فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من رغب عن المدينة

باب مَنْ رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ
( باب من رغب عن المدينة) فهو مذموم.


[ قــ :1788 ... غــ : 1874 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «تترُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لاَ يَغْشَاهَا إِلاَّ الْعَوَافِ -يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ- وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا».


وبالسند قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة الحمصي ( عن) ابن شهاب ( الزهري قال: أخبرني) بالإفراد ( سعيد بن المسيب) ولأبي الوقت عن سعيد بن السيب ( أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) :
( يتركون المدينة) بالمثناة التحتية في يتركون في فرع اليونينية وبالفوقية على الخطاب في غيره.

قال الحافظ ابن حجر: الأكثر على الخطاب والمراد بذلك غير المخاطبين لكنهم من أهل البلد أو من نسل المخاطبين أو من نوعهم.
قال: وروي بياء الغيبة ورجحه القرطبي قال في المصابيح: وفي كلام القرطبي إشعار ما بأن رواية البخاري ليست بتاء الخطاب اهـ.

وقد ثبت بتاء الخطاب فلا عبرة بما يشعره كلام القرطبي.

( على خير ما كانت) من العمارة وكثرة الأثمار وحسنها وفي أخبار المدينة لعمر بن شبة أن ابن عمر أنكر على أبي هريرة قوله خير ما كانت وقال: إنما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعمر ما كانت وأن أبا هريرة صدقه على ذلك ( لا يغشاها) بالغين المعجمة لا يسكنها ( إلا العواف) بفتح العين المهملة والواو وآخره فاء من غير ياء جمع عافية التي تطلب أقواتها، ولأبي ذر الأعوافي بحذف أل وبالمثناة التحتية بعد الفاء ( يريد عوافي السباع والطير) بنصب ياء عوافي.

قال القاضي عياض: هذا جرى في العصر الأول وانقضى، وقد تركت المدينة على ما أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة منها إلى الشأم وذلك خير ما كانت للدين لكثرة العلماء بها وللدنيا لعمارتها واتساع حال أهلها.

وذكر الإخباريون في بعض الفتن التي جرت في المدينة أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت أكثر ثمارها للعوافي وخلت مدّة ثم تراجع الناس إليها.

وقال النووي: المختار أن هذا الترك يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قصة الراعيين فقد وقع عند مسلم ثم يحشر راعيان، وفي البخاري أنهما آخر من يحشر، وقال أبو عبد الله الأبي: وهذا لمن يقع ولو وقع لتواتر بل الظاهر أنه لم يقع بعد، ودليل المعجزة يوجب القطع بوقوعه في المستقبل إن صح الحديث وأن الظاهر أنه بين يدي نفخة الصعق كما يدل عليه موت الراعيين اهـ.

ومراده بالراعيين المذكوران في قوله ( وآخر من يحشر) بضم أوله وفتح ثالثه أي آخر من يموت فيحشر لأن الحشر بعد الموت، ويحتمل أن يتأخر حشرهما لتأخر موتهما ويحتمل آخر من يحشر إلى المدينة أي يساق إليها كما في لفظ رواية مسلم ( راعيان من مزينة) بضم الميم وفتح الزاي المعجمة قبيلة من مضر ( يريدان المدينة ينعقان) بكسر العين المهملة وبعدها قاف ماضي نعق بفتحها أي يصيحان ( بغنمهما) ليسوقاها وذلك عند قرب الساعة وصعقة الموت ( فيجدانها) أي يجدان المدينة ( وحوشًا) بالجمع أي ذات وحوش لخلوّها من سكانها ولغير الأربعة وحشًا بالإِفراد أي خالية ليس بها

أحد والوحش من الأرض الخلاء وقد يكون وحشًا بمعنى وحوش، وأصل الوحش كل شيء توحش من الحيوان وجمعه وحوش وقد يعبر بواحده عن جمعه، وحينئذٍ فالضمير للمدينة.
وعن ابن المرابط: أنه للغنم أي انقلبت الغنم وحوشًا والقدرة صالحة أو المعنى أن الغنم صارت متوحشة تنفر من أصوات الرعاة وأنكره القاضي وصوّب النووي الأول.

( حتى إذا بلغا) أي الراعيان ( ثنية الوداع) التي كان يشيع إليها ويودّع عندها وهي من جهة الشأم ( خرًا) بفتح المعجمة وتشديد الراء أي سقطا ( على وجوههما) ميتين ثم إن قوله: وآخر من يحشر الخ يحتمل أن يكون حديثًا آخر غير الأوّل لا تعلق له به وأن يكون من بقيته وعليهما يترتب الاختلاف السابق عن عياض والنووي والله أعلم.

وقد أخرج الحديث مسلم.




[ قــ :1789 ... غــ : 1875 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: ( أخبرنا مالك) الإمام ( عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير ( عن) أخيه ( عبد الله بن الزبير) بن العوام ( عن سفيان بن أبي زهير) بضم الزاي وفتح الهاء مصغرًا الأزدي من أزد شنوأة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة النمري ويلقب بابن القرد بفتح القاف وكسر الراء وبعدها دال مهملة صحابي يعدّ في أهل المدينة ( -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) :
( تفتح اليمن) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الفوقية مبنيًا للمفعول واليمن رفع نائب فاعل وسمي اليمن لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان ( فيأتي قوم) من الذين حضروا فتحها وأعجبهم حسنها ورخاؤها ( يبسون) بفتح المثناة التحتية وكسر الموحدة وتشديد المهملة ثلاثيًا.
وعن ابن القاسم بضم الموحدة فهو من باب ضرب يضرب، ومن باب نصر ينصر وبضم التحتية مع كسر الموحدة أيضًا من الثلاثي المزيد أي يسوقون دوابهم إلى المدينة سوقًا لينًا ( فيتحملون) ، منها أي المدينة ( بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى اليمن ( والمدينة خير لهم) منها لأنها حرم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجواره مهبط الوحي ومنول البركات ( لو كانوا يعلمون) بما فيها من الفضانل كالصلاة في مسجدها وثواب الإقامة فيها وغير ذلك من الفوائد الدنيوية والأخروية التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها ما ارتحلوا منها.


وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وظاهره أن الذين يتحملون غير الذين يبسون فكأن الذي حضر الفتح أعجبه حُسن اليمن ورخاؤه فدعا قريبه إلى المجيء إليه، فيحتمل المدعوّ بأهله وأتباعه، لكن صوّب النووي أن في حديث الباب الإخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله بأسًا في سيره مسرعًا إلى الرخاء والأمصار المفتتحة.

وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة في هذا الحديث ما يؤيده ولفظه: تفتح الشام فيخرج الناس إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.

ويوضح ذلك حديث جابر عند البزار مرفوعًا: ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء ثم يتحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.

وقال المنذري: رجاله رجال الصحيح، والأرياف جمع ريف بكسر الراء وهو ما قارب المياه في أرض العرب، وقيل: هو الأرض التي فيها الزرع والخصب، وقيل غير ذلك.

( وتفتح الشام) بضم أوّله مبنيًّا لما لم يسم فاعله وسمي بالشام لأنه عن شمال الكعبة ( فيأتي قوم يبسون) بفتح أوله وضمه وكسر الموحدة وضمها ( فيتحملون) من المدينة ( بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى الشام ( والمدينة خير لهم) منها لما ذكر ( لو كانوا يعلمون) بفضلها فالجواب محذوف كما في السابق واللاحق دلّ عليه ما قبله، وإن كانت "لو" بمعنى "ليت" فلا جواب لها وعلى كلا التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرًا عظيمًا، ( وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم) من المدينة ( ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى العراق ( والمدينة خير لهم) من العراق ( لو كانوا يعلمون) .
والواو في قوله والمدينة في الثلاثة للحال وهذا من أعلام نبوّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث أخبر عليه الصلاة والسلام بفتح هذه الأقاليم، وأن الناس يتحملون بأهاليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله عليه الصلاة والسلام على الترتيب المذكور في الحديث، لكن في حديث عند مسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم العراق، والظاهر أن اليمن فتح قبل فتح الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في حياته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فتكون رواية تقديم الشام على اليمن معناها استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام وأما قول المظهري إنه عليه الصلاة والسلام أخبر في أوّل الهجرة إلى المدينة بأنه سيفتح اليمن فيأتي قوم من اليمن إلى المدينة حتى يكثر أهل المدينة خير لهم من غيرها، فتعقبه الطيبي بأن تنكير قوم ووصفه بيبسون ثم توكيده بقوله: لو كانوا يعلمون لا يساعد ما قاله لأن تنكير قوم لتحقيرهم وتوهين أمرهم ثم الوصف بيبسون وهو سوق الدواب يشعر بركاكة عقولهم وأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية وحطام الدنيا الفانية العاجلة وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول عليه الصلاة والسلام ولذلك كرر قومًا وصفه في كل قرينة بيبسون استحقارًا لتلك الهيئة القبيحة.
قال:

والذي يقتضيه هذا المقام أن ينزل يعلمون منزلة اللازم لينتفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية، ولو ذهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظًا وتشديدًا.

ومطابقة الحديث للترجمة من حيث أن هؤلاء القوم المذكورين تفرقوا في البلاد بعد الفتوحات ورغبوا عن الإقامة في المدينة، ولو صبروا على الإقامة فيها لكان خيرًا لهم، أما من خرج لحاجة كجهاد أو تجارة فليس داخلاً في معنى الحديث.

ورواة هذا الحديث كلهم مدنيون إلا شيخه، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة والسماع والقول، ورواية تابعي عن تابعي لأن هشامًا لقي بعض الصحابة وصحابي عن صحابي، وأخرجه مسلم في الحج وكذا النسائي.