فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما

باب مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رضي الله عنهما { فَأَقْبَرَهُ} .
أَقْبَرْتُ الرَّجُلَ: إِذَا جَعَلْتَ لَهُ قَبْرًا.
وَقَبَرْتُهُ: دَفَنْتُهُ { كِفَاتًا} يَكُونُونَ فِيهَا أَحْيَاءً، وَيُدْفَنُونَ فِيهَا أَمْوَاتًا
(باب ما جاء في) صفة (قبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) صفة قبر (أبي بكر) الصديق (و) صفة قبر (عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما)، من التسنيم، وغيره.

({ فأقبره} ) [عبس: 21] ولأبي ذر: قول الله عز وجل: { فأقبره} مبتدأ أو خبره ومراده قوله تعالى: { ثم أماته فأقبره} [عبس: 21] (أقبرت الرجل) من الثلاثي المزيد من باب الإفعال، زاد أبوا ذر، والوقت: أقبره (إذا جعلت له قبرًا، وقبرته) من الثلاثي المجرد (دفنته) تكرمة له وصيانة عن السباع.
وقوله تعالى: { ألم نجعل الأرض (كفاتًا)} [المرسلات: 25] أي: كافته اسم لما تضمه (يكونون فيها { أحياء} ويدفنون فيها { أمواتًا} [المرسلات: 26] .


[ قــ :1334 ... غــ : 1389 ]
- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ هِشَامٍ ح وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ: أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ، أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَدُفِنَ فِي بَيْتِي".

وبالسند قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس عبد الله ابن أخت الإمام مالك بن أنس، قال: (حدّثني) بالإفراد (سليمان) بن بلال (عن هشام) هو ابن عروة (ح).

(وحدّثني) بالإفراد (محمد بن حرب) النشائي، بالشين المعجمة، قال: (حدّثنا أبو مروان يحيى بن أبي زكريا) الغساني (عن هشام عن) أبيه (عروة) بن الزبير بن العوام (عن عائشة) رضي الله عنها (قالت):
(إن كان رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ليتعذر في مرضه) بالغين المهملة والذال المعجمة، أي: يطلب العذر فيما يحاوله من الانتقال إلى بيت عائشة، وعند القابسي: يتقدر، بالقاف والدال المهملة.
أي: يسأل

عن قدر ما بقي إلى يومها، ليهوّن عليه بعض ما يجد، لأن المريض يجد عند بعض أهله ما لا يجده عند بعض من الأنس والسكون.

(أين أنا اليوم؟) أي: لمن النوبة (أين أنا غدًا؟) أي: لمن النوبة غدًا، أي: أي امرأة أكون غدًا عندها (استبطاء ليوم عائشة) اشتياقًا إليها وإلى يومها.

قالت عائشة: (فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري) بفتح أولهما وسكون ثانيهما، تريد: بين جنبي وصدري، والسحر: الرئة، فأطلقت على الجنب مجازًا من باب تسمية المحل باسم الحال فيه، والنحر الصدر: (ودفن في بيتي) وهذا هو المقصود من الحديث، وقولها: فلما كان يومي قبضه الله، تعني: لو روعي الحساب كانت وفاته واقعة في نوبتي المعهودة قبل الاذن.




[ قــ :1335 ... غــ : 1390 ]
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ هِلاَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ.
لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ -أَوْ خُشِيَ- أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا".

وَعَنْ هِلاَلٍ قَالَ: كَنَّانِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يُولَدْ لِي.

وبه قال: ( حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري، قال: ( حدّثنا أبو عوانة) بفتح العين الوضاح ( عن هلال) هو: ابن حميد الجهني، زاد أبو ذر، والوقت: هو الوزان ( عن عروة) بن الزبير بن العوام ( عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، في مرضه الذي لم يقم منه) : ولابن عساكر: لم يقم فيه.

( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنببائهم مساجد) في بعض الطرق الاقتصار على لعن اليهود وحينئذ فقوله: قبور أنبيائهم مساجد واضح، فإن النصارى لا يقولون بنبوّة عيسى، بل البنوّة أو الإلهية، أو غير ذلك على اختلاف مللهم الباطلة، بل ولا يزعمون موته، حتى يكون له قبر، وعلى هذا فيشكل قوله اليهود والنصارى.
وتعقيبه بقوله: اتخذوا.

وأجيب: بأما أن يكون الضمير يعود على اليهود فقط، بدليل الرواية الأخرى، وأما بأن المراد من أمر بالإيمان بهم من الأنبياء السابقين: كنوح وإبراهيم.

قالت عائشة: ( لولا ذلك أبرز قبره) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، وقبره بالرفع نائب الفاعل، ولأبي ذر: أبرز قبره بفتح الهمزة ( غير أنه خشي) عليه الصلاة والسلام ( -أو خشي-) بضم الخاء مبنيًّا للمفعول والفاعل الصحابة، أو عائشة ( أن يتخذ) بضم أوله وفتح ثالثه: قبره ( مسجدًا) .

( و) بالإسناد المذكور ( عن هلال) الوزان ( قال كناني عروة بن الزبير و) الحال أنه ( لم يولد لي) ولد لأن الغالب أن الإنسان لا يكنى إلا باسم أول أولاده، ونبه المؤلّف بذلك على لقي هلال لعروة، واختلف في كنية هلال والمشهور أبو عمرة.


1390 م - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسَنَّمًا.

وبه قال: ( حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدّثني ( محمد بن مقاتل) المروزي، المجاور بمكة، قال ( أخبرنا عبد الله) بن المبارك، قال: ( أخبرنا أبو بكر بن عياش) بالمثناة التحتة والشين المعجمة ( عن سفيان) بن دينار على الصحيح ( التمار) بالمثناة الفوقية، من كبار التابعين، لكنه لم يعرف له رواية عن صحابي.

( أنه حدثه أنه رأى قبر النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مسنمًا) بضم الميم وتشديد النون المفتوحة.
أي: مرتفعًا: زاد أبو نعيم في مستخرجه: وقبر أبي بكر، وعمر كذلك.
واستدلّ به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والمزني وكثير من الشافعية.

وقال أكثر الشافعية، ونص عليه الشافعي: التسطيح أفضل من التسنيم، لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سطح قبر إبراهيم، وفعله حجة لا فعل غيره، وقول سفيان التمار لا حجة فيه، كما قال البيهقي: لاحتمال أن قبره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقبري صاحبيه، لم تكن في الأزمنة الماضية مسلمة.

وقد روى أبو داود بإسناد صحيح، أن القاسم بن محمد بن أبي بكر، قال: دخلت على عائشة فقلت لها: اكشفي لي عن قبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصاحبيه.
فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء، أي: لا مرتفعة كثيرًا، ولا لاصقة بالأرض.
كما بينه في آخر الحديث.
يقال لطئ بكسر الطاء، ولطأ بفتحها، أي: لصق.
ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعارًا للروافض، لأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها، ولا يخالف ذلك قول علي، رضي الله عنه: أمرني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن لا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، لأنه لم يرد تسويته بالأرض، وإنما أراد تسطيحه جمعًا بين الأخبار.
نقله في المجموع عن الأصحاب.




[ قــ :1338 ... غــ : 1391 ]
- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطُ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِي بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ.
فَفَزِعُوا وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ: لاَ وَاللَّهِ، مَا هِيَ قَدَمُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا هِيَ إِلاَّ قَدَمُ عُمَرَ -رضي الله عنه-.

