فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الحياء في العلم

باب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لاَ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ.
.

     وَقَالَتْ  عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.

هذا ( باب الحياء) بالمد ( في) تعلم ( العلم) وتعليمه ( وقال مجاهد) أي ابن جبر التابعي الكبير مما وصله أبو نعيم في الحلية من طريق علي بن المديني عن ابن عيينة من منصور عنه بإسناد صحيح على شرط المؤلف، ( لا يتعلم العلم مستحييٍ) بإسكان الحاء وبياءين أخيرتهما ساكنة من استحيا يستحيي على وزن يستفعل، ويجوز فيه مستحي أي بياء واحدة من استحى يستحي على وزن مستفع، ويجوز مستح من غير ياء على وزن مستف ( ولا مستكبر) يتعاظم ويستنكف أن يتعلم العلم ويستكثر منه وهو أعظم آفات العلم، فالحياء هنا مذموم لكونه سببًا لترك أمر شرعي وليست لا ناهية بل نافية ومن ثم كانت ميم يتعلم مضمومة.


( وقالت عائشة) رضي الله عنها مما وصله مسلم ( نعم النساء نساء الأنصار) برفع نساء في الموضعين، فالأولى على الفاعلية، والثانية على أنها مخصوصة بالمدح والمراد من نساء الأنصار نساء أهل المدينة ( لم يمنعهن الحياء) عن ( أن يتفقهن) أي عن التفقه ( في) أمور ( الدين) .


[ قــ :129 ... غــ : 130 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ.
فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ -تَعْنِي وَجْهَهَا- .

     وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟».
[الحديث 130 - أطرافه في: 282، 3328، 6091، 6121] .


وبالسند إلى المؤلف قال ( حدّثنا محمد بن سلام) بتخفيف اللام على الأشهر واقتصر عليه في فرع اليونينية وهو البيكندي ( قال: أخبرنا أبو معاوية) محمد بن خازم بمعجمتين الضرير التيمي ( قال: حدّثنا هشام) وفي رواية ابن عساكر بن عروة ( عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام ( عن زينب ابنة) وفي رواية الأربعة بنت ( أم سلمة) وأبوها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، توفيت سنة ثلاث وسبعين ونسبت لأمها أم المؤمنين أم سلمة بيانًا لشرفها لأنها ربيبته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( عن أم سلمة) هند بنت أبي أمية زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، رضي الله عنها أنها ( قالت) : ( جاءت أُم سليم) بضم المهملة وفتح اللام بنت ملحان بكسر الميم وسكون اللام وبالحاء المهملة والنون النجارية الأنصارية وهي والدة أنس بن مالك ( إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق) ليس الاستحياء هنا على بابه، وإنما هو جارٍ على سبيل الاستعارة التبعية التمثيلية أي أن الله لا يمتنع من بيان الحق، فكذا أنا لا أمتنع من سؤالي عما أنا محتاجة إليه، وإنما قالت ذلك بسطًا لعذرها في ذكر ما تستحيي النساء من ذكره عادة بحضرة الرجال لأن نزول المني منهنّ يدل على قوّة شهوتهنّ للرجال ( فهل) يجب ( على المرأة من غُسل) بضم الغين وفي رواية من غسل بفتحها وهما مصدران عند أكثر أهل اللغة.
وقال آخرون بالضم الاسم وبالفتح المصدر وحرف الجر زائد ( إذا) هي ( احتلمت) أي رأت في منامها أنها تجامع ( قال) وفي رواية أبي ذر وابن عساكر فقال ( النبي) وفي رواية أبي ذر رسول الله ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عليها غسل ( إذا) أي حين ( رأت الماء) أي المني إذا استيقظت فإذا ظرفية، ويجوز أن تكون شرطية أي إذا رأت وجب عليها الغسل، وجعل رؤية المني شرطًا للغسل يدل على أنها إذا لم ترَ الماء لا غسل عليها.
قالت زينب: ( فغطت أم سلمة) رضي الله عنها أو قالته أم سلمة على سبيل الالتفات من باب التجريد كأنها جرّدت من نفسها شخصًا فأسندت إليه التغطية إذ الأصل فغطيت قال عروة أو غيره ( تعني وجهها) بالمثناة الفوقية ولابن عساكر بالتحتية وعند مسلم من حديث أنس أن ذلك وقع لعائشة أيضًا فيحتمل حضورهما معًا في

هذه القصة.
( وقالت) أم سلمة ( يا رسول الله وتحتلم المرأة) بحذف همزة الاستفهام وللكشميهني أو تحتلم بإثباتها وهو معطوف على مقدّر يقتضيه السياق أي أترى المرأة الماء، وتحتلم؟ ( قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( نعم) تحتلم وترى الماء ( تربت يمينك) بكسر الراء والكاف أي افتقرت وصارت على التراب وهي كلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب.
( فبِمَ) بحذف الألف ( يشبهها ولدها) وفي حديث أنس في الصحيح: فمن أين يكون الشبه ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيّهما علا أو سبق يكون منه الشبه.
وفي هذا الحديث ترك الاستحياء لمن عرضت له مسألة.




[ قــ :130 ... غــ : 131 ]
- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ.
فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِهَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هِيَ النَّخْلَةُ».

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي، فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا.

وبه قال: ( حدّثنا إسماعيل) بن أبي أُويس ابن أُخت إمام دار الهجرة مالك ( قال: حدّثني) بالإفراد ( مالك) الإمام ( عن عبد الله بن دينار) المشهور ( عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما ثبت ابن عمرو الترضي لابن عساكر.

( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي) وللأصيلي هي بإسقاط
الواو ( مثل المسلم) بفتح الميم والمثلثة وفي رواية مثل بكسر الميم وسكون المثلثة ( حدّثوني ما هي.

فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة.
قال عبد الله: فاستحييت.
فقالوا)
ولابن عساكر والأصيلي قالوا: ( يا رسول الله أخبرنا بها.
فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هي النخلة.
قال عبد الله فحدّثت أبي)
عمر ( بما) أي بالذي ( وقع في نفسي) من أنها النخلة ( فقال: لأن) بفتح اللام ( تكون قلتها أحب إلي من أن يكون ليس كذا وكذا) أي من حمر النعم وغيرها.


فإن قلت: لم قال قلتها بلفظ الماضي مع قوله تكون بلفظ المضارع وقد كان حقه أن يقول لأن كنت قلت؟ أجيب بأن المعنى لأن تكون في الحال موصوفًا بهذا القول الصادر في الماضي انتهى.

وإنما تأسف عمر رضي الله عنه على كون ابنه لم يقل ذلك لتظهر فضيلته فاستلزم حياؤه تفويت ذلك وقد كان يمكنه إذا استحيا إجلالاً لمن هو أكبر منه أن يذكر ذلك لغيره سرًّا ليخبر به عنه فيجمع بين المصلحتين، ومن ثم عقبه المؤلف بقوله: