فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب آكل الربا وشاهده وكاتبه وقوله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 275]

باب آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] إلى آخر الآية.

( باب) حكم ( آكل الربا) بمدّ الهمزة وكسر الكاف والربا بالقصر ومدّه لغة شاذة وألفه بدل من واو يكتب بها وبالواو ويقال الرماء بالميم والمدّ ( و) حكم ( شاهده) بالإفراد وللإسماعيلي وشاهديه بالتثنية ( و) حكم ( كاتبه) الذين يواطئون صاحب الربا على كتمان الربا وإظهار الجائز وفيه ما يدل على أن الكاتب غير الشاهد وإنهما وظيفتان وعلى ذلك العمل بتونس وبعض بلاد المغرب، ( وقوله تعالى) بالجر عطفًا على سابقه وسقطت الواو لأبي ذر والقول عنده مرفوع.

ولابن عساكر قول الله تعالى: ( {الذين يأكلون الربا}) أي الآخذون له وإنما عبّر عنه بالأكل لأن الأكل أعظم المنافع ولأن الربا شائع في المطعومات وهو في اللغة الزيادة.
قال الله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5] أي: زادت وعلت، وفي الشرع عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما وهو ثلاثة أنواع: ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر، وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء وهو البيع لأجل وكل منها حرام ( {لا يقومون}) من قبورهم ( {إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان}) أي إلا قيامًا كقيام المصروع ( {من المس) أي الجنون.

وقال في البحر: من المس متعلق بقوله يتخبطه وهو على سبيل التأكيد ورفع ما يحتمله يتخبطه من المجاز إذ هو ظاهر في أنه لا يكون إلا من المس، ويحتمل أن يكون المراد بالتخبط الإغواء وتزيين المعاصي فأزال قوله من المس هذا الاحتمال، وقول الزمخشري إذ قوله من المس متعلق بلا يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع ضعيف لأن ما بعد إلا لا يتعلق بما قبلها إلا إن كان في حيّز الاستثناء، ولذلك منعوا أن يتعلق بالبينات والزبر بقوله: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً} [النحل: 43] وأن التقدير وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم انتهى.

وقيل: إن الناس يخرجون من الأجداث سراعًا لكن آكل الربا يربو الربا في بطنه فيريد الإسراع فيسقط فيصير بمنزلة المتخبط من الجنون لاختلال عقله.

{ذلك} أي العقاب {بأنهم} بسبب أنهم {قالوا إنما البيع مثل الربا} نظموا البيع والربا في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فاستحلّوه استحلاله.

قال الزمخشري: فإن قلت هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل ما لا يساوي إلا درهمًا بدرهمين جاز فكيف إذا باع درهمًا بدرهمين؟ وأجاب بأنه جيء به على طريق

المبالغة وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانونًا في الحل حتى شبهوا به البيع انتهى.

وتعقبه ابن المنير: بأنه لا يجب حمله على المبالغة إذ يمكن أن يقال الربا كالبيع والبيع حلال فالربا مثله، ويمكن أن يعكس فيقال البيع كالربا فلو كان الربا حرامًا كان البيع حرامًا فالأول قياس الطرد، والثاني قياس العكس انتهى.

والفرق بين الربا والبيع بَيّن فإن من أعطى درهمين بدرهم ضيع درهمًا، ومن اشترى سلعة تساوي درهمًا بدرهمين فلعل مسيس الحاجة إليها أو توقع رواجها يجبر هذا الغبن.

{وأحل الله البيع وحرّم الربا} إنكار لتسويتهم وإبطال للقياس لمعارضته النص {فمن جاءه موعظة من ربه} بلغه وعظ من الله {فانتهى} فاتعظ وتبع النهي حال وصول الشرع إليه {فله ما سلف} من المعاملة أي له ما كان من الربا زمن الجاهلية {وأمره إلى الله} يحكم يوم القيامة بينهم وليس من أمره إليكم شيء {ومن عاد} إلى تحليل الربا وأكله {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 275] لأنهم كفروا به، ولفظ رواية أبوي ذر والوقت: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} إلى قوله: {هم فيها خالدون}.


[ قــ :2000 ... غــ : 2084 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "لَمَّا نَزَلَتْ آخِرُ الْبَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِمْ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ".

