فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ما ذكر في ذهاب موسى صلى الله عليه وسلم في البحر إلى الخضر

باب مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)
(باب ما ذكر في ذهاب موسى) بن عمران زاد الأصيلي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) المتوفى وعمره مائة وستون سنة فيما قاله الفربري في التيه فى سابع آذار لمضي ألف سنة وستمائة وعشرين سنة من الطوفان (في البحر إلى الخضر) عليهما السلام بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، وقد تسكن الضاد مع كسر الخاء وفتحهما، وكنيته أبو العباس.
واختلف في اسمه كأبيه وهل هو نبي أو رسول أو ملك؟ وهل هو حيّ أو ميت؟ فقال ابن قتيبة: اسمه بليا بفتح الموحدة وسكون اللام وبمثناة تحتية ابن ملكان بفتح الميم وسكون اللام، وقيل: إنه ابن فرعون صاحب موسى وهو غريب جدًّا، وقيل: ابن مالك وهو أخو إلياس، وقيل ابن آدم لصلبه رواه ابن عساكر بإسناده إلى الدارقطني.
والصحيح أنه نبي معمر محجوب عن الأبصار وأنه باقٍ إلى يوم القيامة لشربه من ماء الحياة وعليه الجماهير واتفاق الصوفية وإجماع كثير من الصالحين، وأنكر جماعة حياته منهم: المؤلف وابن المبارك والحربي وابن الجوزي، ويأتي ما في ذلك من المباحث إن شاء الله تعالى، وظاهر التبويب أن موسى عليه الصلاة والسلام ركب البحر لما توجه في طلب الخضر واستشكل فإن الثابت عند المصنف وغيره أنه إنما ذهب في البر وركب البحر في السفينة مع الخضر بعد اجتماعهما.
وأجيب: بأن مقصود الذهاب إنما حصل بتمام القصة، ومن تمامها أنه ركب مع الخضر البحر فأطلق على جميعها ذهابًا مجازًا من إطلاق اسم الكل على البعض، أو من قبيل تسمية السبب باسم ما تسبب عنه.
وعند عبد بن حميد عن أبي العالية أن موسى التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر، ولا ريب أن التوصل إلى جزيرة البحر لا يقع إلا بسلوك البحر غالبًا، وعنده من طريق الربيع بن أنس قال: انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار طاقة مفتوحة فدخلها موسى على إثر الحوت حتى انتهى إلى الخضر، فهذا يوضح أنه ركب البحر إليه، وهذان الأثران الموقوفان رجالهما ثقات.

(و) باب (قوله تعالى {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَن}) أي على شرط أن تعلمني وهو في موضع الحال من الكاف (الآية) بالنصب بتقدير، فذكر على المفعولية وزاد الأصيلي في روايته باقي الآية وهو

قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] أي علمًا ذا رشد وهو إصابة الخير، وقرأ يعقوب وأبو عمرو والحسن واليزيدي بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون الشين، وهما لغتان كالبخل والبخل وهو مفعول تعلمني ومفعول علمت العائد محذوف، وكلاهما منقول من علم الذي له مفعول واحد، ويجوز أن يكون علة لأتبعك أو مصدرًا بإضمار فعله، ولا ينافي نبوّته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطًا في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقًا، وكأنه راعى في ذلك غاية الأدب والتواضع فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعًا له وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه قاله البيضاوي.


[ قــ :74 ... غــ : 74 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ.
فَمَرَّ بِهِمَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ: «بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إذ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لاَ.
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ.
فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ.
وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ.
فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ.
قَالَ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ».
[الحديث 74 - أطرافه في: 78، 122، 2267، 2728، 3278، 3400، 3401، 4725، 4726، 4727، 6672، 7478] .

وبالسند إلى المؤلف قال (حدّثني) بالإفراد وللأصيلي وابن عساكر حدّثنا (محمد بن غرير) بغين معجمة مضمومة وراء مكررة الأولى منهما مفتوحة بينهما مثناة تحتية ساكنة ابن الوليد القرشي (الزهري) المدني نزيل سمرقند (قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم) بن سعد القرشي المدني الزهري سكن بغداد وتوفي بها في شوّال سنة ثمان ومائتين (قال: حدّثني) بالإفراد، وللأصيلي وابن عساكر حدّثنا (أبي) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن صالح) أي ابن كيسان بفتح الكاف المدني التابعي، المتوفى وهو ابن مائة سنة ونيف وستين سنة (عن ابن شهاب) الزهري أنه (حدث) وفي رواية الحموي والمستملي حدّثه (أن عبيد الله) بالتصغير (ابن عبد الله) بالتكبير ابن عتبة أحد الفقهاء السبعة (أخبره عن ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما.


(أنه تمارى) أي تجادل وتنازع (هو) أي ابن عباس (والحرّ) بضم الحاء المهملة وتشديد الراء (ابن قيس) بفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره مهملة (ابن حصن) بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين الصحابي (الفزاري) بفتح الفاء والزاي ثم الراء نسبة إلى فزارة بن شيبان (في صاحب موسى) عليه الصلاة والسلام هل هو خضر أم غيره (فقال ابن عباس) رضي الله عنهما: (هو خضر) بفتح أوّله وكسر ثانيه أو بكسر أوّله وإسكان ثانيه، ولم يذكر مقالة الحرّ بن قيس، قال الحافظ ابن حجر: ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق هذا الحديث.
(فمرّ بهما) أي بابن عباس والحرّ بن قيس (أُبيّ بن كعب) هو ابن المنذر الأنصاري المتوفى سنة تسع عشرة أو عشرين أو ثلاثين (فدعاه) أي ناداه (ابن عباس) رضي الله عنهما وفسره السفاقسي فيما نقله عنه الزركشي وغيره بقيامه إليه أي ثم سأله، وعلّل بأن ابن عباس كان آدب من أن يدعو أُبيًَّا مع جلالته انتهى.
وليس في دعائه أن يجلس عندهم لفصل الخصومة ما يخل بالأدب، وقد روي فأمر بهما أُبيّ بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: يا أبا الطفيل هلمّ إلينا فهو صريح في المراد (فقال: إني تماريت) أي اختلفت (أنا وصاحبي هذا) الحرّ بن قيس (في صاحب موسى الذي سأل موسى) وللأصيلي زيادة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (السبيل إلى لقيه) بلام مضمومة فقاف مكسورة فمثناة تحتية مشدّدة (هل سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يذكر شأنه قال) أُبيّ (نعم سمعت رسول الله) وفي رواية ابن عساكر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد في رواية (يذكر شأنه) حال كونه (يقول بينما) بالميم (موسى) عليه الصلاة والسلام (في ملأ) بالقصر أي في جماعة أو أشراف (من بني إسرائيل) وهم أولاد يعقوب عليه السلام، وكان أولاده اثني عشر وهم الأسباط وجميع بني إسرائيل منهم (جاءه رجل) جواب بينما والفصيح في جوابه كما تقرر ترك إذ وإذا نعم ثبتت إذ في رواية أبي ذر كما في فرع اليونينية كهي.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على تسمية الرجل (فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك) بنصب أعلم صفة لأحدًا؟ (قال) وفي رواية الأصيلي فقال (موسى لا) أعلم أحدًا أعلم مني، وفي التفسير فسئل أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله عليه أي تنبيهًا له وتعليمًا لمن بعده، ولئلا يقتدي به غيره في تزكية نفسه فيهلك، ولا ريب أن في هذه القصة أبلغ ردّ على من في هذا العصر حيث فاه بقوله: أنا أعلم خلق الله، وإنما ألجئ موسى للخضر للتأديب لا للتعليم فافهم.
(فأوحى الله) زاد الأصيلي: عز وجل (إلى موسى بلى) بفتح اللام وألف كعلى (عبدنا خضر) أعلم منك بما أعلمته من الغيوب وحوادث القدرة مما لا تعلم الأنبياء منه إلا ما أعلموا به كما قال سيدهم وصفوتهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم في هذا المقام: "إني لا أعلم إلا ما علمني ربي" وإلاّ فلا ريب أن موسى عليه الصلاة والسلام أعلم بوظائف النبوّة وأمور الشريعة وسياسة الأمة.
وفي رواية الكشميهني بل بإسكان اللام والتقدير، فأوحى الله إليه لا تطلق النفي بل قل خضر، لكن استشكل على هذه الرواية قوله عبدنا إذ إن المقام يقتضي أن يقول عبد الله أو عبدك، وأجيب: بأنه ورد على سبيل الحكاية عن الله تعالى، وأضافه تعالى إليه للتعظيم، (فسأل موسى) عليه الصلاة والسلام (السبيل إليه) أي إلى الخضر فقال: اللهمّ ادللني عليه (فجعل الله له) أي لأجله (الحوت آية) أي علامة لمكان الخضر ولقيه (وقيل له) يا موسى (إذا فقدت الحوت) بفتح القاف
(فارجع فإنك ستلقاه) وذلك أنه لما سأل موسى السبيل إليه.
قال الله تعالى: اطلبه على الساحل عند الصخرة.
قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتًا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك، فقيل أخذ سمكة مملوحة وقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني (وكان) وللأصيلى وأبي الوقت وابن عساكر فكان (يتبع) بتشديد المثناة الفوقية (أثر الحوت في البحر، فقال لموسى فتاه) يوشع بن نون فإنه كان يخدمه ويتبعه ولذلك سماه فتاه (أرأيت) ما دهاني (إذ) أي حين (أوينا إلى الصخرة) يعني الصخرة التي رقد عندها موسى عليه الصلاة والسلام، أو الصخرة التي دون نهر الزيت، وذلك أن موسى لما رقد اضطرب الحوت المشوي ووقع في البحر معجزة لموسى أو الخضر عليهما السلام.
وقيل: إن يوشع، حمل الخبز والحوت في المكتل ونزلا ليلاً على شاطئ عين تسمى عين الحياة، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت، وقيل: توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء.
{فإني نسيت الحوت} فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} قال البيضاوي: وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن أن أذكره بدل من الضمير وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه، والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما ضري بمشاهدة أمثالها عند موسى وألفها قلَّ اهتمامه بها، ولعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى الشيطان هضمًا لنفسه.
(قال) موسى (ذلك) أي فقدان الحوت (ما كنا نبغي) أي الذي نطلبه علامة على وجدان المقصود {فارتدّا على آثارهما} فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه يقصّان (قصصًا) أي يتبعان آثارهما اتباعًا أو مقتصّين حتى أتيا الصخرة (فوجدا خضرًا) عليه الصلاة والسلام (فكان من شأنهما) أي الخضر وموسى (الذي قصّ الله عز وجل في كتابه) من قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُك} [الكهف: 66] إلى آخر ذلك والله أعلم.