فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الصلاة على الشهيد

باب الصَّلاَةِ عَلَى الشَّهِيدِ
( باب) حكم ( الصلاة على الشهيد) وهو: المقتول في معركة الكفار، لو كان امرأة، أو رقيقًا، أو صبيًا، أو مجنونًا.
وقد خرج بالتقييد: بالمعركة، من جرح وعاش بعد ذلك حياة مستقرة، وخرج من سمي شهيدًا بسبب غير السبب المذكور كالغريق، والمبطون، والمطعون، فتسميتهم شهداء باعتبار الثواب في الآخرة، فقط.


[ قــ :1291 ... غــ : 1343 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ

قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ.

     وَقَالَ : أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ".
[الحديث 1343 - أطرافه في: 1345، 1346، 1347، 1348، 1353، 4079] .

وبالسند قال: ( حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي، قال: ( حدّثنا الليث) بن سعد الفهمي ( قال: حدّثني) بالإفراد ( ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي ( عن جابر بن عبد الله الأنصاري) ، رضي الله عنهما، قال الحافظ ابن حجر: كذا يقول الليث، عن ابن شهاب عن عبد الرحمن، عن جابر.

قال النسائي: لا أعلم أحدًا من ثقات أصحاب ابن شهاب تابع الليث على ذلك، ثم ساقه من طريق عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن ثعلبة.
فذكر الحديث مختصرًا.
وكذا أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، والطبراني من طريق عبد الرحمن بن إسحاق وعمرو بن الحرث، كلهم، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن ثعلبة، وعبد الله له رؤية، فحديثه من حيث السماع مرسل.

وقد رواه عبد الرزاق عن معمر، فزاد فيه جابرًا، وهو مما يقوي اختيار البخاري، فإن ابن شهاب صاحب حديث، فيحمل على أن الحديث عنده عن شيخين، ولا سيما أن في رواية عبد الرحمن بن كعب ما ليس في رواية عبد الله بن ثعلبة.

وعلى ابن شهاب فيه اختلاف آخر، رواه أسامة بن زيد الليثي، عنه، عن أنس، أخرجه أبو داود والترمذي.
وأسامة سيئ الحفظ، وقد حكى الترمذي في العلل عن البخاري: أن أسامة غلط في إسناده وأخرجه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري، عن ابن شهاب، فقال: عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه: وابن عبد العزيز ضعيف.
وقد أخطأ في قوله: عن أبيه، وقد ذكر البخاري فيه اختلافًا آخر كما سيأتي بعد بابين اهـ.
( قال) أي: جابر: ( كان النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يجمع بين الرجلين من قتلى) غزوة ( أحد في ثوب واحد) إما بأن يجمعهما فيه، وإما بأن يقطعه بينهما.
وقال المظهري قوله: في ثوب واحد، أي في قبر واحد، إذ لا يجوز تجريدهما في ثوب واحد بحيث تتلاقى بشرتاهما، بل ينبغي أن يكون على كل واحد منهما ثيابه الملطخة بالدم، وغيرها.
ولكن يضجع أحدهما بجنب الآخر في قبر واحد، ( ثم يقول) عليه الصلاة والسلام:
( أيهم) أي: أي القتلى.
وللحموي والمستملي: أيهما، أي: أي الرجلين ( أكثر أخذًا للقرآن؟) بالنصب على التمييز في: أخذًا ( فإذا أشير له) عليه الصلاة والسلام ( إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال) عليه الصلاة والسلام ( أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) .
قال المظهري: أي: أنا شفيع لهؤلاء، وأشهد لهم بأنهم بذلوا أرواحهم، وتركوا حياتهم لله تعالى.
اهـ.


وتعقبه الطيبي: بأن هذا الذي قاله لا يساعد عليه تعدية الشهيد بعلى، لأنه لو أريد ما قال لقيل: أنا شهيد لهم، فعدل عن ذلك لتضمين: شهيد، معنى: رقيب وحفيظ، أي: أنا حفيظ عليهم، أراقب أحوالهم وأصونهم من المكاره، وشفيع لهم، ومنه قوله تعالى: { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6 والبروج: 9] { كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] .

( وأمر) عليه الصلاة والسلام ( بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم) بفتح اللام، أي: لم يفعل ذلك بنفسه، ولا بأمره.
وعند أحمد أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال: لا تغسلوهم، فإن كل جرح، أو كلم، أو دم يفوح مسكًا يوم القيامة.
ولم يصل عليهم، والحكمة في ذلك إبقاء أثر الشهادة عليهم، والتعظيم لهم، باستغنائهم عن دعاء القوم، وقد اختلف في الصلاة على الشهيد المقتول في المعركة، فمذهب الشافعية، أنها حرام وبه قال مالك، وأحمد، وقال بعض الشافعية: معناه لا تجب عليهم لكن تجوز.

