فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: لا تستقبل القبلة بغائط أو بول، إلا عند البناء، جدار أو نحوه

باب لاَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةُ بِبَولٍ أو غَائطٍ، إِلاَّ عِنْدَ الْبِنَاءِ: جِدَارٍ أَوْ نَحْوِه
هذا ( باب) بالتنوين ( لا يستقبل القبلة ببول ولا غائط) بفتح المثناة التحتية وكسر الموحدة من يستقبل مبنيًّا للفاعل والقبلة نصب على المفعولية وفي لام يستقبل الضم على أن لا نافية والكسر على أنها ناهية ويجوز في يستقبل ضم المثناة وفتح الموحدة مبنيًّا للمفعول ورفع القبلة مفعول ناب عن الفاعل.
قال في الفتح: وهي روايتنا وكِلا الوجهين بفرع اليونينية، وفي رواية ابن عساكر: لا يستقبل القبلة بغائط ولا بول ( إلا عند البناء جدار) بالجر بدل من البناء ( أو نحوه) كالسواري والأساطين والخشب والأحجار الكبار، وللكشميهني مما ليس في اليونينية أو غيره بدل أو نحوه وهما متقاربان والباء في قوله بغائط ظرفية، والغائط هو الكان المطمئن من الأرض في الفضاء كان يقصد لقضاء الحاجة فيه.
ثم كنّي به عن العذرة نفسها كراهة لذكرها بخاص اسمها.
ومن عادة العرب استعمال الكنايات صونًا للألسنة عما تصان الأبصار والأسماع عنه فصار حقيقة عرفية غلبت على الحقيقة اللغوية، وليس في حديث الباب ما يدل على الاستثناء الذي ذكره فقيل: إنه أراد بالغائط معناه اللغوي، وحينئذ يصح استثناء الأبنية منه.
وقيل: الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي إن شاء الله تعالى إذ الحديث كله واحد وإن اختلفت طرقه أو أن حديث الباب عنده عامّ مخصوص.
قال العيني: وعليه يتجه الاستثناء.


[ قــ :143 ... غــ : 144 ]
- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا».
[الحديث 144 - طرفه في: 394] .

وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا آدم) بن أبي إياس ( قال: حدّثني ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحرث نسبه إلى جدّ جدّه لشهرته به ( قال: حدْثني) بالإفراد وفي نسخة بالجمع ( الزهري) محمد بن مسلم ( عن عطاء بن يزيد) من الزيادة ( الليثي) ثم الجندعي بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة المدني التابعي، المتوفى سنة سبع أو خمس ومائة ( عن أبي أيوب) خالد بن زيد بن كليب ( الأنصاري) رضي الله عنه وكان من كبار الصحابة شهد بدرًا ونزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قدم المدينة عليه.
وتوفي غازيًا بالروم سنة خمسين، وقيل: بعدها له في البخاري سبعة أحاديث ( قال) :
( قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أتى) أي جاء ( أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة) بكسر اللام على النهي وبضمها على النفي ( ولا يولها ظهره) جزم بحذف الياء على النهي أي لا يجعلها مقابل ظهره، وفي رواية مسلم ولا يستدبرها ببول أو غائط، والظاهر منه اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، وقيل: مثال النهي كشف العورة،
وحينئذ فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلاً، وقد نقله ابن شاس من المالكية قولاً في مذهبهم وكأن قائله تمسك برواية في الموطأ: لا تستقبلوا القبلة بفروجكم ولكنها محمولة على قضاء الحاجة جميعًا بين الروايتين ( شرقوا أو غربوا) أي خذوا في ناحية المشرق أو ناحية المغرب، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وهو لأهل المدينة ومن كانت قبلتهم على سمتهم، أما من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب فإنه ينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال، ثم إن هذا الحديث يدل على عموم النهي في الصحراء والبنيان، وهو مذهب أبي حنيفة ومجاهد وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأحمد في رواية عنه لتعظيم القبلة وهو موجود فيهما، فالجواز في البنيان إن كان لوجود الحائل فهو موجود في الصحراء كالجبال والأودية، وخصّ الشافعية والمالكية وإسحاق وأحمد في رواية هذا العموم بحديث ابن عمر الآتي الدالّ على جواز الاستدبار في الأبنية، وجائز عند أحمد وأبي داود وابن خزيمة الدال على جواز الاستقبال فيها، ولولا ذلك كان حديث أبي أيوب لا يخص من عمومه بحديث ابن عمر.
إلا جواز الاستدبار فقط ولا يلحق به الاستقبال قياسًا لأنه لا يصح، وقد تمسك به قوم فقالوا بجواز الاستدبار دون الاستقبال.

وحكى عن ابن حنيفة وأحمد وهو قول أبي يوسف وهل جوازهما في البنيان مع الكراهة أم لا؟ فقيل: يكره وفافًا للمجموع وجزم في التذنيب تبعًا للمتوليّ بالكراهة، واختار في المجموع بقاء الكراهة في استقبال بيت المقدس واستدباره، وذهب عروة بن الزبير وربيعة الرأي وداود إلى جواز الاستقبال والاستدبار مطلقًا جاعلين حديث ابن عمر منسوخًا بحديث جابر عند أبي داود والترمذي وأبناء ماجة وخزيمة وحبان نهانا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول، ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها وقد ضعفوا دعوى النسخ بأنه لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع، وحملوا حديث جابر هذا على أنه رآه في بناء أو نحوه لأن ذلك هو المعهود من حاله عليه السلام لمبالغته في التستر، ويستثنى من القول بالحرمة في الصحراء ما لو كان الريح يهب على يمين القبلة أو شمالها فإنهما لا يحرمان للضرورة قاله القفال في فتاويه، والاعتبار في الجواز في البنيان والتحريم في الصحراء بالساتر وعدمه، فحيث كان في الصحراء ولم يكن بينه وبينها ساتر أو كان وهو قصير - لا يبلغ ارتفاعه ثلثي ذراع أو بلغ ذلك وبعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع حرم وإلاّ فلا، في البنيان يشترط الستر كما ذكرنا وإلاّ فيحرمان إلا فيما بني لذلك وهذا التفصيل للخراسانيين وصحّحه في المجموع.