فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ما جاء في عذاب القبر

باب مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ
وَقَولُهُ تَعَالَى: { إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] َالْهَوْنُ هُوَ الْهَوَانُ.
وَالْهَوَانُ الرِّفْقُ، وَقَولُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] .
وَقَولُهُ تَعَالَى: { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45] .

(باب ما جاء في عذاب القبر) قد تظاهرت الدلائل من الكتاب والسنة على ثبوته، وأجمع عليه أهل السنة، ولا مانع في العقل أن يعيد الله الحياة في جزء من الجسد، أو في جميعه على الخلاف المعروف، فيثيبه ويعذبه.
وإذا لم يمنعه العقل وورد به الشرع وجب قبوله، واعتقاده.
ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاؤه، كما يشاهد في العادة، أو أكلته السباع والطيور وحيتان البحر.

كما أن الله تعالى يعيده للحشر، وهو سبحانه وتعالى، قادر على ذلك، فلا يستبعد تعلق روح الشخص الواحد في آن واحد بكل واحد من أجزائه المتفرقة في المشارق والمغارب.
فإن تعلقه ليس على سبيل الحلول حتى يمنعه الحلول في جزء من الحلول في غيره، قال في مصابيح الجامع: وقد كثرت الأحاديث في عذاب القبر، حتى قال غير واحد: إنها متواترة لا يصح عليها التواطؤ وإن لم يصح مثلها لم يصح شيء من أمر الدين.

قال أبو عثمان الحداد وليس في قوله تعالى: إ { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] ما يعارض ما ثبت من عذاب القبر، لأن الله تعالى أخبر بحياة الشهداء قبل يوم القيامة، وليست مرادة بقوله تعالى: { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] فكذا حياة المقبور قبل الحشر.

قال ابن المنير: وأشكل ما في القضية أنه إذا ثبت حياتهم، لزم أن يثبت موتهم بعد هذه الحياة ليجتمع الخلق كلهم في الموت عند قوله تعالى: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] ويلزم تعدد الموت،

وقد قال تعالى: { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] الآية، والجواب الواضح عندي أن معنى قوله تعالى: { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان: 56] أي ألم الموت فيكون الموت الذى يعقب الحياة الأخروية بعد الموت الأول لا يذاق ألمه البتة، ويجوز ذلك في حكم التقدير بلا إشكال، وما وضع العرب اسم الموت إلا للمؤلم على ما فهموه لا باعتبار كونه ضدّ الحياة، فعلى هذا يخلق الله لتلك الحياة الثانية ضدًّا يعدمها به لا يسمى ذلك الضد موتًا، وإن كان للحياة ضد، جمعًا بين الأدلة العقلية والنقلية واللغوية.
اهـ.

وقد ادعى قوم عدم ذكر عذاب القبر في القرآن، وزعموا أنه لم يرد ذكره إلا من أخبار الآحاد، فذكر المصنف آيات تدل لذلك ردًّا عليهم فقال: (وقوله تعالى) بالجر عطفًا على عذاب، أو بالرفع على الاستئناف ({ إذ الظالمون} ) ولأبي ذر، وابن عساكر: { ولو ترى إذ الظالمون} جوابه محذوف، أي: ولو ترى زمن غمراتهم لرأيت أمرًا فظيعًا ({ في غمرات الموت} ) شدائده ({ والملائكة باسطو أيديهم} ) لقبض أرواحهم أو بالعذاب ({ أخرجوا أنفسكم} ) أي: يقولون لهم أخرجوها إلينا من أجسادكم تغليطًا وتعنيفًا عليهم، فقد ورد أن أرواح الكفار تتفرق في أجسادهم، وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج ({ اليوم} ) يريد وقت الإماتة لما فيه من شدة النزع، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له الذي فيه عذاب البرزخ والقيامة ({ تجزون عذاب الهون} ) [الأنعام: 93] .

وروى الطبري، وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس { والملائكة باسطو أيديهم} قال: هذا عند الموت، والبسط الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم (الهون) بالضم، ولأبي ذر: قال أبو عبد الله أي البخاري: الهون (هو الهوان) يريد العذاب المتضمن لشدة وإهانة، وأضافه إلى الهون لتمكنه فيه، (والهون) بالفتح والرفع: (الرفق.
وقوله جل ذكره: ({ سنعذبهم مرتين} ) بالفضيحة في الدنيا، وعذاب القبر، رواه الطبري وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، عن ابن عباس بلفظ: خطب رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الجمعة، فقال: أخرج يا فلان فإنك منافق ... فذكر الحديث.
وفيه: ففضح الله المنافقين، فهذا العذاب الأول.
والعذاب الثاني، عذاب القبر، أو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، ثم عذاب القبر ({ ثم يردون إلى عذاب عظيم} ) [التوبة: 101] في جهنم.

