فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ثناء الناس على الميت

باب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ
( باب) مشروعية ( ثناه الناس) بالأوصاف الحميدة، والخصال الجميلة ( على الميت) بخلاف

الحي، فإنه منهي عنه إذا أفضى إلى الإطراء خشية الإعجاب.


[ قــ :1312 ... غــ : 1367 ]
- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ "مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَبَتْ.
ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ.
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ.
أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ".
[الحديث 1367 - طرفه في: 2642] .

وبالسند قال: ( حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج، قال: ( حدّثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول) :
( مروا) ولأبي ذر: مرّ، بضم الميم مبنيًا للمفعول ( بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا) في رواية النضر بن أنس عند الحاكم، فقالوا: كان يحب الله ورسوله، ويعمل بطاعة الله، ويسعى فيها، ( فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا) قال في رواية الحاكم المذكورة: فقالوا: كان يبغض الله ورسوله، ويعمل بمعصية الله ويسعى فيها، ( فقال) عليه الصلاة والسلام: ( وجبت) .

واستعمال الثناء في الشر لغة شاذة، لكنه استعمل هنا للمشاكلة لقوله: فأثنوا عليها خيرًا.

وإنما مكنوا من الثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري في النهي عن سب الأموات لأن النهي عن سبهم إنما هو في حق غير المنافقين، والكفار، وغير المتظاهر بالفسق، والبدعة.
وأما هؤلاء فلا يحرم سبهم، للتحذير من طريقتهم، ومن الاقتداء بآثارهم، والتخلق بأخلاقهم.
قاله النووي.

( فقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه) لرسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مستفهمًا عن قوله: ( ما وجبت؟ قال) عليه الصلاة والسلام:
( هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة.
وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار)
والمراد بالوجوب: الثبوت، أو هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضله، والعقاب عدله.
لا يسأل عما يفعله ( أنتم شهداء الله في الأرض) ولفظه في: الشهادات: المؤمنون شهداء الله في الأرض.
فالمراد: المخاطبون بذلك من الصحابة، ومن كان على صفتهم من الإيمان.
فالمعتبر شهادة أهل الفضل والصدق، لا الفسقة.
لأنهم قد يثنون على من كان مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة، لأن شهادة العدو لا تقبل.
قاله الداودي.

وقال المظهري: ليس معنى قوله: أنتم شهداء الله في الأرض، أي: الذي يقولونه في حق شخص يكون كذلك، حتى يصير من يستحق الجنة من أهل النار بقولهم، ولا العكس.
بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيرًا رأوه منه كان ذلك علامة كونه من أهل الجنة، وبالعكس.


وتعقبه الطيبي في شرح المشكاة، بأن قوله: وجبت، بعد ثناء الصحابة، حكم عقب وصفًا مناسبًا، فأشعر بالعلية.
وكذا الوصف بقوله: أنتم شهداء الله في الأرض.
لأن الإضافة فيه للتشريف بأنهم بمنزلة عالية عند الله، فهو كالتزكية من الرسول، لأمته، وإظهار عدالتهم بعد شهادتهم لصاحب الجنازة، فينبغي أن يكون لها أثر ونفع في حقه.
قال: وإلى معنى هذا يومئ قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] اهـ.

وقال النووي: قال بعضهم: معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، وكان ذلك مطابقًا للواقع، فهو من أهل الجنة، وإن كان غير مطابق فلا، وكذا عكسه.
قال: والصحيح أنه على عمومه، وأن من مات فألهم الله الناس الثناء عليه بخير كان دليلاً على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة، وهذا الإلهام يستدل به على تعيينها، أو بهذا تظهر فائدة الثناء اهـ.




[ قــ :1313 ... غــ : 1368 ]
- حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: "قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ -وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ- فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: وَجَبَتْ.
ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: وَجَبَتْ.
ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ.
فَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ فَقُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ:.

قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ.
فَقُلْنَا: وَثَلاَثَةٌ؟ قَالَ: وَثَلاَثَةٌ.
فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ.
ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ".
[الحديث 1386 - طرفه في: 643] .

وبه قال: ( حدّثنا عفان بن مسلم) بكسر اللام المخففة، زاد أبو ذرة هو الصفار، قال ( حدّثنا داود بن أبي الفرات) بلفظ النهر، واسمه عمرو الكندي ( عن عبد الله بن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء آخره هاء تأنيث ( عن أبي الأسود) ظالم بن عمرو بن سفيان الديلي، بكسر الدال المهملة وسكون التحتية، ويقال: الدؤلي بضم الدال بعدها همزة مفتوحة، وهو أول من تكلم في النحو بعد عليّ بن أبي طالب.

قال الحافظ ابن حجر: ولم أره من رواية عبد الله بن بريدة عنه، إلا معنعنًا.
وقد حكى الدارقطني في كتاب التتبع، عن عليّ بن المديني: أن ابن بريدة إنما يروي عن يحيى بن معمر، عن أبي الأسود، ولم يقل في هذا الحديث: سمعت أبا الأسود.
قال الحافظ ابن حجر، وابن بريدة ولد في عهد عمر، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاري لا يكتفي بالمعاصرة، فلعله أخرجه شاهدًا أو اكتفى للأصل بحديث أنس السابق.

( قال) أي: أبو الأسود: ( قدمت المدينة) النبوية - ( وقد وقع بها مرض) - جملة حالية، زاد في الشهادات: وهم يموتون موتًا ذريعًا.
وهو بالذال المعجمة أي سريعًا ( فجلست إلى) أي: عند

( عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فمرت بهم جنازة، فأثني) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول ( على صاحبها خيرًا) كذا في جميع الأصول بالنصب، ووجهه ابن بطال، بأنه أقام الجار والمجرور، وهو قوله: على صاحبها مقام المفعول الأول وخيرًا مقام الثاني وإن كان الاختيار عكسه.

وقال النووي: منصوب بنزع الخافض، أي أثنى عليها بخير.
وقال في مصابيح الجامع: على صاحبها، نائب عن الفاعل، وخيرًا: مفعول لمحذوف.
فقال المثنون خيرًا.

( فقال عمر، رضي الله عنه: وجبت ثم مرّ) بضم الميم ( بأخرى، فأثني على صاحبها) فقال المثنون: ( خيرًا، فقال عمر، رضي الله عنه، وجبت ثم مر) بضم الميم ( بالثالثة، فأثني على صاحبها) فقال المثنون ( شرًّا، فقال) عمر رضي الله عنه: ( وجبت.
فقال أبو الأسود)
المذكور بالإسناد السابق، ( فقلت وما) معنى قولك لكل منهما ( وجبت يا أمير المؤمنين) : مع اختلاف الثناء بالخير والشر.
( قال) عمر: ( قلت كما قال النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) هو المقول، وحينئذ فيكون قول عمر، رضي الله عنه لكل منهما وجبت، قاله بناء على اعتقاده صدق الوعد المستفاد من قوله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أدخله الله الجنة.

( أيما مسلم شهد له أربعة) من المسلمين ( بخير، أدخله الله الجنة) .

( فقلنا) أي عمر وغيره ( وثلاثة؟ قال) عليه الصلاة والسلام: ( وثلاثة.
فقلنا: واثنان؟ قال)
عليه الصلاة والسلام ( واثنان) .

( ثم لم نسأله عن الواحد) استبعادًا أن يكتفي في مثل هذا المقام العظيم، بأقل من النصاب.
واقتصر على الشق الأول اختصارًا، أو لإحالة السامع على القياس.

وفي حديث حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس، عند أحمد، وابن حبان والحاكم مرفوعًا: ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة من جيرانه الادنين، أنهم لا يعلمون منه إلا خيرًا، إلا قال الله تعالى قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون وهذا يؤيد قول النووي السابق: إن من مات فألهم الله الناس الثناء عليه بخير، كان دليلاً على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا.

وهذا في جانب الخير واضح، وأما في جانب الشر، فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره، وقد وقع في رواية النضر عند الحاكم: إن لله تعالى ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المؤمن من الخير أو الشر.

وهل يختص الثناء الذي ينفع الميت بالرجال، أو يشمل النساء أيضًا.
وإذا قلنا إنهن يدخلن، فهل يكتفى باْمرأتين، أو لا بد من رجل واْمرأتين؟ محل نظر.
وقد يقال: لا يدخلن، لقصة أم العلاء الأنصارية، لا أثنت على عثمان بن مظعون بقولها: فشهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى.
فقال لها النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وما يدريك أن الله أكرمه، فلم يكتف بشهادتها، لكن يجاب بأنه عليه الصلاة

والسلام، إنما أنكر عليها القطع بأن الله أكرمه، وذلك مغيب عنها، بخلاف الشهادة للميت بأفعاله الحسنة التي يتلبس بها في الحياة الدنيا.

ورواة هذا الحديث: كلهم بصريون، لكن داود مروزي، تحول إلى البصرة.
وهو من أفراد المؤلّف.

وفيه: رواية تابعي عن تابعي عن صحابي والتحديث والعنعنة والقول، وأخرجه أيضًا في الشهادات، والترمذي في: الجنائز، وكذا النسائي والله أعلم.