وفي هذا الحديث: التحديث والعنعنة والقول، وشيخ المؤلّف تنيسي، والليث مصري وابن شهاب وشيخه مدنيان، وفيه: رواية تابعي عن تابعي عن صحابي، وأخرجه أيضًا في: الجنائز، وكذا الترمذي، وقال: صحيح.
والنسائي وابن ماجة.




[ قــ :19 ... غــ : 1344 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ، أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا".
[الحديث 1344 - أطرافه في: 3596، 404، 4085، 646، 6590] .

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي، قال: ( حدّثنا الليث) بن سعد الإمام، قال ( حدّثني) بالإفراد ( يزيد بن أبي حبيب) المصري، واسم أبيه سويد ( عن أبي الخير) يزيد بن عبد الله اليزني ( عن عقبة بن عامر) بضم العين وسكون القاف، الجهني، رضي الله عنه.

( أن النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، خرج يومًا، فصلّى على أهل أحد) الذين استشهدوا في وقعته، في شوّال سنة ثلاث ( صلاته على الميت) بنصب صلاته، أي: مثل صلاته على الميت زاد: في غزوة أحد، من طريق حيوة بن شريح، عن يزيد: بعد ثمان سنين، كالمودّع للأحياء والأموات، لكن في قوله: بعد ثمان سنين تجوّز، لأن وقعة أحد كانت في شوّال سنة ثلاث، كما مر.
ووفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ربيع الأول سنة إحدى عشرة وحينئذ فيكون بعد سبع سنين ودون النصف فهو من باب: جبر الكسر.


والمراد أنه، عليه الصلاة والسلام، دعا لهم بدعاء صلاة الميت، وليس المراد صلاة الميت المعهودة، كقوله تعالى: { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] والإجماع يدل له، لأنه لا يصلّى عليه عندنا، وعند أبي حنيفة، المخالف لا يصلّى على القبر بعد ثلاثة أيام.

فإن قلت: حديث جابر لا يحتج به لأنه نفي، وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها في خبر الإثبات.

أجيب: بأن شهادة النفي إنما تردّ إذا لم يحط بها علم الشاهد، ولم تكن محصورة.
وإلاّ فتقبل بالاتفاق.
وهذه قضية معينة، أحاط بها جابر وغيره علمًا.
وأما حديث الإثبات فتقدم الجواب عنه، وأجاب الحنفية: بأنه تجوز الصلاة على القبر ما لم يتفسخ الميت، والشهداء لا يتفسخون، ولا يحصل لهم تغير، فالصلاة عليهم لا تمتنع أي وقت كان.

وأول أبو حنيفة الحديث في ترك الصلاة عليهم يوم أحد على معنى اشتغاله عنهم، وقلة فراغه لذلك، وكان يومًا صعبًا على المسلمين، فعذروا بترك الصلاة عليهم يومئذ.
وقال ابن حزم الظاهري: إن صلي على الشهيد فحسن، وإن لم يصل عليه فحسن، واستدلّ بحديثي جابر وعقبة، وقال: ليس يجوز أن يترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حق مباح، وليس هذا مكان نسخ لأن استعمالهما معًا ممكن في أحوال مختلفة.

( ثم انصرف إلى المنبر) ولمسلم، كالمؤلّف في المغازي: ثم صعد المنبر كالمودعّ للأحياء والأموات ( فقال: إلي فرط لكم) بفتح الفاء والراء، هو: الذي يتقدم الواردة ليصلح لهم الحياض والدلاء، ونحوهما.
أي: أنا سابقكم إلى الحوض، كالمهيئ له لأجلكم.
وفيه إشارة إلى قرب وفاته عليه الصلاة والسلام.
وتقدمه على أصحابه، ولذا قال: كالمودع للأحياء والأموات ( وأنا شهيد عليكم) أشهد عليكم بأعمالكم، فكأنه باق معهم لم يتقدمهم، بل يبقى بعدهم حتى يشهد بأعمال آخرهم، فهو عليه الصلاة والسلام قائم بأمرهم في الدارين، في حال حياته وموته.
وفي حديث ابن مسعود عند البزار، بإسناد جيد، رفعه: حياتي خير لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شرّ استغفرت الله لكم ( وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن) نظرًا حقيقيًّا بطريق الكشف ( وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض) شك الراوي، فيه إشارة إلى ما فتح على أمته من الملك والخزائن من بعده ( وإني والله أخاف عليكم أن تشركوا بعدي) أي: ما أخاف على جميعكم الإشراك، بل على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من بعض ( ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيهم) بإسقاط إحدى تاءي: تنافسوا، والضمير: لخزائن الأرض، المذكورة، أو للدنيا، المصرح بها في مسلم كالمؤلّف في المغازي، بلفظ: ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، والمنافسة في الشيء الرغبة فيه، والانفراد به.

ورواة هذا الحديث كلهم مصريون، وهو من أصح الأسانيد، وفيه رواية التابعي عن التابعي

عن الصحابي، والتحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلّف أيضًا: في: علامات النبوة، وفي: المغازي، و: ذكر الحوض، ومسلم في: فضائل النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأبو داود في: الجنائز وكذا النسائي.