(وقوله تعالى: { وحاق بآل فرعون} ) فرعون وقومه، واستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك ({ سوء العذاب} ) الغرق في الدنيا، ثم النقلة منه إلى النار ({ النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًّا} ) جملة مستأنفة، أو: النار، بدل من سوء العذاب، ويعرضون حال.
وروى ابن مسعود: أن أرواحهم في أجواف طير سود تعرض على النار بكرة وعشيًا، فقال لهم: هذه داركم.
رواه ابن أبي حاتم، قال القرطبي: الجمهور على أن هذا العرض في البرزخ، وفيه دليل على بقاء النفس، وعذاب القبر ({ ويوم تقوم الساعة} ) أي: هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم: ({ أدخلوا} )

{ آَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45] عذاب جهنم فإنه أشد مما كانو فيه، أو أشد عذاب جهنم.

وهذه الآية المكية أصل في الاستدلال لعذاب القبر، لكن استشكلت مع الحديث المروي في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين: أن يهودية في المدينة كانت تعيذ عائشة من عذاب القبر، فسألت عنه رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: كذب يهود، لا عذاب دون القيامة.
فلما مضى بعض أيام، نادى رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، محمرًا عيناه، بأعلى صوته: أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإنه حق.

وأجيب: بأن الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ، وما نفاه أوّلاً ثم أثبته، عليه الصلاة والسلام، عذاب الجسد فيه.
والأولى أن يقال: الآية دلت على عذاب الكفار، وما نفاه، ثم أثبته عذاب القبر للمؤمنين.
ففي صحيح مسلم، من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، أن يهودية قالت لها: أشعرت أنكم تفتنون في القبور؟ فلما سمع، عليه الصلاة والسلام، قولها ارتاع، وقال: إنما تفتن اليهود.
ثم قال بعد ليال: أشعرت أنه أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور، وفي الترمذي، عن عليّ قال: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2] وفي صحيح ابن حبان، من حديث أبي هريرة مرفوعًا في قوله تعالى: { فإن له معيشة ضنكًا} قال عذاب القبر.


[ قــ :1314 ... غــ : 1369 ]
- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ .

     قَوْلُهُ : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} .

وبالسند قال: (حدّثنا حفص بن عمر) الحوضي، قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن علقمة بن مرثد) بفتح الميم والمثلثة، الحضرمي (عن سعد بن عبيدة) بسكون العين في الأوّل، وضمها وفتح الموحدة مصغرًا آخره هاء تأنيث في الثاني، وصرّح في رواية أبي الوليد الطيالسي، الآتية إن شاء الله تعالى في التفسير بالإخبار بين شعبة وعلقمة، وبالسماع بين علقمة وسعد بن عبيدة (عن البراء بن عازب، رضي الله عنهما، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا أقعد المؤمن في قبره) بضم همزة أقعد مبنيًا للمفعول، كهمزة (أتي) أي: حال كونه مأتيًّا إليه.
والآتي: الملكان منكر ونكير (ثم شهد) بلفظ الماضي: كعلم، وللحموي والكشميهني كما في الفرع، وقال في الفتح، والمستملي بدل الكشميهني: ثم يشهد، بلفظ المضارع، كيعلم (أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله) وفي رواية أبي الوليد المذكورة، المسلم، إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله (فذلك قوله) تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) الذي ثبت بالحجة عندهم، وهي كلمة التوحيد، وثبوتها تمكنها في القلب، واعتقاد حقيتها، واطمئنان القلب

بها.
زاد في رواية أبي الوليد { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ} [إبراهيم: 27] وتثبيتهم في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا عنها، وإن ألقوا في النار ولم يرتابوا بالشبهات.
وتثبيتهم في الآخرة: أنهم إذا سئلوا في القبر لم يتوقفوا في الجواب وإذا سئلوا في الحشر، وعند موقف الإشهاد، عن معتقدهم ودينهم، لم تدهشهم أهوال القيامة.
وبالجملة، فالمرء على قدر ثباته في الدنيا يكون ثباته في القبر وما بعده وكلما كان أسرع إجابة كان أسرع تخلصًا من الأهوال.
والمسؤول عنه في قوله: إذا سئلوا الثابت في رواية أبي الوليد، محذوف أي: عن ربه ونبيه ودينه.

