فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس

باب رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِتَلاَحِي النَّاسِ
( باب رفع معرفة) تعيين ( ليلة القدر لتلاحي الناس) بالحاء المهملة أي لأجل مخاصمتهم: وسقطت هذه الترجمة مع الباب لغير أبوي ذر والوقت وزاد أبو ذر وابن عساكر يعني ملاحاة.


[ قــ :1940 ... غــ : 2023 ]
- حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ".

وبالسند قال ( حدّثنا) ولأبي ذر: حدثني ( محمد بن المثنى) العنزي قال: ( حدّثنا) ولأبي ذر: حدثني بالإفراد ( خالد بن الحرث) الهجيمي قال: ( حدّثنا حميد) هو ابن أبي حميد واسم أبي حميد تير بكسر الفوقية وسكون التحتية آخره راء الخزاعي البصري ومعناه السهم وقيل تيرويه وقيل ترخان وقيل مهران وهو مشهور بحميد الصويل قيل: كان قصيرًا طويل اليدين وكان يقف عند الميت فتصل إحدى يديه إلى رأسه والأخرى إلى رجليه.
وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن بذلك الطول كان في

جيرانه رجل يقال له حميد القصير فقيل له حميد الطويل للتمييز بينهما قال: ( حدّثنا أنس) هو ابن مالك ( عن عبادة بن الصامت) -رضي الله عنه- ( قال: خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من حجرته ( ليخبرنا بليلة القدر) أي بتعيينها ( فتلاحى) بفتح الحاء المهملة أي تنازع وتخاصم ( رجلان من المسلمين) قيل هما عبد الله بن حدرد وكعب بن مالك فيما ذكره ابن دحية لم يذكر له مستندًا ( فقال) عليه الصلاة والسلام:
( خرجت لأخبركم) بنصب الراء بأن مقدرة بعد لام التعليل وأخبر يقتضي ثلاثة مفاعيل الأول الكاف وقوله ( بليلة القدر) سدّ مسدّ المفعول الثاني والثالث لأن التقدير أخبركم بأن ليلة القدر هي الليلة الفلانية ( فتلاحى فلان وفلان) في المسجد وشهر رمضان اللذين هما محلان لذكر الله لا للغو ( فرفعت) أي رفع بيانها أو عملها من قلبي بمعنى نسيتها كما وقع التصريح به في رواية مسلم، وقيل رفعت بركتها في تلك السنة، وقيل التاء في رفعت للملائكة لا لليلة.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها" وهذا يقتضي أن سبب الرفع النسيان لا الملاحاة.

وأجيب: باحتمال أن يكون النسيان وقع مرتين عن سببين أو أن الرؤيا في حديث أبي هريرة منامًا فيكون سبب النسيان الإيقاظ والأخرى في اليقظة، فيكون سبب النسيان الملاحاة وحاصله الحمل على التعدد.

( وعسى أن يكون) رفع تعيينها ( خيرًا لكم) وجه الخيرية أن إخفاءها يستدعي قيام كل الشهر بخلاف ما لو بقيت معرفة تعيينها.
واستنبط منه الشيخ تقي الدين السبكي -رحمه الله تعالى- استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها قال: وجه الدلالة أن الله تعالى قدر لنبيه أنه لم يخبر بها والخير كله فيما قدره له ويستحب اتباعه في ذلك قال: والحكمة فيه أنها كرامة والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف عند أهل الطريق من جهة رؤية النفس فلا يأمن السلب، ومن جهة أنه لا يأمن الرياء، ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر لله بالنظر إليها وذكرها للناس، وإذا تقرر أن الذي ارتفع علم تعيينها تلك السنة فهل أعلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك بتعيينها فيه احتمال وشذ قوم فقالوا: أنها رفعت أصلاً وهو غلط منهم، ولو كان كذلك لم يقل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك:
( فالتمسوها) في اطلبوا ليلة القدر ( في) الليلة ( التاسعة) والعشرين ( و) في الليلة ( السابعة) والعشرين ( و) في الليلة ( الخامسة) والعشرين من شهر رمضان، وقد استفيد التقدير بالعشرين والليلة من روايات أخر كما لا يخفى ولو كان المراد رفع وجودها كما زعم الروافض لم يأمرهم بالتماسها، وقد أجمع من يعتد بها على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر وقد وقع الأمر بطلبها في هذه الأحاديث في أوتار العشر الأواخر وفي السبع الأواخر وبينهما تناف وإن اتفقا على أن محلها منحصر في العشر الأواخر، والأول وهو انحصارها في أوتار العشر الأخير قول حكاه القاضي عياض وغيره.
قال

الحنابلة: وتطلب في ليالي العشر الأخير وليالي الوتر آكد.
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين الخ ويكون باعتبار الباقي لقوله عليه الصلاة والسلام: لتاسعة تبقى فإن كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الإشفاع فليلة الثانية تاسعة تبقى وليلة الرابعة سابعة تبقى كما فسره أبو سعيد، وإن كان الشهر ناقصًا كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي اهـ.

وأما القول بانحصارها في السبع الأواخر فلا نعرف قائلاً به وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد السابق وفيه: فوكف المسجد في مصلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة إحدى وعشرين وحديث عبد الله بن أنيس عند مسلم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين قال: فمطرف ليلة ثلاث وعشرين، وعبارة الشافعي في الأم كما نقله البيهقي في المعرفة وتطلب ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان قال: وكأني رأيت والله أعلم أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين.
وقال الحنابلة: وأرجى الأوتار ليلة سبع وعشرين قال في الإنصاف: وهذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب وهو من المفردات اهـ.

وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه كما في مسلم وفي حديث ابن عمر عند أحمد مرفوعًا: ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وحكاه الشاشي من الشافعية في الحلية عن أكثر العلماء، واستدلّ ابن عباس على ذلك بأن الله خلق السماوات سبعًا والأرضين سبعًا والأيام سبعًا وأن الإنسان خلق من سبع وجعل رزقه في سبع ويسجد على سبعة أعضاء والطواف سبع والجمار سبع واستحسن ذلك عمر بن الخطاب، وقال ابن قدامة: إن ابن عباس استنبط ذلك من عدد كلمات السورة وفد وافقه أن قوله فيها هي سابع كلمة بعد العشرين، واستنبطه بعضهم من وجه آخر فقال: ليلة القدر تسعة أحرف، وقد أعيدت في السورة ثلاث مرات وذلك سبع وعشرون، واستدلّ أبي بن كعب على ذلك بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها ولفظ رواية مسلم أنه كان يحلف على ذلك ويقول بالآية والعلامة التي أخبرنا بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها وقد جاء أن لليلة القدر علامات تظهر فقيل يرى كل شيء ساجدًا، وقيل ترى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع الظلمة، وقيل يسمع سلامًا من الملائكة، وقيل علامتها استجابة دعاء من وقعت له.

وفي كتاب فضائل رمضان لسلمة بن شبيب عن فرقد أن ناسًا من الصحابة كانوا في المسجد فسمعوا كلامًا من السماء ورأوا نورًا من السماء وبابًا من السماء وذلك في شهر رمضان فأخبروا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما رأوا فزعم أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: أما النور فنور رب العزة تعالى، وأما الباب فباب السماء، والكلام كلام الأنبياء.
وهذا مرسل ضعيف ولا يلزم من تخلف العلامة عدمها فرب قائم فيها لم يحصل له منها إلا العبادة ولم ير شيئًا من كرامة علاماتها وهو عند الله أفضل ممن رآها وأي كرامة أفضل من الاستقامة التي هي عبارة عن اتباع الكتاب والسنّة وإخلاص النية.
وعن
مالك أنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وعن أبي حنيفة أنها في رمضان تتقدم وتتأخر، وعن أبي يوسف ومحمد لا تتقدم ولا تتأخر لكن غير معينة، وقيل هي عندهما في النصف الأخير من رمضان.
وقال أبو بكر الرازي: هي غير مخصوصة بشهر من المشهور، وبه قال الحنفية وفي فتاوى قاضي خان المشهور عن أبي حنيفة أنها تدور في السنة كلها وقد تكون في رمضان وفي غيره، وصح ذلك عن ابن مسعود لكن في صحيح مسلم وغيره عن زر بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر.
فقال رحمه الله: أراد أن لا يتكل الناس أما أنه علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين، وقيل أرجاها ليالي الجمع في الأوتار، وقيل أنها أول ليلة في رمضان، وقيل آخر ليلة منه، وقيل أنها تختص بإشفاع العشر الأخير على الإبهام، وقيل في كل ليلة من إشفاعه على التعيين، وقيل تكون في ليلة
أربع عشرة، وقيل في سبع عشرة، وقيل ليلة تسع عشرة.

وعن ابن خزيمة من الشافعية أنها تنتقل في كل سنة إلى ليلة من ليالي العشر الأخير، واختاره النووي في الفتاوى وشرح المهذّب، وقيل غير ذلك مما يطول استقصاؤه.

وأما قول ابن العربي: الصحيح أنها لا تعلم فأنكره النووي بأن الأحاديث قد تظاهرت بإمكان العلم بها وأخبر به جماعة من الصالحين فلا معنى لإنكار ذلك.

وقد جزم ابن حبيب من المالكية ونقله الجمهور وحكاه صاحب العدة من الشافعية ورجحه أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة ولم تكن في الأمم قبلهم، وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي حيث قال فيه قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال: بل هي باقية، وعمدتهم قول مالك السابق بلغني أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تقاصر أعمال أمته الخ.
وهذا محتمل للتأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره.