فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب فضل صدقة الشحيح الصحيح

باب أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ وَصَدَقَةُ الشَّحِيحِ الصَّحِيحِ
لِقَوْلِهِ: { وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] الآيَةَ.

وَقَوْلِهِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ} [البقرة: 254] الآيَةَ.

هذا ( باب) بالتنوين ( أي الصدقة) من الصدقات ( أفضل) وأعظم أجرًا ( وصدقة الشحيح) صفة مشبهة من الشح وهو بخل مع حرص ( الصحيح) الذي لم يعتره مرض مخوف ينقطع عنده أمله من الحياة ( لقوله) تعالى: ( { وأنفقوا مما رزقناكم} ) من بعض أموالكم ادخارًا للآخرة ( { من قبل أن يأتي أحدكم الموت} ) [المنافقون: 10] أي يرى دلائله وفي بعض الأصول إلى خاتمتها بدل قوله الآية.
( وقوله) تعالى: ( { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} ) ما وجب عليكم إنفاقه أو الانفاق في سبيل الخير مطلقًا ( { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه} ) [البقرة: 254] أي من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تحصيل ما فرّطتم إذ لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقون أو تفتدون به من العذاب ولا خلة حتى تعينكم عليه أخلاؤكم ولا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن حتى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم في حط ما في ذممكم، فمناسبة الآية للترجمة كما نبه عليه ابن المنير من حيث إن الآية معناها التحذير من التسويف بالانفاق استبعادًا لحلول الأجل واشتغالاً بطول الأمل والترغيب في المبادرة بالصدقة قبل هجوم المنية وفوات الأمنية.
ووقع في رواية أبي ذر باب: فضل صدقة الشحيح الصحيح فأسقط الجملة الأولى المسوقة بصيغة الاستفهام المؤذن بالتردد ثم إنه في رواية أبي ذر قدم آية البقرة على آية المنافقون فقال لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} إلى { الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] وَ { أَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] .


[ قــ :1364 ... غــ : 1419 ]
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ".
[الحديث 1419 - طرفه في: 2748] .


وبالسند قال: ( حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: ( حدّثنا عبد الواحد) بن زياد قال: ( حدّثنا عمارة بن القعقاع) بضم العين وتخفيف الميم والقعقاع بقافين مفتوحتين بينهما عين ساكنة آخره عين مهملتين قال: ( حدّثنا أبو زرعة) هرم قال: ( حدّثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه.
قيل يحتمل أن يكون أبا ذر لأنه ورد في مسند أحمد أنه سأل أي الصدقة أفضل وكذا عند الطبراني، لكنه أجيب جهد من مقل أو سر إلى فقير ( إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال) : أعظم الصدقة:
( أن تصدق) بتخفيف الصاد وحذف إحدى التاءين أو بإبدال إحدى التاءين صادًا وإدغامها في الصاد وهي في موضع رفع خبر المبتدأ المحذوف ( وأنت صحيح) جملة اسمية حالية ( شحيح) حال كونك ( تخشى الفقر وتأمل الغنى) بضم الميم أي تطمع في الغنى لمجاهدة النفس حينئذ على إخراج المال مع قيام المانع وهو الشح إذ فيه دلالة على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة ( ولا تمهل) بالجزم على النهي أو بالنصب عطفًا على أن تصدق أو بالرفع وهو الذي في اليونينية ( حتى إذا بلغت) الروح أي قاربت ( الحلقوم) بضم الحاء المهملة مجرى النفس عند الغرغرة ( قلت: لفلان كذا ولفلان كذا) ، كناية عن الموصى له والموصى به فيهما ( وقد كان لفلان) أي وصار ما أوصى به للوارث فيبطله إن شاء إذا زاد على الثلث أو أوصى به لوارث آخر.
والمعنى تصدق في حال صحتك واختصاص المال بك وشح نفسك بأن تقول لا تتلف مالك لئلا تصير فقيرًا لا في حال سقمك وسياق موتك لأن المال حينئذ خرج منك وتعلق بغيرك.

وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الوصايا، ومسلم والنسائي في الزكاة.


- باب-
هذا ( باب) بالتنوين من غير ترجمة فهو كالفصل من سابقه وهو ساقط في رواية أبي ذر فالحديث عنده من الترجمة السابقة.




[ قــ :1365 ... غــ : 140 ]
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْنَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟ قَالَ: أَطْوَلُكُنَّ يَدًا.
فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا.
فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ".