وفي هذا الحديث: التحديث والعنعنة، ورواته ما بين: بصري وكوفي، وأخرجه المؤلّف أيضًا في الجنائز، وفي التفسير، ومسلم في: صفة النار، وأبو داود في: السنة، والترمذي في: التفسير، والنسائي في: الجنائز، وفي التفسير، وابن ماجة في: الزهد.

1369م- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا، وَزَادَ { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ.
[الحديث 1369م- طرفه في: 4699] .

وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بفتح الموحدة والشين المعجمة المشددة، العبدي البصري، ويقال له: بندار، قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (بهذا) أي: بالحديث السابق (وزاد: { يثبت الله الذين آمنوا} ) بالقول الثابت (نزلت في عذاب القبر).

قال الطيبي في شرح المشكاة: إن قلت: ليس في الآية ما يدل على عذاب المؤمن في القبر، فما معنى نزلت في عذاب القبر؟ قلت لعله سمى أحوال العبد في القبر بعذاب القبر على تغليب فتنة الكافر على فتنة المؤمن ترهيبًا وتخويفًا، ولأن القبر مقام الهول والوحشة، ولأن ملاقاة الملكين مما يهيب المؤمن في العادة.




[ قــ :1315 ... غــ : 1370 ]
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَخْبَرَهُ قَالَ: "اطَّلَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ فَقَالَ: وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا.
فَقِيلَ لَهُ: أتَدْعُو أَمْوَاتًا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ".
[الحديث 1370 - طرفاه في: 3980، 406] .

وبه قال: ( حدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني، قال: ( حدّثنا يعقوب بن إبراهيم) قال: ( حدّثني) بالإفراد.
ولأبي الوقت: حدّثنا ( أبي) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي ( عن صالح) هو: ابن كيسان، قال: ( حدّثني) بالإفراد ( نافع) مولى ابن عمر بن الخطاب ( أن ابن عمر، رضي الله عنهما، أخبره قال) :
( اطلع النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، على أهل القليب) قليب بدر، وهم: أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وهم يعذبون ( فقال) لهم: ( وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟) وفي

نسخة: ما وعدكم.
( فقيل له) عليه الصلاة والسلام، والقائل عمر بن الخطاب كما في مسلم: ( أتدعو) بهمزة الاستفهام، وسقطت من اليونينية، كما في فرعها ( أمواتًا؟ فقال) عليه الصلاة والسلام ( ما أنتم بأسمع منهم) لما أقول ( ولكن لا يجيبون) : لا يقدرون على الجواب.
وهذا يدل على وجود حياة في القبر يصلح معها التعذيب، لأنه لما ثبت سماع أهل القليب كلامه، عليه الصلاة والسلام، وتوبيخه لهم، دل على إدراكهم الكلام بحاسة السمع، وعلى جواز إدراكهم ألم العذاب ببقية الحواس بل بالذات.

ورواة هذا الحديث: مدنيون، وفيه رواية تابعي عن تابعي عن صحابي، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه أيضًا في: المغازي مطوّلاً، ومسلم في: الجنائز، وكذلك النسائي.




[ قــ :1316 ... غــ : 1371 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ حَقٌّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ".
[الحديث 1371 - طرفاه في: 3979، 3981] .

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن محمد) هو: ابن أبي شيبة، قال: ( حدّثنا سفيان) بن عيينة ( عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير ( عن عائشة، رضي الله عنها، قالت) : تردّ رواية ابن عمر: ما أنتم بأسمع منهم.

( إنما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول حق) ولأبوي الوقت، وذر: أن ما كنت أقول لهم حق، ثم استدلت لما نفته بقولها: ( وقد قال الله تعالى: { إنك لا تسمع الموتى} ) قالوا: ولا دلالة فيها على ما نفته، بل لا منافاة بين قوله، عليه الصلاة والسلام: إنهم الآن يسمعون، وبين الآية.
لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم، بأن أبلغ صوت نبيه، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك.

وقد قال المفسرون: إن الآية مثل ضربة الله للكفار أي: فكما أنك لا تسمع الموتى، فكذلك لا تفقه كفار مكة، لأنهم كالموتى في عدم الانتفاع بما يسمعون.
وقد خالف الجمهور عائشة في ذلك، وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواه غيره عليه، ولا مانع أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال اللفظين معًا، ولم تحفظ عائشة إلا أحدهما، وحافظ غيرها سماعهم بعد إحيائهم.

وإذا جاز أن يكونوا عالمين، جاز أن يكونوا سامعين، إما بآذان رؤوسهم، كما هو قول الجمهور، أو بآذان الروح فقط، والمعتمد قول الجمهور، لأنه: لو كان العذاب على الروح فقط، لم يكن للقبر بذلك اختصاص، وقد قال قتادة، كما عند المؤلّف في غزوة بدر: أحياهم الله تعالى حتى أسمعهم توبيخًا أو نقمة.




[ قــ :1317 ... غــ : 137 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْتُ الأَشْعَثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ

-رضي الله عنها- "أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ: نَعَمْ، عَذَابُ الْقَبْرِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدُ صَلَّى صَلاَةً إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".

وبه قال: ( حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة، قال: ( أخبرني) بالإفراد ( أبي) عثمان ( عن شعبة) بن الحجاج، قال: ( سمعت الأشعث) بالمثلثة في آخره ( عن أبيه) أبي الشعثاء، بالمد، سليم بن أسود المحاربي.
وفي رواية أبي داود الطيالسي: عن شعبة، عن أشعث سمعت أبي، ( عن مسروق) هو: ابن الأجدع ( عن عائشة، رضي الله عنها) .

( أن يهودية) قال ابن حجر: لم أقف على اسمها ( دخلت عليها) أي: على عائشة ( فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر.
فسألت عائشة)
رضي الله عنها ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عن عذاب القبر، فقال) :
( نعم، عذاب القبر) بحذف الخبر، أي: حق، أو: ثابت.
وللحموي والمستملي: عذاب القبر حق، بإثبات الخبر، لكن قال الحافظ ابن حجر: ليس بجيد، لأن المصنف قال عقب هذه الطريق، زاد غندر: عذاب القبر، حق، فبين أن لفظة: حق، ليست في رواية عبدان عن أبيه عن شعبة، وأنها ثابتة في رواية غندر، يعني: عن شعبة.
وهو كذلك، وقد أخرج طريق غندر: النسائي والإسماعيلي: كذلك، وكذا أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة.
اهـ.

وتعقبه العيني، بأن قوله: زاد غندر: عذاب القبر حق، ليس بموجود في كثير من النسخ، ولئن سلمنا وجود هذا، فلا نسلم أنه يستلزم حذف الخبر، مع أن الأصل ذكر الخبر، وكيف ينفي الجودة من رواية المستملي مع كونها على الأصل؟ فماذا يلزم من المحذور إذا ذكر الخبر في الروايات كلها؟ اهـ فليتأمل.

( قالت عائشة، رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد) مبني على الضم، أي: بعد سؤالي إياه ( صلّى صلاة إلا تعوذ) فيها ( من عذاب القبر) .
وزاد في رواية أبي ذر هنا قوله: وزاد غندر: عذاب القبر حق.
ففي هذا الحديث أنه أقر اليهودية على أن عذاب القبر حق، وفي حديثي أحمد ومسلم السابقين، أنه أنكره، حيث قال: كذب يهود، لا عذاب دون عذاب يوم القيامة، وإنما تفتن اليهود.
فبين الروايتين مخالفة، لكن قال النووي، كالطحاوي وغيرهما: قضيتان، فأنكر، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قول اليهودية في الأولى، ثم أعلم بذلك ولم يعلم عائشة، فجاءت اليهودية مرة أخرى، فذكرت لها ذلك، فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأول، فأعلمها عليه الصلاة والسلام بأن الوحي نزل بإثباته اهـ.


وفيه إرشاد لأمته، ودلالة على أن عذاب القبر ليس خاصًّا بهذه الأمة، بخلاف المسألة ففيها خلاف، يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.




[ قــ :1318 ... غــ : 1373 ]
- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنهما- تَقُولُ "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يَفْتَتِنُ فِيهَا الْمَرْءُ.
فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً".

وبه قال: ( حدّثنا يحيى بن سليمان) أبو سعيد الجعفي الكوفي، نزيل البصرة، قال: ( حدَّثنا ابن وهب) عبد الله المصري بالميم ( قال: أخبرني) بالإفراد ( يونس) بن يزيد الأيلي ( عن ابن شهاب) الزهري، قال: ( أخبرني) بالإفراد ( عروة بن الزبير) بن العوّام ( أنه سمع أسماء بنت أبي بكر) الصديق ( رضي الله عنهما، تقول) :
( قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه ( خطيبًا، فذكر فتنة القبر التي يفتتن فيها المرء) بفتح المثناة التحتية وكسر المثناة الفوقية الثانية، ولأبي ذر والوقت، من غير اليونينية: يفتن بضم أوّله وفتح ثالثه مبنيًا للمفعول، ( فلما ذكر ذلك) بتفاصيله كما يجري على المرء في قبره ( ضج المسلمون ضجة) عظيمة، وزاد النسائي من الوجه الذي أخرجه منه البخاري: حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما سكنت ضجتهم قلت لرجل قريب مني، أي: بارك الله فيك؛ ماذا قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي آخر كلامه؟ قال: قال: قد أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور قريبًا من فتنة المسيح الدجال، أي: فتنة قريبة، يريد: فتنة عظيمة، إذ ليس فتنة أعظم من فتنة الدجال.

وهذا الحديث قد سبق في العلم، والكسوف، والجمعة من طريق فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بتمامه.
وأورده هنا مختصرًا، ووقع هنا في بعض نسخ البخاري: وزاد غندر: عذاب القبر، بحذف الخبر أي: حق وثبت لأبي الوقت، وكذا هو ثابت في الفرع، لكن رقم عليه علامة السقوط، وفوقها علامة أبي ذر الهروي، ولا يخفى أن هذا إنما هو في آخر حديث عائشة المتقدّم، فذكره في حديث أسماء غلط، لأنه لا رواية لغندر فيه.




[ قــ :1319 ... غــ : 1374 ]
- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ -وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ- أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي الرَّجُلِ؟ لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا".
قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ.
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: "وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ

أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ.
فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ.
وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ".

وبه قال: ( حدّثنا عياش بن الوليد) بفتح العين والمثناة التحتية المشدّدة، آخره شين معجمة، الرقام البصري، قال: ( حدّثنا عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي، بالسين المهملة، قال: ( حدَّثنا سعيد) هو: ابن أبي عروبة ( عن قتادة) بن دعامة ( عن أنس بن مالك) وسقط لفظة: ابن مالك لأبي ذر ( رضي الله عنه، أنه حدثهم أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال) :
( إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه) بالواو، والضمير للميت، ولأبي ذر: إنه ( ليسمع قرع نعالهم) زاد مسلم: إذا انصرفوا ( أتاه ملكان) زاد ابن حبان والترمذي، من حديث أبي هريرة: أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، وللآخر النكير.

والنكير فعيل بمعنى مفعول، والمنكر مفعل من أنكر، وكلاهما ضدّ المعروف، وسميا به لأن الميت لم يعرفهما، ولم ير صورة مثل صورتهما، وإنما صوّرا كذلك ليخاف الكافر ويتحير في الجواب، وأما المؤمن فيثبته الله بالقول الثابت، فلا يخاف لأن من خاف الله في الدنيا وآمن به وبرسله وكتبه لم يخف في القبر.

وزاد الطبراني في الأوسط، من حديث أبي هريرة أيضًا: أعينهما مثل قدور النحاس، وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد.

وزاد عبد الرزاق، من مرسل عمرو بن دينار: يحفران بأنيابهما، ويطآن في أشعارهما، معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها.
وذكر بعض الفقهاء أن اسم اللذين يسألان المذنب: منكر ونكير، واسم اللذين يسألان المطيع: مبشر وبشير.
كذا نقله في الفتح.

( فيقعدانه) فتعاد روحه في جسده، وفي حديث البراء: فيجلسانه، وزاد ابن حبان من حديث أبي هريرة: فإذا كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصوم عن شماله، وفعل المعروف من قبل رجليه، فيقال له: أجلس.
فيجلس، وقد مثلث له الشمس عند الغروب: زاد ابن ماجة من حديث جابر: فيجلس يمسح عينيه، ويقول: دعوني أصلي، فانظر كيف يبعث المرء على ما عاش عليه.

