فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله

باب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ
{ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} : الأَجْدَاثُ الْقُبُورُ.
{ بُعْثِرَتْ} : أُثِيرَتْ: بَعْثَرْتُ حَوْضِي: أَىْ جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلاَهُ.
الإِيفَاضُ: الإِسْرَاعُ.
وَقَرَأَ الأَعْمَشُ { إِلَى نَصْبٍ} : إِلَى شَىْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ.
وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ، وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ.
يَوْمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ { يَنْسِلُونَ} : يَخْرُجُونَ.

(باب موعظة المحدث عند القبر) الموعظة مصدر ميمي، والوعظ: النصح والإنذار بالعواقب (و) باب (قعود أصحابه) أي أصحاب المحدث (حوله) عند القبر لسماع الموعظة والتذكير بالموت وأحوال الآخرة.
وهذا مع ما ينضم إليه من مشاهدة القبور، وتذكر أصحابها، وما كانوا عليه، وما صاروا إليه من أنفع الأشياء لجلاء القلوب، وينفع الميت أيضًا لما فيه من نزول الرحمة عند قراءة القرآن والذكر.
قال ابن المنير: لو فطن أهل مصر لترجمة البخاري هذه لقرت أعينهم بما يتعاطونه من جلوس الوعاظ في المقابر، وهو حسن، إن لم يخالطه مفسدة.
اهـ.

وقد استطرد المؤلّف بعد الترجمة بذكر تفسير بعض ألفاظ من القرآن مناسبة لما ترجم له على عادته، تكثيرًا لفرائد الفوائد، فقال في قوله تعالى: ({ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} ) [المعارج: 43] (الأجداث) معناه، فيما وصله ابن أبي حاتم وغيره من طريق قتادة والسدي: (القبور) وقوله تعالى: { وَإِذَا الْقُبُورُ (بُعْثِرَتْ)} [الانفطار: 4] معناه: (أثيرت) بالمثلثة بعد الهمزة المضمومة، من الإثارة يقال: (بعثرت حوضي أي: جعلت أسفل أعلاه) قاله أبو عبيدة في المجاز، وقال السديّ، مما رواه ابن أبي حاتم: بعثرت: حركت فخرج ما فيها من الأموات، وعن ابن عباس، فيما ذكره الطبراني: بعثرت: بحثت.

وقوله تعالى: { كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] (الايفاض) بهمزة مكسورة ومثناة تحتية ساكنة وفاء ثم ضاد معجمة، مصدر من: أوفض يوفض، إيفاضًا معناه: (الإسراع) قال أبو عبيد: يوفضون، أي: يسرعون (وقرأ الأعمش) سلمان بن مهران موافقة لباقي القراء، إلا ابن عامر وحفصًا (إلى نصب) بفتح النون وسكون الصاد، وفي نسخة زيادة { يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] ولأبي ذر: إلى نصب بضم النون وسكون الصاد بالجمع، والأول أصح عن الأعمش: (إلى شيء منصوب) قال أبو عبيدة: العلم الذي نصبوه ليعبدوه (يستبقون إليه) أيهم يستلمه أول (والنصب) بضم النون وسكون الصاد (واحد، والنصب) بالفتح ثم السكون (مصدر) قال في فتح الباري: كذا وقع، والذي في المغازي للفراء: النصب والنصب واحد وهو مصدر، والجمع الأنصاب.
فكان التغيير من بعض النقلة.
اهـ.

وتعقبه العيني فقال: لا تغيير فيه لأن البخاري فرق بين الاسم والمصدر، ولكن من قصرت يده عن علم الصرف لا يفرق بين الاسم والمصدر في مجيئهما على لفظ واحد.
اهـ.
والأنصاب: حجارة كانت حول الكعبة تنصب، فيهل عليها ويذبح لغير الله.

وقوله تعالى: { ذَلِكَ (يَوْمُ الْخُرُوجِ)} [ق: 42] أي: خروج أهل القبور (من قبورهم) وقوله تعالى: ({ يَنْسِلُونَ} ) [الأنبياء: 96 ويس: 51] أي: (يخرجون) زاد الزجاج بسرعة.


[ قــ :1308 ... غــ : 1362 ]
- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَعَدَ، وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ.
فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً.
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ،.
وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ،.
وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ.
ثُمَّ قَرَأَ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآيَةَ".
[الحديث 1362 - أطرافه في: 4945، 4946، 4947، 4948، 4949، 6217، 6605، 7552] .


وبالسند قال: (حدّثنا) بالجمع، ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عثمان) بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، أحد الحفاظ الكبار، وثقه يحيى بن معين وغيره، وذكر الدارقطني في كتاب التصحيف أشياء كثيرة صحفها من القرآن في تفسيره، لأنه ما كان يحفظ القرآن (قال: حدَّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا، بالجمع (جرير) هو: ابن عبد الحميد الضبي (عن منصور) هو: ابن المعتمر (عن سعد بن عبيدة) بسكون العين في الأول، وضمها وفتح الموحدة آخره، هاء تأنيث مصغرًا في الثاني (عن أبي عبد الرحمن) عبد الله بن حبيب، بفتح الحاء المهملة، السلمي (عن علي) هو: ابن أبي طالب (رضي الله عنه، قال):
(كنا في جنازة في بقيع الغرقد) بفتح الموحدة وكسر القاف، والغرقد بفتح الغين المعجمة والقاف بينهما راء ساكنة آخره دال مهملة، ما عظم من شجر العوسج، كان ينبت فيه، فذهب الشجر وبقي الاسم لازمًا للمكان.
وهو مدفن أهل المدينة، (فأتانا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقعد وقعدنا حوله)، هذا موضع الترجمة مع ما بعده (ومعه مخصرة) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة، وبالصاد المهملة، قال في القاموس: ما يتوكأ عليه كالعصا ونحوه، وما يأخذه الملك يشير به إذا خاطب، والخطيب إذا خطب وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالبًا للاتكاء عليها (فنكس) بتشديد الكاف وتخفيفها، أي خفض رأسه وطأطأ به إلى الأرض على هيئة المهموم المفكر، كما هي عادة من يتفكّر في شيء حتى يستحضر معانيه، فيحتمل أن يكون ذلك تفكرًا منه عليه الصلاة والسلام، في أمر الآخرة لقرينة حضور الجنازة، أو فيما أبداه بعد ذلك لأصحابه أو نكس المخصرة (فجعل ينكت) بالمثناة الفوقية، أي: يضرب في الأرض (بمخصرته، ثم قال):
(ما منكم من أحد) أي (ما من نفس منفوسة) مصنوعة مخلوقة، واقتصر في رواية أبي حمزة، الثوري على قوله: ما منكم من أحد (إلا كتب) بضم الكاف، مبنيًّا للمفعول (مكانها) بالرفع مفعول، ناب عن الفاعل أي: كتب الله مكان تلك النفس المخلوقة (من الجنة والنار) من: بيانية، وفي رواية سفيان إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، وكأنه يشير إلى حديث ابن عمر عند المؤلّف الدال على أن لكل مقعدين لكن لفظه في القدر إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة.
فأو: للتنويع أو هي بمعنى الواو (وإلا قد كتبت) بالتاء آخره، وفي اليونينية بحذفها (شقية أو سعيدة) بالنصب فيهما، كما في الفرع على الحال، أي: وإلاّ كتبت هي، أي، حالها شقية أو سعيدة، ويجوز الرفع، أي: هي شقية أو سعيدة، ولفظ: إلا في المرة الثانية في بعضها بالواو، وفي بعضها بدونها، وهذا نوع من الكلام غريب، وإعادة إلا يحتمل أن يكون: ما من نفس بدلاً من: ما منكم وإلا الثانية بدل من الأولى، وإن يكون من باب اللف والنشر، فيكون فيه تعميم بعد تخصيص إذ الثاني في كل منهما أعم من الأود أشار إليه الكرماني.

(فقال رجل) هو: علي بن أبي طالب، ذكره المصنف في التفسير لكن بلفظ: قلنا، أو: هو سراقة بن مالك بن جعشم، كما في مسلم، أو: هو عمر بن الخطاب، كما في الترمذي، أو: هو أبو

بكر الصديق، كما عند أحمد والبزار والطبراني، أو هو رجل من الأنصار.
وجمع بتعدد السائلين عن ذلك، ففي حديث عبد الله بن عمر فقال أصحابه: (يا رسول الله أفلا نتكل) نعتمد (على كتابنا) أي: ما كتب علينا وقدّر، والفاء في: أفلا معقبة لشيء محذوف أي: أفإذا كان كذلك لا نتكل على كتابنا (وندع العمل) أي: نتركه (فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير) فسيجره القضاء (إلى عمل أهل السعادة) قهرًا، ويكون مآل حاله ذلك بدون اختياره (وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصبر) فسيجره القضاء (إلى عمل أهل الشقاوة) قهرًا؟
(قال) عليه الصلاة والسلام: (أما أهل السعادة فييسرون لعمل) أهل (السعادة) وفي نسخة: فسييسرون باعتبار معنى الأهل (وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل) أهل (الشقاوة).
وحاصل السؤال: ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا فائدة في السعي فإنه لا يرد قضاء الله وقدره.
وحاصل الجواب: لا مشقة، لأن كل أحد ميسر لما خلق له، وهو يسير على من يسره الله عليه.

قال في شرح المشكاة: الجواب من الأسلوب الحكيم منعهم عن الاتكال، وترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، يعني: أنتم عبيد، ولا بدّ لكم من العبودية فعليكم إمرتكم، وإياكم والتصرف في أمور الربوبية، لقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فلا تجعلوا العبادة وتركها سببًا مستقلاً لدخول الجنة والنار، بل هي علامات فقط.
اهـ.

(ثم قرأ عليه الصلاة والسلام { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] الآية.
وزاد أبو ذر والوقت { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] وساق في رواية سفيان إلى قوله: { لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] فقوله: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} أي: أعطى الطاعة، واتقى المعصية، وصدق بالكلمة الحسنى، وهي التي دلت على حق، ككلمة التوحيد، وقوله: { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] فسنهيئه للخلة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} بما أمر به { وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8] بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى، { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] للخلة الموجبة إلى العسر والشدة كدخول النار.

وهذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاوة بتقدير الله القديم واستدلّ به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا، كمن اشتهر له لسان صدق وعكسه، لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر، والحق أن العمل علامة وأمارة، فيحكم بظاهر الأمر.
وأمر الباطن إلى الله تعالى، وقال بعضهم: إن الله أمرنا بالعمل فوجب علينا الامتثال، وغيب عنا المقادير لقيام الحجة، ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته، فمن عدل عنه ضل، لأن القدر من أسراره، لا يطلع عليه إلا هو فإذا دخلوا الجنة كشف لهم.