وبه قال: ( حدّثنا) بالجمع، ولأبوي: ذر، والوقت، حدّثني ( فروة) بفتح الفاء وسكون الراء: ابن أبي المغراء، بفتح الميم وسكون الغين المعجمة آخره راء، يمد ويقصر، قال: ( حدّثنا علي) ولأبي ذر: علي بن مسهر، بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء ( عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير، قال:
( لما سقط عليهم) ولأبي ذر، عن الحموي والكشميهني: عنهم ( الحائط) أي: حائط حجر
عائشة، رضي الله عنها، ( في زمان) إمرة ( الوليد بن عبد الملك) بن مروان، حين أمر عمر بن عبد العزيز برفع القبر الشريف، حتى لا يصلّي إليه أحد، إذان الناس يصلون إليه ( أخذوا في بنائه فبدت) أي: ظهرت ( لهم قدم) بساق وركبة، كما رواه: أبو بكر الآجري، من طريق شعيب بن إسحاق، عن هشام: في القبر لا خارجه ( ففزعوا، وظنوا أنها قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ، وفي رواية أخرى: ففزع عمر بن عبد العزيز.
( فما وجدوا أحدًا يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما هي إلا قدم عمر، رضي الله عنه) .
وعند الآجري: هذا ساق عمر وركبته، فسري عن عمر بن عبد العزيز.

1391 م - وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا أَوْصَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهما-: لاَ تَدْفِنِّي مَعَهُمْ، وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ، لاَ أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا.
[الحديث 1391 - طرفه في: 747] .

( وعن هشام، عن) عروة بن الزبير، بالسند المذكور، وأخرجه المؤلّف في: الاعتصام وجه آخر، عن هشام، ( عن أبيه عن عائشة، رضي الله عنها) .

( أنها أوصت) ابن أختها أسماء ( عبد الله بن الزبير) رضي الله عنهما: ( لا تدفني معهم) مع: النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصاحبيه ( وادفني مع صواحبي) أمهات المؤمنين ( بالبقيع) زاد الإسماعيلي، من طريق عبدة، عن هشام: وكان في بيتها موضع قبرها.
( لا أزكى) بضم الهمزة وفتح الزاي والكاف، مبنيًّا للمفعول، أي: لا يُثنى علي ( به) أي: بسبب الدفن معهم ( أبدًا) حتى يكونا لي بذلك مزية وفضل، وأنا في نفس الأمر يحتمل أن لا أكون كذلك.

وهذا الحديث من قوله: وعن هشام إلى آخر قوله: أبدًا، ضبب عليه في اليونينية، وثبت في غيرها.




[ قــ :1339 ... غــ : 139 ]
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلاَمَ، ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَىَّ.
قَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، فَلأُوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي.
فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: مَا كَانَ شَىْءٌ أَهَمَّ إِلَىَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمَّ قُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي، وَإِلاَّ فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَمَنِ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهُوَ الْخَلِيفَةُ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا.
فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ

الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ: كَانَ لَكَ مِنَ الْقَدَمِ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ.
فَقَالَ: لَيْتَنِي يَا ابْنَ أَخِي وَذَلِكَ كَفَافًا لاَ عَلَىَّ وَلاَ لِي.
أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ خَيْرًا، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ.
وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا، الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ.
وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ".
[الحديث 139 - أطرافه في: 305، 316، 3700، 4888، 707] .

وبه قال: ( حدّثنا قتيبة) بن سعيد، قال: ( حدّثنا جرير بن عبد الحميد) بن قرط، بضم القاف وسكون الراء آخره طاء مهملة، الضبي الكوفي، نزيل الريّ قال: ( حدّثنا حصين بن عبد الرحمن) السلمي ( عن عمرو بن ميمون) بفتح العين ( الأودي) بفتح الهمزة وسكون الواو وبالدال المهملة ( قال: أرأيت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال:) لابنه، بعد أن طعنه أبو لؤلؤة العلج، بالسكين، الطعنة التي مات بها ( يا عبد الله بن عمر، اْذهب إلى أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، فقل: يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام، ثم سلها أن أدفن مع صاحبيَّ) بفتح الموحدة وتشديد الياء، مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأبي بكر، رضي الله عنه، زاد في مناقب عثمان: فسلم واستأذن ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه ( قالت: كنت أريده) أي: الدفن معهما ( لنفسي) .

فإن قلت قولها: كنت أريده لنفسي يدل على أنه لم يبق إلا ما يسع موضع قبر واحد، فهو يغاير قولها السابق لابن الزبير: لا تدفني معهم، فإنه بقي من الحجرة موضع للدفن.

