تتلوها أي: تتبعها.
وتعقبه ابن السراج: بأنه بعيد في دعاء الملكين.
قال: وأي مال للميت.

وأجاب عياض باحتمال أن ابن الأنباري رأى أن هذا أصل الدعاء، استعمل في غيره كما استعمل غيره من أدعية العرب، وقال الخطابي، وابن السكيت: الصواب: ائتليت، بوزن: افتعلت، من قولك: ما ألوته، ما استطعته.
و: لا آلو كذا بمعنى: لا أستطيعه.
قال صاحب اللامع الصبيح: لكن بقاء التاء مع ما قرره، أي الخطابي: آلو بمعنى أستطيع مشكل وقال ابن بري: من روى تليت فأصله ائتليت بهمزة بعد همزة الوصل، فحذفت تخفيفًا، فذهبت همزة الوصل، وسهل ذلك لمزاوجة دريت.

( ثم يضرب) الميت بضم أوّل يضرب، وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول ( بمطرقة) بكسر الميم ( من حديد) صفة لمطرقة، و: من، بيانية، أو: حديد، صفة لمحذوف أي: من ضارب حديد، أي: قوي شديد الغضب، والضارب المنكر أو النكير أو غيرهما.
وفي حديث البراء بن عازب، عند أبي داود: ويأتيه الملكان يجلسانه.
الحديث، وفيه: ثم يقيض له أعمى أبكم أصم، بيده مرزبة من حديد، لو ضُرب بها جبل لصار ترابًا، قال: فيضربه بها ضربة ... الحديث.

وفي حديث أنس بن مالك، عند أبي داود، أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، دخل نخلاً لبني النجار، فسمع صوتًا ففزع ... الحديث، وفيه: فيقول له: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري! فيقول: لا دريت ولا تليت.
فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه، فيصيح فالحديث الأوّل صريح أن الضارب غير منكر ونكير، والثاني أنه الملك السائل له، وهو إما المنكر أو النكير.

( ضربه بين أذنيه) أي أذني الميت ( فيصيح صيحة يسمعها من يليه) أي: يلي الميت ( إلا الثقلين) الجن والإنس، سميا بذلك لثقلهما على الأرض.
والحكمة في عدم سماعهما الابتلاء، فلو سمعا لكان الإيمان منهما ضروريًّا، ولا عرضوا عن التدبير والصنائع، ونحوهما مما يتوقف عليه بقاؤهما،

ويدخل في قوله: من يليه، الملائكة فقط، لأن: من، للعاقل.
وقيل: يدخل غيرهم أيضًا تغليبًا وهو أظهر.

فإن قلت: لم منعت الجن سماع هذه الصيحة دون سماع كلام الميت إذا حمل وقال: قدموني قدموني؟.

أجيب: بأن كلام الميت إذ ذاك في حكم الدنيا، وهو اعتبار لسامعه وعظة.
فأسمعه الله الجن لما فيهم من قوة يثبتون بها عند سماعه، ولا يصعقون بخلاف الإنسان الذي يصعق لو سمعه، وصيحة الميت في القبر عقوبة وجزاء، فدخلت في حكم الآخرة.

وفي الحديث جواز المشي بين القبور بالنعال، لأنه عليه الصلاة والسلام قاله وأقره، فلو كان مكروهًا لبينه، لكن يعكر عليه احتمال أن يكون المراد بسماعه إياها بعد أن يجاوزوا المقبرة، وحينئذٍ فلا دلالة فيه على الجواز، ويدل على الكراهة حديث بشير بن الخصاصية عند أبي داود والنسائي، وصححه الحاكم: أن النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، رأى رجلاً يمشي بين القبور عليه نعلان سبتيان، فقال: يا صاحب السبتيين، ألق نعليك.

وكذا يكره الجلوس على القبر، والاستناد إليه، والوطء عليه توقير للميت إلا لحاجة.
كأن لا يصل إليه إلا بوطئه، فلا كراهة.
وأما حديث مسلم: لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه حتى تخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر ففسره رواية أبي هريرة بالجلوس: للبول والغائط.
ورواه ابن وهب أيضًا في مسنده بلفظ: من جلس على قبر يبول أو يتغوط، وبقية ما استنبط من حديث الباب يأتي إن شاء الله تعالى في باب عذاب القبر.

ورواة هذا الحديث كلهم بصريون، وفيه: التحديث والعنعنة وأخرجه مسلم، والنسائي، والترمذي، وأبو داود.