اعتاد بعضهم أنه كلما انتبه ذكر الله واستاك، وتوضأ وصلّى، فلما مات رئي، فقيل له: ما فعل الله بك.
قال: لما جاءني الملكان، وعادت إليّ روحي، حسبت أني انتبهت من الليل، فذكرت الله على العادة، وأردت أن أقوم أتوضأ، فقالا لي: أين تريد تذهب؟ فقلت: للوضوء والصلاة، فقالا: ثم نومة العروس، فلا خوف عليك ولا بؤس.

( فيقولان) له: ( ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بيان من الراوي أي: لأجل محمد

عليه الصلاة والسلام، وعبر بذلك امتحانًا، لئلا يتلقن تعظيمه من عبارة القائل.
والإشارة في قوله: هذا، للحاضر، فقيل: يكشف للميت حتى يرى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي بشرى عظيمة للمؤمن إن صح ذلك، ولا نعلم حديثًا صحيحًا مرويًّا في ذلك.
والقائل به إنما استند لمجرد أن الإشارة لا تكون، إلا لحاضر.
لكن يحتمل أن تكون الإشارة لما في الذهن، فيكون مجازًا.
وزاد أبو داود في أوّله: ما كنت تعبد؟ فإن الله هداه قال: كنت أعبد الله.
فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ ( فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله) زاد في حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق، السابق في العلم والطهارة وغيرهما: جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا.
( فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار) ولأبي داود: هذا بيتك كان في النار ( قد أبدلك الله مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا) فيزداد فرحًا إلى فرحه، ويعرف نعمة الله عليه بتخليصه من النار، وإدخاله الجنة.
وفي حديث أبي سعيد،
عن سعيد بن منصور: فيقال له: نم نومة عروس، فيكون في أحلى نومة نامها أحد حتى يبعث.
وللترمذي من حديث أبي هريرة: ويقال له: نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك.

( قال قتادة: وذكر لنا) بضم الذال، مبنيًا للمفعول ( أنه يفسح في قبره) في زائدة، والأصل: يفسح قبره.
ولأبوي ذر والوقت: يفسح له في قبره، وزاد ابن حبان: سبعين ذراعًا في سبعين ذراعًا، وعنده من وجه آخر، عن أبي هريرة، رضي الله عنه: ويرحب له في قبره سبعين ذراعًا، وينوّر له كالقمر ليلة البدر، وعنده أيضًا: فيزداد غبطة وسرورًا فيعاد الجلد إلى ما بدئ منه، وتجعل روحه في نسم طائر يعلق في شجر الجنة.

( ثم رجع) قتادة ( إلى حديث أنس، قال) :
( وأما المنافق والكافر) كذا بواو العطف، وتقدم في باب: خفق النعال، وأما الكافر أو المنافق بالشك ( فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟) محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فيقول لا أدري) وفي رواية أبي داود المذكورة، وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره، فيقول له: ما كنت تعبد؟ وفي أكثر الأحاديث: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ وفي حديث البراء: فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه ... لا يدري.
فيقولان له: ما دينك فيقول: هاه هاه ... لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه ... لا أدري ( كنت أقول ما يقول الناس) المسلمون ( فيقال) له: ( لا دريت ولا تليت) أصله: تلوت.
بالواو، والمحدثون إنما يروونه بالياء للازدواج، أي: لا فهمت ولا قرأت القرآن، أو المعنى: لا دريت ولا اتبعت من يدري، ولأبي ذر: ولا تليت، بزيادة ألف وتسكين المثناة الفوقية، وصوّبها يونس بن حبيب، فيما حكاه ابن قتيبة كأنه يدعو عليه، بأنه لا يكون له من يتبعه، واستبعد هذا في دعاء الملكين.
وأجيب: بأن هذا أصل الدعاء، ثم استعمل في غيره ( ويضرب بمطارق من حديد ضربة) بإفراد ضربة، وجمع: مطارق ليؤذن بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها، مبالغة ( فيصيح صيحة يسمعها من يليه) مفهومه: أن من

بعُد لا يسمعه، فيكون مقصورًا على الملكين.
لكن في حديث البراء: يسمعها ما بين المشرق والمغرب.
والمفهوم لا يعارض المنطوق، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد: يسمعه خلق الله كلهم ( غير الثقلين) الجنّ والإنس.
وغير نصب على الاستثناء.

وفي هذا الحديث: إثبات عذاب القبر، وأنه واقع على الكفار، ومن شاء الله من الموحدين.
والمسألة، وهل هي واقعة على كل أحد؟ فقيل: إنما تقع على من يدّعي الإيمان إن محقًا وإن مبطلاً لقول عبيد بن عمير، أحد كبار التابعين، فيما رواه عبد الرزاق: إنما يفتن رجلان مؤمن ومنافق، وأما الكافر فلا يسأل عن محمد، ولا يعرفه.
والصحيح أنه يسأل، لما ورد في ذلك من الأحاديث المرفوعة الصحيحة الكثيرة الطرق، وبذلك جزم الترمذي الحكيم، وقال ابن القيم في الروح: في الكتاب والسنة دليل على أن السؤال للكافر والمسلم قال الله تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 7] وفي حديث أنس، في البخاري: وأما المنافق والكافر، بواو العطف.
وهل يسأل الطفل الذي لا يميز؟ جزم القرطبي في تذكرته أنه يسأل، وهو منقول عن الحنفية، وجزم غير واحد من الشافعية بأنه لا يسأل.
ومن ثم قالوا: لا يستحب أن يلقن.

وقال عبيد بن عمير، مما ذكره الحافظ زين الدين ابن رجب في كتابه، أهوال القبور: المؤمن يفتن سبعًا والكافر أربعين صباحًا.
ومن ثم كانوا يستحبون أن يطعم عن المؤمن سبعة أيام من يوم دفنه.
وهذا مما انفرد به، لا أعلم أحدًا قاله غيره.
نعم، تبعه في ذلك، وفي قوله السابق، بعض العصريين، فلم يصب والله الموفق.

وقد صح أن الرابط في سبيل الله لا يفتن، كما في حديث مسلم وغيره، كشهيد المعركة، والصابر في الطاعون الذي لا يخرج من البلد الذي يقع فيه قاصدًا بإقامته ثواب الله، راجيًا صدق موعوده، عارفًا أنه إن وقع له فهو بتقدير الله تعالى، وإن صرف عنه فبتقديره تعالى، غير متضجر به لو وقع، معتمدًا على ربه في الحالتين لحديث البخاري والنسائي، عن عائشة مرفوعًا: فليس من رجل يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما قد كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد.

وجه الدليل أن الصابر في الطاعون، المتصف بالصفات المذكورة، نظير المرابط في سبيل الله.
وقد صح أن المرابط لا يفتن، ومن مات بالطاعون فهو أولى، وهل السؤال يختص بهذه الأمة المحمدية، أم يعم الأمم قبلها؟ ظاهر الأحاديث التخصيص، وبه جزم الحكيم الترمذي، وجنح ابن القيم إلى التعميم، واحتج بأنه ليس في الأحاديث ما ينفي ذلك، وإنما أخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمته بكيفية امتحانهم في القبور، قال: والذي يظهر، أن كل نبيّ مع أمته كذلك، فتعذب كفارهم في قبورهم بعد سؤالهم، أقامة الحجة عليهم، كما يعذبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة عليهم.


وهل السؤال باللسان العربي، أم بالسرياني ظاهر قوله: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ إلى آخر الحديث، أنه بالعربي.
قال شيخنا: ويشهد له ما رويناه من طريق يزيد بن طريف، قال: مات أخي، فلما ألحد وانصرف الناس عنه، وضعت رأسي على قبره، فسمعت صوتًا ضعيفًا، أعرف أنه صوت أخي، وهو يقول: الله فقال له الآخر: ما دينك؟ قال: الإسلام.

ومن طريق العلاء بن عبد الكريم، قال: مات رجل، وكان له أخ ضعيف البصر، قال أخوه: فدفناه، فلما انصرف الناس عنه وضعت رأسي على القبر، فإذا أنا بصوت من داخل القبر، يقول: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فسمعت صوت أخي، وهو يقول: الله.
قال الآخر: فما دينك؟ قال: الإسلام، إلى غير ذلك مما يستأنس به لكونه عربيًّا.

قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل مع ذلك أن يكون خطاب كل أحد بلسانه، قال شيخنا: ويستأنس له بإرسال الرسل بلسان قومهم، وعن الإمام البلقيني أنه بالسريانية، والله أعلم.