أجيب: بأنها كانت أولاً تظن أنها كانت لا تسع إلا قبرًا واحدًا، فلما دفن ظهر لها أن هناك وسعًا لقبر آخر.

( فَلأُوثِرَنَّهُ) بالثاء المثلثة أي فلأختاره ( اليوم) بالنصب على الظرفية ( على نفسي) .
فإن قيل: قد ورد أن الحظوظ الدينية لا إيثار فيها، كالصف الأول ونحوه، فكيف آثرت عائشة، رضي الله عنها؟
أجاب ابن المنير: بأن الحظوظ المستحقة بالسوابق ينبغي فيها إيثار أهل الفضل، فلما علمت عائشة فضل عمر آثرته كما ينبغي لصاحب المنزل إذا كان مفضولاً أن يؤثر بفضل الإمامة من هو أفضل منه إذا حضر منزله، وإن كان الحق لصاحب المنزل.
اهـ.

( فلما أقبل) زاد في المناقب، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه ( قال له: ما لديك) أي: ما عندك من الخبر ( قال: أذنت لك) بالدفن مع صاحبيك ( يا أمير المؤمنين.
قال)
زاد في المناقب: الحمد لله ( ما كان شيء أهم إلي من ذلك المضجع) بفتح الجيم وكسرها في اليونينية ( فإذا قبضت) بضم القاف مبنيًّا للمفعول ( فاحملوني، ثم سلموا، ثم قل) يا ابن

عمر: ( يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فاْدفنوني) بهمزة وصل وكسر الفاء ( وإلا) أي: وإن لم تأذن ( فردوني إلى مقابر المسلمين) جوّز عمر أن تكون رجعت عن إذنها.

واستنبط منه أن: من وعد بعدة له الرجوع فيها، ولا يقضى عليه بالوفاء لأن عمر لو علم لزوم ذلك لها لم يستاذن ثانيًا.
وأجاب من قال بلزوم العدة بحمل ذلك من عمر على الاحتياط، والمبالغة في الورع، ليتحقق طيب نفس عائشة بما أذنت فيه، أولاً ليضاجع أكمل الخلق، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، على أكمل الوجوه اهـ.

وهذا كله بناء على القول بأن عائشة كانت تملك أصل رقبة البيت، والواقع بخلافه، لأنها إنما كانت تملك المنفعة بالسكنى والإسكان فيه، ولا يورث عنها.
وحكم أزواجه عليه الصلاة والسلام كالمعتدات، لأنهن لا يتزوجن بعده، عليه الصلاة والسلام.

ودخل الرجال على عمر، رضي الله عنه.
فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف.
فقال: ( إني لا أعلم أحدًا أحق بهذا الأمر) أمر الخلافة ( من هؤلاء النفر، الذين توفي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو عنهم راض) جملة حالية ( فمن استخلفوا) أي: من استخلفه هؤلاء النفر ( بعدي فهو الخليفة) المستحق لها ( فاسمعوا له وأطيعوا، فسمى) ستة من النفر الذين توفي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو عنهم راض: ( عثمان، وعليًا، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص) .
ولم يذكر: أبا عبيدة لأنه كان قد مات، ولا سعيد بن زيد، لأنه كان غائبًا.
وقال في فتح الباري: لأنه كان ابن عم عمر، فلم يذكره مبالغة في التبري من الأمر.
نعم، في رواية المدائني: أن عمر عده فيمن توفي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو عنهم راض إلا أنه استثناه من أهل الشورى لقرابته منه.

( وولج عليه) أي: دخل على عمر ( شاب من الأنصار) روى ابن سعد، من رواية سماك الحنفي، أن ابن عباس أثنى على عمر، وأنه قال: نحوًا مما يأتي، من مقالة الشاب، فلولا قوله هنا: إنه من الأنصار لساغ أن يفسر المبهم بابن عباس.
لكن، لا مانع من تعدد المثنين عليه، مع اتحاد جواب عمر لهم: ( فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله، كان لك من القدم في الإسلام ما قد علمت) بفتح القاف من "القَدم" أي: سابقة خير، ومنزلة رفيعة.

وسميت قدمًا لأن السبق بها، كما سميت النعمة يدًا، لأنها تعطى باليد، وللحموي والمستملي، كما في الفرع، من القدم، بكسر القاف بمعنى: المفتوح.
قال في القاموس: القدم: محركة، السابقة في الأمر، كالقدمة بالضم وكعنب.
وقال الحافظ ابن حجر: بالفتح بمعنى: الفضل، وبالكسر، بمعنى: اللسبق.
اهـ.

وقال البرماوي والعيني كالكرماني، ولو صح روايته بالكسر لكان المعنى صحيحًا أيضًا.
اهـ.
فقد صحت الرواية عن الحموي والمستملي، كما ترى وهو مفهوم قول الحافظ ابن حجر السابق.


( ثم استخلفت) بضم التاء الأولى، وكسر اللام مبنيًّا للمفعول ( فعدلت) في الرعية ( ثم) حصلت لك ( الشهادة بعد هذا كله) أي: بقتل فيروز أبي لؤلؤة غلام المغيرة له، بسبب أنه سأل عمر أن يكلم مولاه أن يضع عنه من خراجه، فقال له عمر رضي الله عنه: كم خراجك، قال: دينار، فقال: ما أرى أن أفعل، إنك عامل محسن، وما هذا بكثير فغضب، فلما خرج عمر، رضي الله عنه، لصلاة الصبح، طعنه بسكين مسمومة، ذات طرفين، فمات منها شهيدًا.
وإن لم يكن في معركة الكفار، لأنه قتل ظلمًا.
وقد ورد: من قتل دون دينه فهو شهيد.

( فقال) عمر للشاب: ( ليتني يا ابن أخي، وذلك) إشارة إلي الخلافة ( كفافًا) بالنصب، خبر كان مقدرة.
ولأبي ذر: كفاف بالرفع، خبر ذلك ( لا) عقاب ( عليّ ولا) ثواب ( لي) فيه.
والجملة: خبر ليتني، وجملة: ذلك كفاف، اعتراض بين ليت وخبرها ( أوصي) أنا ( الخليفة) بضم الهمزة من: أوصي ( من بعدي بالمهاجرين الأولين) الذين هاجروا قبل بيعة الرضوان، أو: الذين صلوا إلى القبلتين، أو: الذين شهدوا بدرًا ( خيرًا أن يعرف لهم حقهم، وأن يحفظ لهم حرمتهم) بفتح الهمزة في الموضعين، تفسير لقوله: خيرًا، أو: بيان له ( وأوصيه) أنا أيضًا ( بالأنصار خيرًا، الذين تبوأوا الدار والأيمان) صفة للأنصار، ولا يضر فصله بخيرًا لأنه ليس أجنبيًا من الكلام أي: جعلوا الإيمان مستقرًا لهم، كما جعلوا المدينة كذلك أي: لزموا المدينة والإيمان، وتمكنوا فيهما.
أو: عامله محذوف أي: وأخلصوا الإيمان ( أن يقبل من محسنهم) بفتح الهمزة وضم الياء مبنيًا للمفعول، بيان لقوله خيرًا ( ويُعفى) مبنيًا للمفعول ( عن مسيئهم) ما دون الحدود، وحقوق العباد ( وأوصيه) أيضًا ( بذمة الله) أي: بعهد الله ( وذمة رسوله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ، والمراد: أهل الكتاب ( أن يوفي لهم بعهدهم) بضم أول: يوفي، وفتح ثالثه مشددًا ومخففًا ( وأن يقاتل من ورائهم) بضم أول يقاتل وفتح التاء ومن بكسر الميم أي: من خلفهم، وقد يجيء بمعنى: قدام ( وأن لا يكلفوا) بضم أوله وفتح اللام المشددة ( فوق طاقتهم) فلا يزاد عليهم على مقدار الجزية.

وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى، في مناقب عثمان، رضي الله عنه، حيث ذكره المؤلّف هناك تامًّا.