فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب حرم المدينة

باب حَرَمِ الْمَدِينَةِ
( باب) بيان فضل ( حرم المدينة) النبوية التي اختارها الله تعالى لخيرته وصفوته من خلقه وجعلها دار هجرته وتربته، ولأبي ذر عن الحموي: بسم الله الرحمن الرحيم فضل المدينة، وفي رواية عنه أيضًا فضائل المدينة بالجمع باب حرم المدينة، وفي رواية أبي علي الشبويّ مما ذكره في الفتح باب ما جاء في حرم المدينة.


[ قــ :1781 ... غــ : 1867 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ.
مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
[الحديث 1867 - طرفه في: 7306] .

وبالسند قال: ( حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: ( حدّثنا ثابت بن يزيد) بالمثلثة ويزيد من الزيادة الأحول البصري قال: ( حدّثنا عاصم أبو عبد الرحمن) بن سليمان ( الأحول عن أنس) هو ابن مالك ( -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( المدينة حرم) محرمة لا تنتهك حرمتها ( من كذا إلى كذا) بفتح الكاف والذال معجمة كناية عن اسمي مكانين.

وفي حديث علي الآتي إن شاء الله تعالى في هذا الباب ما بين عائر إلى كذا وهو جبل المدينة، واتفقت الروايات التي في البخاري كلها على إبهام الثاني.

وفي حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني ما بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أحد؟ وفي مسلم إلى ثور، لكن قال أبو عبيد: أهل المدينة لا يعرفون جبلاً عندهم يقال له ثور وإنما ثور بمكة، وقيل إن
البخاري إنما أبهمه عمدًا لما وقع عنده أنه وهم، لكن قال صاحب القاموس: ثور جبل بمكة وجبل بالمدينة، ومنه الحديث الصحيح "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" وأما قول أبي عبيد بن سلام وغيره من أكابر الأعلام: أن هذا تصحيف والصواب إلى أحد لأن ثورًا إنما هو بمكة فغير جيد لما أخبرني الشجاع اليعلي الشيخ الزاهد عن الحافظ أبي محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد جانحًا إلى ورائه جبلاً صغيرًا يقال له ثور، وتكرر سؤالي عنه طوائف من العرب العارفين بتلك الأرض فكل أخبر أن اسمه ثور، ولما كتب إليّ الشيخ عفيف الدين المطري عن والده الحافظ الثقة قال: إن خلف أحد عن شماله جبلاً صغيرًا مدورًا يسمى ثورًا يعرفه أهل المدينة خلفًا عن سلف ونحو ذلك قاله صاحب تحقيق النصرة.

( لا يقطع شجرها) بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول، وفي رواية يزيد بن هارون لا يختلى خلاها، وفي مسلم من حديث جابر لا يقطع عضاها ولا يصاد صيدها، وفي رواية أبي داود بإسناد صحيح لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ففي ذلك أنه يحرم صيد المدينة وشجرها كما في حرم مكة، لكن لا ضمان في ذلك لأن حرم المدينة ليس محلاً للنسك بخلاف حرم مكة.
وقال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف: ليس للمدينة حرم كما لمكة فلا يمنع أحد من أخذ صيدها وقطع شجرها.
وأجابوا عن هذا الحديث بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما أراد بقوله ذلك بقاء زينة المدينة ليستطيبوها ويألفوها.

( ولا يحدث فيها حدث) مبني للمفعول كسابقه أي لا يعمل فيها عمل مخالف للكتاب والسنة ( من أحدث) أي فيها ( حدثًا) مخالفًا لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وزاد شعبة فيه عن عاصم عند أبي عوانة أو آوى محدثًا.
قال الحافظ ابن حجر: وهي زيادة صحيحة إلا أن عاصمًا لم يسمعها من أنس، ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وعيد شديد لكن المراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه لا كلعن الكافر المبعد عن رحمة الله كل الإبعاد.

وهذا الحديث من الرباعيات، وأخرجه المؤلّف أيضًا في الاعتصام ومسلم في المناسك.




[ قــ :178 ... غــ : 1868 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-: "قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي.
فَقَالُوا: لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ.
فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ".

وبه قال: ( حدّثنا أبو معمر) بفتح الميمين وبينهما مهملة ساكنة عبد الله بن عمرو بن الحجاج المنقري المقعد قال: ( حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد العنبري البصري ( عن أبي التياح) بفتح المثناة الفوقية والتحتية المشددتين آخره مهملة يزيد بن حميد الضبعي ( عن أنس) هو ابن مالك ( -رضي الله عنه-) أنه ( قال) : ( قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة) يوم الجمعة لاثنتي عشرة من ربيع الأول في قول ابن الكلبي، وفي مسلم كالبخاري في الصلاة أنه قام في قباء قبل أن يدخل المدينة أربع عشرة ليلة

وأسس مسجد قباء ثم رحل إلى المدينة ( وأمر) ولأبوي ذر والوقت: فأمر ( ببناء المسجد) بها ( فقال) :
( يا بني النجار) وهم أخواله عليه الصلاة والسلام ( ثأمنوني) بالمثلثة وكسر الميم أي بايعوني بالثمن وفي الصلاة ثامنوني بحائطكم أي ببستانكم وحذف ذلك هنا والمخاطب بهذا من يستحق الحائط وكان فيما قيل لسهل وسهيل يتيمين في حجر أسعد بن زرارة ( فقالوا) : اليتيمان ووليهما ولأبي الوقت قالوا: ( لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) أي منه تعالى زاد أهل السير فأبى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطي ذلك، وزاد في الصلاة أنه كان في الحائط قبور المشركين وخرب "فأمر" -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "بقبور المشركين فنبشت" وبالعظام فغيبت "ثم بالخرب" بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء خربة كذا في اليونينية وفي الفرع بفتح الخاء وكسر الراء "فسويت وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد" أي في جهتها وإنما قطع عليه الصلاة والسلام الشجر لأنه كان في أول الهجرة، وحديث التحريم إنما كان بعد رجوعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من خيبر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الجهاد والمغازي أو أن النهي عنه مقصور على القطع الذي يحصل به الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح فلا أو النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله من الشجر مما لا صنع للآدمي فيه كما حمل عليه النهي عن قطع شجر مكة، وعلى هذا يحمل قطعه عليه الصلاة والسلام وجعله قبلة المسجد ففيه تخصيص النهي عن قطع الشجر بما لا ينبته الآدميون، كما أن الحديث السابق التصريح بكون المدينة حرمًا، وهذا الحديث مضى في الصلاة ويأتي بتمامه إن شاء الله تعالى في المغازي.




[ قــ :1783 ... غــ : 1869 ]
- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ "حُرِّمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَىِ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي.
قَالَ: وَأَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَنِي حَارِثَةَ فَقَالَ: أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الْحَرَمِ.
ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ".
[الحديث 1869 - طرفه في: 1873] .

وبه قال: ( حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) الأويسي ( قال: حدثني) بالإفراد ( أخي) عبد الحميد بن عبد الله ( عن سليمان) بن بلال ( عن عبيد الله) بضم العين مصغرًا العمري ولأبي ذر زيادة ابن عمر ( عن سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( حرم) بضم الحاء وكسر الراء أي حرم الله ولأبي ذر عن المستملي حرم بفتحتين مرفوع خبر مقدم والمبتدأ ( ما بين لابتي المدينة على لساني) بتخفيف الموحدة تثنية لابة وهي الحرة الأرض ذات الحجارة السود والمدينة ما بين حرتين عظيمتين: إحداهما شرقية والأخرى غربية، ووقع عند أحمد من حديث جابر "وأنا أحرم ما بين حرتيها".
وزعم بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية "ما بين جبليها" وفي رواية "ما بين لابتيها".

وأجيب: بأن الجمع واضح وبمثل هذا لا تردّ الأحاديث الصحيحة، ولو تعذر الجمع أمكن الترجيح ولا ريب أن رواية لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها ورواة جبليها لا تنافيها فيكون عند كل

لابة جبل أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة المشرق والمغرب، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر.
وزاد مسلم في بعض طرقه وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى، وعند أبي داود من حديث عدي بن زيد قال: حمى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كل ناحية من المدينة بريدًا بريدًا، وفي هذا بيان ما أجمل من حدم حرم المدينة.

( قال) : أي أبو هريرة ( وأتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بني حارثة) بالمهملة والمثلثة بطن من الأوس وكانوا إذ ذاك غربي مشهد حمزة زاد الإسماعيلي وهي في سند الحرة أي في الجانب المرتفع منها ( فقال) : عليه الصلاة والسلام، ولأبي الوقت: وقال:
( أراكم) بفتح الهمزة في الفرع وغيره ( يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم) جزم بما غلب على ظنه ( ثم التفت) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرآهم داخلين في المحرم ( فقال: بل أنتم فيه) فرجع عن الظن إلى اليقين واستنبط منه المهلب أن للعالم أن يعول على غلبة الظن ثم ينظر فيصحح النظر.




[ قــ :1784 ... غــ : 1870 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "مَا عِنْدَنَا شَىْءٌ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ.
.

     وَقَالَ : ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ.
وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ".
قال أبو عبدِ اللهِ: عَدْلٌ فِداءٌ.

وبه قال: ( حدّثنا محمد بن بشار) بفتح الموحدة وتشديد المعجمة الملقب ببندار قال: ( حدّثنا عبد الرحمن) بن مهدي العنبري قال: ( حدّثنا سفيان) الثوري ( عن الأعمش) سليمان بن مهران ( عن إبراهيم) بن يزيد بن شريك ( التيمي عن أبيه) يزيد ( عن علي -رضي الله عنه-) أنه ( قال: ما عندنا شيء) أي مكتوب من أحكام الشريعة أو المنفي شيء اختصوا به عن الناس ( إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسبب قول علي -رضي الله عنه- هذا يظهر بما رويناه في مسند أحمد من طريق قتادة عن أبي حسان الأعرج أن عليًّا كان يأمر بالأمر فيقال له قد فعلناه فيقول صدق الله ورسوله فقال له الأشتر: هذا الذي تقول شيء عهده إليك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قال: ما عهد إلي شيئًا خاصًا دون الناس إلا شيئًا سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة فإذا فيها.

( المدينة حرم) محرمة ( ما بين عائر) بالعين المهملة والألف مهموز آخره راء جبل بالمدينة ( إلى كذا) في مسلم إلى ثور وتقدم ما فيه قريبًا ( من أحدث فيها حدثًا) مخالفًا للكتاب والسنة ( أو آوى
محدثًا)
بمد همزة آوى على الأفصح في المتعدي وعكسه في اللازم وكسر دال محدثًا أي من نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه ويجوز فتح الدال ومعناه الأمر المبتدع نفسه وإذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكرها عليه فقد آواه ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه) بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول ( صرف ولا عدل) .
قال في القاموس: الصرف في الحديث التوبة والعدل الفدية أو هو النافلة والعدل الفريضة أو بالعكس أو هو الوزن والعدل الكيل أو هو الاكتساب والعدل الفدية أو الحيلة ومنه: { فما يستطيعون صرفًا ولا نصرًا} [الفرقان: 19] معناه فما يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم العذاب اهـ.

وقال البيضاوي: الصرف الشفاعة والعدل الفدية.
وقال عياض: معناه لا يقبل منه قبول رضا وإن قبل منه قبول جزاء، وقد يكون معنى الفدية لا يجد في القيامة فداء يفتدى به بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله عز وجل على من يشاء منهم بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما في الصحيح.

( وقال: ذمة المسلمين واحدة) أي أمانهم صحيح سواء صدر من واحد أو أكثر شريف أو وضيع، فإذا أمن الكافر واحد منهم بشروطه المعروفة في كتب الفقه لم يكن لأحد نقضه ( فمن أخفر مسلمًا) بهمزة مفتوحة فمعجمة ساكنة ففاء ثم راء أي نقض عهد السلم أو ذمامه ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن تولى قومًا) أي اتخذهم أولياء ( بغير إذن مواليه) ليس بشرط لتقييد الحكم بعدم الإذن وقصره عليه، وإنما هو إيراد الكلام على ما هو الغالب أو المراد موالاة الحلف فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن، وبالجملة فإن أريد ولاء الحلف فهو سائغ وإن أريد ولاء العتق فلا مفهوم له وإنما هو للتنبيه على المانع وهو إبطال حق الموالي ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) .

قال النووي: وفي هذا الحديث إبطال ما يزعمه الشيعة ويفترونه من قوله أن عليًا -رضي الله عنه- أوصي إليه بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين، وأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم فهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة وفيه دليل على جواز كتابة العلم.

( قال أبو عبد الله) البخاري: ( عدل) أي ( فداء) وهذا تفسير الأصمعي، وسقط قوله قال أبو عبد الله الخ في غير رواية أبي ذر عن المستملي.

وفي هذا الحديث التحديث والعنعنة وثلاثة من التابعين في نسق واحد ورواته كلهم كوفيون إلا شيخه وشيخ شيخه فبصريان.