وبالسند قال: ( حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: ( حدّثنا أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري ( عن فراس) بكسر الفاء وتخفيف الراء آخره سين مهملة ابن يحيى الخارفي بالخاء المعجمة والراء والفاء المكتب ( عن الشعبي) عامر بن شراحيل ( عن مسروق) هو ابن الأجدع ( عن عائشة رضي الله عنها أن بعض أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلن) الضمير للبعض الغير العين، لكن عند ابن حبان من طريق
يحيى بن حماد عن أبي عوانة بهذا الإسناد عن عائشة قالت فقلت: ( للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أينا أسرع بك لحوقًا) نصب على التمييز أي يدركك بالموت.
وأينا: بضم التحتية المشددة بغير علامة التأنيث لقول سيبويه فيما نقله عنه الزمخشري في سورة لقمان أنها مثل كل في أن لحاق التاء لها غير فصيح وجملة أينا أسرع مبتدأ وخبر ( قال) : عليه الصلاة والسلام:
( أطولكن) بالرفع خبر مبتدأ محذوف دل عليه السؤال أي أسرعكن لحوقًا بي أطولكن ( يدًا) نصب على التمييز وكان القياس أن يقول طولاكن بوزن فعلى لأن في مثله يجوز الإفراد والمطابقة لن أفعل التفضيل له ( فأخذوا قصبة يذرعونها) بالذال المعجمة أي يقدّرونها بذراع كل واحدة كي يعلمن أيهن أطول جارحة، والضمير في قوله: فأخذوا ويذرعون راجع لمعنى الجمع لا لفظ جماعة النساء وإلا لقال: فأخذن قصبة يذرعنها أو عدل إليه تعظيمًا لشأنهن كقوله: وكانت من القانتين، وكقوله:
وإن شئت حرمت النساء سواكم
( فكانت سودة) بفتح السين بنت زمعة كما زاده ابن سعد ( أطولهن يدًا) من طريق المساحة ( فعلمنا بعد) أي بعد أن تقرر كون سودة أطولهن يدًا بالساحة ( أنما) بفتح الهمزة لكونه في موضع المفعول لعلمنا ( كانت طول يدها الصدقة) اسم كان وطول يدها خبر مقدم أي علمنا أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يرد باليد العضو وبالطول طولها بل أراد العطاء وكثرته، فاليد هنا استعارة للصدقة والطول ترشيح لها لأنه ملائم للمستعار منه ( وكانت أسرعنا لحوقًا به) عليه الصلاة والسلام، ( وكانت تحب الصدقة) واستشكل هذا بما ثبت من تقدم موت زينب وتأخر سودة بعدها.
وأجاب ابن رشيد: بأن عائشة لا تعني سودة بقولها فعلمنا بعد أي بعد أن أخبرت عن سودة بالطول الحقيقي ولم تذكر سببًا للرجوع عن الحقيقة إلى المجاز إلا الموت فتعين الحمل على المجاز انتهى.

وحينئذٍ فالضمير في وكانت في الموضعين عائد على الزوجة التي عناها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: أطولكن يدًا وإن كانت لم تذكر إذ هو متعين لقيام الدليل على أنها زينب بنت جحش كما في مسلم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة بلفظ: فكانت أطولنا يدًا زينب بنت جحش لأنها كانت تعمل وتصدّق مع اتفاقهم على أنها أولهن موتًا، فتعين أن تكون هي المرادة وهذا من إضمار ما لا يصلح غيره كقوله تعالى: { حتى توارت بالحجاب} [ص: 3] وعلى هذا فلم تكن سودة مرادة قطعًا وليس الضمير عائدًا عليها، لكن يعكر على هذا ما وقع من التصريح بسودة عند المؤلّف في تاريخه الصغير عن موسى بن إسماعيل بهذا السند بلفظ: فكانت سودة أسرعنا، وقول بعضهم: إنه يجمع بين روايتي البخاري ومسلم بأن زينب لم تكن حاضرة خطابه عليه الصلاة والسلام بذلك، فالأوّلية لسودة باعتبار من حضر إذ ذاك معارض بما رواه ابن حبان من رواية يحيى بن حماد أن نساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اجتمعن عنده فلم يغادر منهن واحدة.
وأجاب الحافظ ابن حجر بأنه يمكن أن يكون تفسيره بسودة من أبي عوانة لكون غيرها لم يتقدم له ذكر لأن ابن عيينة عن فراس قد خالفه في ذلك.


وروى يونس بن بكير في زيادة المغازي والبيهقي في الدلائل بإسناده عنه عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي التصريح بأن ذلك لزينب، لكن قصر زكريا في إسناده فلم يذكر مسروقًا ولا عائشة ولفظه: فلما توفيت زينب علمن أنها كانت أطولهن يدًا في الخير والصدقة ويؤيده ما رواه الحاكم في المناقب من مستدركه ولفظه قالت عائشة فكنا إذا اجتمعنا في بيت احدانا بعد وفاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نمد أيدينا في الجدار نتطاول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطوّلنا فعرفنا حينئذٍ أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما أراد بطول اليد الصدقة، وكانت زينب امرأة صناعة باليد تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله.
قال الحاكم على شرط مسلم وهي رواية مفسرة مبينة مرجحة لرواية عائشة بنت طلحة في أمر زينب.

وروى ابن أبي خيثمة من طريق القاسم بن معن قال: كانت زينب أول نساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لحوقًا به فهذه روايات يعضد بعضها بعضًا ويحصل من مجموعها أن في رواية أبي عوانة وهمًا.