وبالسند قال: ( حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة وتشديد المعجمة قال: ( حدّثنا غندر) هو لقب محمد بن جعفر البصري ( عن شعبة عن منصور) أي ابن المعتمر ( عن أبي الضحى) مسلم بن صبيح الكوفي ( عن مسروق) هو ابن الأجدع ( عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها ( قالت: لما نزلت) أي الآيات ( آخر) سورة ( البقرة) {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} إلى قوله: {لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة: 275 - 279] ( قرأهن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليهم في المسجد ثم حرّم التجارة في الخمر) أي بيعه وشراءه.

وهذا الحديث قد مرّ في أبواب المساجد من كتاب الصلاة.




[ قــ :001 ... غــ : 085 ]
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَعَلَى وَسَطِ النَّهْرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ.
فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ

حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ: آكِلُ الرِّبَا».

وبه قال: ( حدّثني موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: ( حدّثنا جرير بن حازم) بالحاء المهملة والزاي قال: ( حدّثنا أبو رجاء) عمران العطاردي ( عن سمرة بن جندب) بضم الجيم وفتح الدال ابن هلال الفزاري حليف الأنصار ( -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( رأيت) من الرؤيا، ولابن عساكر: أريت بهمزة مضمومة قبل الراء مبنيًّا للمفعول ( الليلة رجلين) جبريل وميكائيل ( أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة) بالتنكير للتعظيم ( فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم) بفتح الهاء وسكونها ( فيه) أي النهر ( رجل قائم و) هو ( على وسط النهر) الجملة حالية وحذف المبتدأ المقدّر بهو، ولا يجوز أن يكون خبرًا مقدمًا على المبتدأ وهو قوله: ( رجل بين يديه حجارة) لمخالفة ذلك سائر الروايات لأن الرجل الذي بين يديه حجارة هو على شط النهر لا على وسطه كما مرّ في آخر الجنائز بلفظ: وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة لا سيما وفي بعض الأصول ورجل بين يديه حجارة بالواو ولا يفصل بين المبتدأ والخبر، وفي رواية وسط النهر بغير واو، وحينئذ فتكون متعلقة بقائم، وقوله: رجل مبتدأ حذف خبره تقديره على الشط أو هناك والجملة حالية سواء كانت بالواو أو بدونها وعند ابن السكن على شط النهر بدل قوله وسط النهر،
وصوّبه القاضي عياض ( فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج) من النهر، وفي رواية غير ابن عساكر وأبي الوقت: فإذا أراد الرجل أن يخرج ( رمى الرجل) الذي في شط النهر ( بحجر) من الحجارة التي بين يديه ( في فيه) أي في فم الذي في النهر ( فردّه حيث كان) من النهر ( فجعل كلما جاء ليخرج) من النهر ( رمى) الرجل الذي على الشط ( في فيه بحجر) من تلك الأحجار.
قال ابن مالك: تضمن وقوع خبر جعل الإنشائية جملة فعلية مصدّرة بكلما وحقه أن يكون فعلاً مضارعًا وقد جاء هنا ماضيًا ( فيرجع كما كان) ولا يمكنه من الخروج منه.
قال عليه الصلاة والسلام ( فقلت) لجبريل وميكائيل: ( ما هذا) ؟ الذي رأيت ( فقال) أحدهما ( الذي رأيته في النهر آكل الربا) .

وهذا موضع الترجمة لكن ليس فيه ولا في سابقه ذكر لكاتب الربا وشاهده فقيل لأنهما لما كانا معاونين لآكله نزلاً منزلة الآكل، فترجم المؤلّف بالثلاثة أو أنهما رضيا به والراضي بالشيء كفاعله أو أنهما بفعلهما كأنهما قائلان إنما البيع مثل الربا أو عقد الترجمة لهما ولم يجد فيهما حديثًا على شرطه.

قال في الفتح: ولعله أشار إلى ما ورد في الكاتب والشاهد صريحًا فعند مسلم وغيره من حديث جابر: لعن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده وقال: هم في الإثم سواء.
ولأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: لعن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه، وفي رواية الترمذي بالتثنية وهذا إنما يقع على من

واطأ صاحب الربا عليه أما من كتبه أو شاهد القصة ليشهد بها على ما هي عليه ليعمل فيها بالحق فهو جميل القصد لا يدخل في الوعيد المذكور.