فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب فضل الصوم

باب فَضْلِ الصَّوْمِ
( باب فضل الصوم) اعلم أن الصوم لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين.


[ قــ :1808 ... غــ : 1894 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ.
وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ -مَرَّتَيْنِ- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا».
[الحديث 1894 - أطرافه في: 1904، 5927، 7492، 7538] .

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي ( عن مالك) الإمام الأعظم ( عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( الصيام جنة) بضم الجيم وتشديد النون أي وقاية وسترة قيل من المعاصي لأنه يكسر الشهوة ويضعفها وقيل من النار لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بالشهوات وعند الترمذي وسعيد بن منصور جنة من النار ولأحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح الصيام جنة ما لم يخرقها وزاد الدارمي بالغيبة وفيه تلازم الأمرين لأنه إذا كف نفسه عن المعاصي في الدنيا كان سترًا له من النار ( فلا يرفث) بالمثلثة وبتثليث الفاء أي لا يفحش الصائم في الكلام ( ولا يجهل) .
أي لا يفعل فعل الجهال كالصياح والسخرية أو يسفه على أحد وعند سعيد بن منصور فلا يرفث ولا يجادل وهذا ممنوع في الجملة على الإطلاق لكنه يتأكد بالصوم كما لا يخفى ( وإن امرؤ قاتله أو شاتمه) قال عياض: قاتله أي دافعه ونازعه ويكون بمعنى شاتمه ولاعنه، وقد جاء القتل بمعنى اللعن وفي رواية أبي صالح فإن سابه أحد أو قاتله، ولسعيد بن منصور من طريق سهيل فإن سابه أحد أو ماراه يعني جادله، وقد استشكل ظاهره لأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين فإنه مأمور بأن يكف نفسه عن ذلك.

وأجيب: بأن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها يعني إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته.

( فليقل) له بلسانه كما رجحه النووي في الأذكار أو بقلبه كما جزم به المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة ( إني صائم مرتين) فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكف عنه وإلاّ دفعه بالأخف والظاهر كما قاله في المصابيح أن هذا القول علة لتأكيد المنع فكأنه يقول لخصمه إني صائم تحذيرًا وتهديدًا بالوعيد الموجه على من انتهك حرمة الصائم وتذرع إلى تنقيص أجره بإيقاعه بالمشاتمة أو يذكر نفسه شديد المنبع المعلل بالصوم ويكون من إطلاق القول على الكلام النفسي، وظاهر كون الصوم جنّة أن يقي صاحبه من أن يؤذي كما يقيه أن يؤذى.


( و) الله ( الذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم) بضم المعجمة واللام على الصحيح المشهور وضبطه بعضهم بفتح الخاء وخطاه الخطابي وقال في المجموع أنه لا يجوز أي تغير رائحة فم الصائم لخلاء معدته من الطعام ( أطيب عند الله من ريح المسك) ، وفي لفظ لمسلم والنسائي: أطيب عند الله يوم القيامة، وقد وقع خلاف بين ابن الصلاح وابن عبد السلام في أن طيب رائحة الخلوف هل هو في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط؟ فذهب ابن عبد السلام إلى أنه في الآخرة واستدلّ برواية مسلم والنسائي هذه.

وروى أبو الشيخ بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعًا: يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك، وذهب ابن الصلاح إلى أن ذلك في الدنيا واستدلّ بحديث جابر مرفوعًا: وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك واستشكل هذا من جهة أن الله تعالى منزه عن استطابة الروائح الطيبة واستقذار الروائح الخبيثة فإن ذلك من صفات الحيوان.

وأجيب: بأنه مجاز واستعارة لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك لتقريبه من الله تعالى.
وقال ابن بطال: أي أزكى عند الله إذ هو تعالى لا يوصف بالشم.
قال ابن المنير: لكنه يوصف بأنه تعالى عالم بهذا النوع من الإدراك وكذلك بقية المدركات المحسوسات يعلمها تعالى على ما هي عليه لأنه خالقها ألا يعلم من خلق وهذا مذهب الأشعري، وقيل إنه تعالى يجزيه في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك أو أن صاحب الخلوف ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا.

فإن قلت: لم كان خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ودم الشهيد ريحه ريح المسك مع ما فيه من المخاطرة بالنفس وبذل الروح؟
أجيب: بأنه إنما كان أثر الصوم أطيب من أثر الجهاد لأن الصوم أحد أركان الإسلام المشار إليها بقوله عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمس وبأن الجهاد فرض كفاية والصوم فرض عين وفرض العين أفضل من فرض الكفاية كما نص عليه الشافعي.

وروى الإمام أحمد في السند أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: دينار تنفقه على أهلك ودينار تنفقه في سبيل الله أفضلهما الذي تنفقه على أهلك.
وجه الدليل أن النفقة على الأهل التي هي فرض عين أفضل من النفقة في سبيل الله وهو الجهاد الذي هو فرض كفاية، ولا يعارض هذا ما رواه أبو داود الطيالسي من حديث أبي قتادة قال: خطب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر الجهاد وفضله على سائر الأعمال إلا المكتوبة، فإنه يحتمل أن يكون ذلك قبل وجوب الصوم، وأما قول إمام الحرمين وجماعة: إن فرض الكفاية أفضل من فرض العين فمخالف لنص الشافعي فلا يعوّل عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام للرجل الذي

سأله عن أفضل الأعمال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له.
زاد الإمام أحمد عن إسحاق بن الطباع عن مالك يقول الله تعالى:
( يترك) الصائم ( طعامه وشرابه وشهوته) أي شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب أو من عطف العام على الخاص لكن وقع عند ابن خزيمة ويدع زوجته من أجلي فهو صريح في الأول وأصرح منه ما وقع عند الحافظ سمويه من الطعام والشراب والجماع ( من أجلي.
الصيام لي)
من بين سائر الأعمال ليس للصائم فيه حظ أو لم يتعبد به أحد غيري أو هو سرّ بيني وبين عبدي يفعله خالصًا لوجهي وفي الموطأ فالصيام بفاء السببية أي بسبب كونه لي أنه يترك شهوته لأجلي أو أن فيه صفة الصمدانية وهي التنزيه عن الغذاء ( وأنا أجزي) صاحبه ( به) وقد علم أن الكريم إذا تولى الإعطاء بنفسه كان في ذلك شارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه ففيه مضاعفة الجزاء من غير عدد ولا حساب ( و) سائر الأعمال ( الحسنة بعشر أمثالها) زاد في رواية في الموطأ إلى سبعمائة ضعف، واتفقوا على أن المراد بالصائم هنا من سلم صيامه من المعاصي وحديث الغيبة تفطر الصائم على ما في الإحياء.
قال العراقي ضعيف بل قال أبو حاتم كذب، نعم يأثم ويمنع ثوابه إجماعًا ذكره السبكي في شرح وفيه نظر لمشقة الاحتراز لكن إن توجهت المقالة لا نصحًا وتظلمًا ونحوهما لحاكم ونحوه، وأدنى درجات الصوم الاقتصار على الكف عن المفطرات، وأوسطها أن يضم إليه كف الجوارح عن الجرائم، وأعلاها أن يضم إليهما كف القلب عن الوساوس.

وقال بعضهم: معناه الصوم ليس لا لك أي أنا الذي لا ينبغي لي أن أطعم وأشرب وإذا كان بهذه المثابة وكان دخولك فيه كوني شرعته لك فأنا أجري به كأنه يقول: أنا جزاؤه لأن صفة التنزيه عن الطعام والشراب تطلبي وقد تلبست بها وليست لك لكنك اتصفت بها في حال صومك فهي تدخلك عليّ فإن الصبر حبس النفس وقد حبستها بأمري عما تعطيه حقيقتها من الطعام والشراب، فلهذا قال: للصائم فرحتان عند فطره وتلك الفرحة لروحه الحيواني لا غير، وفرحة عند لقاء ربه وتلك الفرحة لنفسه الناطقة الطبيعية الربانية فأورثه الصوم لقاء الله وهو المشاهدة.

وهذا الحديث أخرجه أبو داود وكذا النسائي والترمذي.