فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب

باب لِيُبَلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
هذا (باب) بالتنوين (ليبلغ العلم) بالنصب (الشاهد) بالرفع (الغائب) بالنصب أي ليبلغ الحاضر الغائب العلم فالشاهد فاعل والغائب مفعول أول له وإن تأخر في الذكر والعلم مفعول ثانٍ واللام في ليبلغ لام الأمر، وفي الغين الكسر على الأصل في حركة التقاء الساكنين والفتح لخفته (قاله) أي رواه (ابن عباس) رضي الله عنهما فيما وصله المؤلف في كتاب الحج في باب الخطبة أيام منى (عن

النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لكن بحذف العلم ولفظه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب الناس يوم النحر فقال: أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، وفي آخره: اللهمّ هل بلغت.
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده إنها لوصية إلى أمته فليبلغ الشاهد الغائب، والظاهر أن المصنف ذكره بالمعنى لأن المأمور بتبليغه هو العلم أشار لمعناه في الفتح.


[ قــ :103 ... غــ : 104 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ -وَهْوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ- ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَاىَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ.
وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ».
فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، أنَّ مَكَّةَ لاَ تُعِيذُ عَاصِيًا، وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ، وَلاَ فَارًّا بِخَرْبَةٍ.
[الحديث 104 - طرفاه في: 1832، 4295] .

وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: حدّثني) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر حدّثنا (الليث) بن سعد المصري (قال: حدّثني) بالإفراد (سعيد) بكسر العين المقبري وللأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت سعيد بن أبي سعيد ولغيرهم هو ابن أبي سعيد (عن أبي شريح) بضم المعجمة وفتح الراء آخره حاء مهملة خويلد بن عمرو بن صخر الخزاعي الكعبي الصحابي، المتوفى سنة ثمان وستين رضي الله عنه وله في البخاري ثلاثة أحاديث.


(أنه قال لعمرو بن سعيد) بفتح العين في الأولى وكسرها في الثانية ابن العاص بن أمية القرشي الأموي المعروف بالأشدق.
قال ابن حجر: وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان (وهو يبعث البعوث) بضم الموحدة جمع البعث بمعنى المبعوث، والجملة اسمية وقعت حالاً والمعنى يرسل الجيوش (إلى مكة) زادها الله تعالى شرفًا ومنَّ علينا بالمجاورة بها على أحسن وجه في عافية بلا محنة لقتال عبد الله بن الزبير لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية في سنة إحدى وستين من الهجرة، واعتصم بالحرم بلغنا الله المجاورة به في عافية بلا محنة وكان عمرو وإلي يزيد على المدينة الشريفة (ائذن لي) يا (أيها الأمير أُحدّثك) بالجزم لأنه جواب الأمر (قولاً) بالنصب مفعول ثانٍ لأحدّث (قام به النبي) وفي رواية أبي الوقت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغد) بالنصب على الظرفية (من يوم الفتح) أي ثاني يوم فتح مكة في العشرين من رمضان السنة الثامنة من الهجرة (سمعته أُذناي) أصله
أُذنان لي فسقطت النون لإضافته لياء المتكلم، والجملة في محل نصب صفة للقول كجملة قام به

النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو ينفي أن يكون سمعه من غيره (ووعاه قلبي) أي حفظه وتحقق فهمه وتثبت في تعقل معناه (وأبصرته عيناي) بتاء التأنيث كسمعته أُذناي، لأن كل ما هو في الإنسان من الأعضاء اثنان كاليد والرجل والعين والأُذن فهو مؤنث بخلاف الأنف والرأس، والمعنى أنه لم يكن اعتماده على الصوت من وراء حجاب بل بالرؤية والمشاهدة وأتى بالتثنية تأكيدًا (حين تكلم) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (به) أي بالقول الذي أحدّثك (حمد الله) تعالى بيان لقوله تكلم به (وأثنى عليه) عطف على سابقه من باب عطف العام على الخاص (ثم قال) عليه الصلاة والسلام (إن مكة حرمها الله) عز وجل يوم خلق السماوات والأرض (ولم يحرمها الناس) من قبل أنفسهم واصطلاحهم، بل حرمها الله تعالى بوحيه فتحريمها ابتدائي من غير سبب يعزى لأحد فلا مدخل فيه لنبي ولا لغيره ولا تنافي بين هذا وبين ما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرمها إذ المراد أنه بلغ تحريم الله وأظهره بعد أن رفع البيت وقت الطوفان واندرست حرمتها، وإذا كان كذلك (فلا يحل لامرئ) بكسر الراء كالهمزة إذ هي تابعة لها
في جميع أحوالها أي لا يحل لرجل (يؤمن بالله واليوم الأخر) يوم القيامة إشارة إلى المبدأ والمعاد (أن يسفك بها دمًا) بكسر الفاء وقد تضم وهما لغتان.
قال في العباب: سفكت الدم أسفكه وأسفكه سفكًا.
وفي رواية المستملي والكشميهني فيها بدل بها والباء بمعنى في وأن مصدرية أي فلا يحل سفك دم فيها والسفك صب الدم والمراد به القتل.
(و) أن (لا يعضد بها) بفتح المثناة التحتية وتسكين العين المهملة وكسر الضاد المعجمة آخره دال مهملة مفتوحة أي يقطع بالمعضد وهو آلة كالفأس (شجرة) أي ذات ساق ولا زيدت لتأكيد معنى النفي أي لا يحل له أن يعضد، (فإن) ترخص (أحد ترخص) برفع أحد بفعل مقدر يفسره ما بعده لا بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل وحذف الفعل وجوبًا لئلا يجمع بين المفسر والمفسر وأبرزته لضرورة البيان، والمعنى إن قال أحد ترك القتال عزيمة والقتال رخصة تتعاطى عند الحاجة (القتال) أي لأجل قتال (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها) مستدلاً بذلك (فقولوا) له ليس الأمر كذلك (إن الله) تعالى (قد أذن لرسوله) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خصيصة له (ولم يأذن لكم وإنما أذن لي) الله في القتال فقط (فيها) أي مكة وهمزة أذن مفتوحة ويجوز ضمها على البناء للمفعول ولأبي ذر كما في الفرع وأصله إسقاط لفظة فيها اختصارًا للعلم به فقال: أذن ليس (ساعة) أي في ساعة (من نهار) وهي من طلوع الشمس إلى العصر كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند أحمد فكانت مكة في حقه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تلك الساعة بمنزلة الحل، (ثم عادت حرمتها اليوم) أي تحريمها المقابل للإباحة المفهومة من لفظ الإذن في اليوم المعهود وهو يوم الفتح إذ عود حرمتها كان في يوم صدور هذا القول لا في غيره (كحرمتها بالأمس) الذي قبل يوم الفتح.
(وليبلغ الشاهد) الحاضر (الغائب) بالنصب مفعول الشاهد، ويجوز كسر لام ليبلغ وتسكينها فالتبليغ عن الرسول عليه الصلاة والسلام فرض كفاية.
(فقيل لأبي شريح) المذكور (ما قال عمرو) أي ابن سعيد المذكور في جوابك فقال (قال) عمرو (أنا أعلم منك يا أبا شريح أن مكة) يعني صح سماعك وحفظك لكن ما فهمت المعنى فإن مكة (لا تعيذ) بالمثناة الفوقية والذال المعجمة أي لا تعصم (عاصيًا) من إقامة الحدّ عليه وفي رواية إن الحرم لا يعيد بالمثناة التحتية عاصيًا (ولا فارًّا) بالفاء والراء المشددة (بدم) أي مصاحبًا بدم

ومتلبسًا به وملتجئًا إلى الحرم بسبب خوفه من إقامة الحد عليه (ولا فارًّا بخربة) أي بسبب خربة وهي بفتح المعجمة وبعد الراء الساكنة موحدة، ووقع في رواية المستملي تفسيرها فقال: بخربة يعني السرقة، وفي رواية الأصيلي كما قاله القاضي عياض بخربة بضم الخاء أي الفساد، وزاد البدر الدماميني الكسر مع إسكان الراء كذلك وقال: على المشهور أي في الراء قال: وأصلها سرقة الإبل وتطلق على كل خيانة انتهى.

وقد حاد عمرو عن الجواب وأتى بكلام ظاهره حق، لكن أراد به الباطل فإن أبا شريح الصحابي أنكر عليه بعث الخيل إلى مكة واستباحة حرمتها بنصب الحرب عليها.
فأجاب بأنه لا يمنع من إقامة القصاص وهو الصحيح، إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمرًا يجب عليه فيه شيء، بل هو أولى بالخلافة من يزيد بن معاوية لأنه بويع قبله، وهو صاحب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومباحث ذلك تأتي إن شاء الله تعالى في الحج.

ورواة هذا الحديث ما بين مصري ومدني وفيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، وأخرجه المؤلف في الحج والمغازي ومسلم في الحج، والترمذي فيه وفي الدّيات، والنسائي في الحج والعلم والله الموفق.




[ قــ :104 ... غــ : 105 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ- عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا.
أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ»، وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَانَ ذَلِكَ «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ» مَرَّتَيْنِ.

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب) أبو محمد الحجبي بفتح الحاء المهملة والجيم والموحدة البصري الثقة الثبت، المتوفى سنة ثمانٍ وعشرين ومائتين ( قال: حدّثنا حماد) أي ابن زيد البصري ( عن أيوب) السختياني ( عن محمد) هو ابن سيرين ( عن ابن أبي بكرة) عبد الرحمن ( عن) أبيه ( أبي بكرة) نفيع كذا في رواية الكشميهني والمستملي وهو الصواب كما سبق في كتاب العلم من طريق أخرى، وهو الذي رواه سائر رواة الفربري، ووقع في نسخة أبي ذر فيما قيده عن الحموي وأبي الهيثم عن الفربري عن محمد عن أبي بكرة فأسقط ابن أبي بكرة كذا قاله أبو علي الغساني، والصواب الأول قال أبو بكرة حال كونه ( ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم الذال مبنيًّا للمفعول وفي نسخة مبنيًّا للفاعل ( قال) وللأصيلي فقال: أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع أي يوم الحديث السابق في باب رب مبلغ من كتاب العلم، واقتصر منه هنا على بيان التبليغ إذ هو المقصود فقال:
( فإن) بفاء العطف على المحذوف كما تقرر ( دماءكم وأموالكم قال محمد) أي ابن سيرين ( وأحسبه) أي وأظن ابن أبي بكرة ( قال وأعراضكم) بالنصب عطفًا على السابق ( عليكم حرام) أي فإن انتهاك دمائكم وانتهاك أموالكم وانتهاك أعراضكم عليكم حرام.
يعني مال بعضكم حرام على

بعض لا أن مال الشخص حرام عليه كما دلّ عليه العقل ويدل له رواية بينكم بدل عليكم ( كحرمة يومكم هذا) وهو يوم النحر ( في شهركم هذا) ذي الحجة ( ألا) بالتخفيف ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب) بالنصب على المفعولية وكسر لام ليبلغ الثانية وغينها للساكنين.
( وكان محمد) يعني ابن سيرين ( يقول صدق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان كذلك) أي إخباره عليه الصلاة والسلام بأنه سيقع التبليغ فيما بعد فيكون الأمر في قوله: ليبلغ بمعنى الخبر لأن التصديق إنما يكون للخبر لا للأمر أو يكون إشارة إلى تتمة الحديث، وهو أن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه يعني وقع تبليغ الشاهد أو إشارة إلى ما بعده وهو التبليغ الذي في ضمن ألا هل بلغت بمعنى وقع تبليغ الرسول إلى الأمة قاله البرماوي كالكرماني وغيره، وفي رواية قال ذلك بدل قوله كان ذلك.
( ألا) بالتخفيف أيضًا أي يا قوم ( هل بلغت مرتين) أي قال هل بلغت مرتين لا إنه قال الجميع مرتين إذ لم يثبت، فقوله قال محمد الخ اعتراض وألا هل بلغت من كلامه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.