فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا

باب الْوُضُوءِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا
هذا ( باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا) لكل عضو.



[ قــ :157 ... غــ : 159 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
[الحديث 159 - أطرافه في: 160، 164، 1934، 6433] .

وبه قال: ( حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي) بضم الهمزة وفتح الواو وسكون المثناة التحتية ( قال: حدّثني) بالتوحيد ( إبراهيم بن سعد) بسكون العين سبط عبد الرحمن بن عوف ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( أن عطاء بن يزيد) التابعي ( أخبره) أي أخبر ابن شهاب ( أن) بفتح الهمزة بتقدير الباء ( حمران) بضم الحاء المهملة وسكون الميم وبالراء ابن أبان بفتح الهمزة والموحدة المخففة ابن خالد ( مولى عثمان) بن عفان رضي الله عنه، المتوفى سنة خمس وسبعين ( أخبره) أي أن حمران أخبر عطاء.

( أنه رأى) أي أبصر ( عثمان بن عفان) بن أبي العاص بن أمية أمير المؤمنين الملقب بذي النورين ولا نعلم أن أحدًا أرخى سترًا على ابنتي نبيّ غيره قاله الحافظ الزين العراقي، المستشهد في يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين رضي الله عنه حال كونه قد ( دعا بإناء) فيه ماء للوضوء ( فأفرغ) بفاء التفسير أي فصب ( على كفيه) إفراغًا ( ثلاث مرار) .
والظاهر أن المراد أفرغ على واحدة بعد واحدة لا عليهما وقد بين في رواية أخرى أنه أفرغ بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما، وقوله غسلهما قدر مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين أو متفرقتين، والذي جزم به في الروضة من زوائده أن الكفين كالأذُنين، والصحيح في الأُذنين مسحهما معًا فكذلك
يغسل الكفّين معًا.
ويدل عليه من هذا الحديث أنه قال: فغسلهما ثلاثًا ولو أراد التفريق لقال غسلهما ثلاثًا ثلاثًا، وفي رواية الأصيلي وكريمة ثلاث مرات ( فغسلهما) أي غسل كفّيه قبل إدخالهما الإناء ( ثم أدخل يمينه في الإناء) فأخذ منه الماء وأدخله في فيه ( فمضمض) بأن أدار الماء في فيه، وفي رواية الأصيلي فتمضمض بالتاء بعد الفاء ( واستنشق) بأن أدخل الماء في أنفه، وفي رواية ابن عساكر والأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني واستنثر بالمثناة الفوقية المثلثة بينهما نون ساكنة أي أخرج

الماء من أنفه بعد الاستنشاق، وفي رواية أبي داود وابن المنذر فتمضمض ثلاثًا واستنثر ثلاثًا ( ثم غسل وجهه) غسلاً ( ثلاثًا) وحدّ الوجه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأُذن عرضًا.
وفيه تأخير غسل الوجه عن السابق كما دلّ عليه العطف بثم المقتضية للمهلة والترتيب احتياطًا للعبادة.
لأن اعتبار أوصاف الماء لونًا وطعمًا وريحًا يدرك بالبصر والفم والأنف فظهر سر تقديم المسنون على المفروض ( و) غسل ( يديه) كل واحدة ( إلى) أي مع ( المرفقين) بفتح الميم وكسر الفاء وبالعكس لغتان مشهورتان غسلاً ( ثلاث مرار ثم مسح برأسه) وسقط ثم لغير الأربعة ولم يذكر عددًا للمسح كغيره فاقتضى الاقتصار على مرة واحدة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، لأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل لأنّ المراد منه المبالغة في الإسباغ.
نعم روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس والزيادة من العدل مقبولة وهو مذهب الشافعي كغيره من الأعضاء.
وأجيب: بأن رواية المسح مرة إنما هي لبيان الجواز.
( ثم غسل رجليه) غسلاً ( ثلاث مرار إلى) أي مع ( الكعبين) وهما العظمان المرتفعان عند مفصل الساق والقدم.
( ثم قال) عثمان رضي الله عنه ( قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من توضأ) وضوءًا ( نحو وضوئي هذا) أي مثله لكن بين نحو ومثل فرق من حيث إن لفظ مثل يقتضي المساواة من كل وجه إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين بحيث يخرجان عن الموحدة، ولفظ "نحو" لا يقتضي ذلك، ولعلها استعملت هنا بمعنى المثل مجازًا أو لعله لم يترك مما يقتضي المثلية إلا ما لا يقدح في المقصود قاله ابن دقيق العيد.


قال البرماوي في شرح العمدة: وإنما حمل نحو على معنى مثل مجازًا أو على جل المقصود لأن الكيفية المترتب عليها ثواب معين باختلال شيء منها يختل الثواب المترتب بخلاف ما يفعل لامتثال الأمر مثل فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه يكتفى فيه بأصل الفعل الصادق عليه الأمر انتهى.

وقد وقع في بعض طرق الحديث بلفظ مثل كما عند المؤلف في الرقاق، وكذا عند مسلم وهو معارض لقول النووي إنما قال: نحو وضوئي ولم يقل مثل لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره.

نعم علمه عليه الصلاة والسلام بحقائق الأشياء وخفيات الأمور لا يعلمه غيره، وحينئذ فيكون قول عثمان رضي الله عنه مثل بمقتضى الظاهر.

( ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه) بشيء من المدنيا كما رواه الحكيم الترمذي في كتاب الصلاة له، وحينئذ فلا يؤثر حديث نفسه في أمور الآخرة أو يتفكر في معاني ما يتلوه من القرآن، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجهز جيشه في صلاته، لكن قال البرماوي في شرح العمدة: ينبغي تأويله أي لكونه لا تعلق له بالصلاة إذ السائغ إنما هو ما يتعلق بها من فهم المتلو فيها أو غيره كما قرره الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
وقال في الفتح: المراد ما تسترسل النفس معه ويمكن المرء قطعه لأن قوله يحدث يقتضي تكسبًا منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفوّ عنه.
نعم هو بلا ريب دون من سلم من الكل لأنه عليه الصلاة والسلام إنما
ضمن الغفران لمن راعى ذلك بمجاهدة نفسه من خطرات الشيطان ونفيها عنها وتفرغ قلبه، ولا ريب أن المتجردين عن شواغل الدنيا الذين غلب ذكر الله على قلوبهم يحصل لهم ذلك.
وروي عن سعد رضي الله عنه أنه قال: ما قمت في صلاة فحدّثت نفسي فيها بغيرها.
قال الزهري رحمه الله: رحم الله سعدًا إن كان لمأمونًا على هذا ما ظننت أن يكون هذا إلا في نبي انتهى.

وجواب الشرط قوله: ( غفر له) بضم الغين مبنيًّا للمفعول، وفي رواية ابن عساكر غفر الله له ( ما تقدم من ذنبه) من الصغائر دون الكبائر كما في مسلم من التصريح به، فالمطلق يحمل على المقيد، وزاد ابن أو شيبة: وما تأخر، ويأتي لفظه في باب المضمضة بعون الله تعالى.




[ قــ :157 ... غــ : 160 ]
- وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عَنْ حُمْرَانَ، فَلَمَّا تَوَضَّأَ عُثْمَانُ قَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا لَوْلاَ آيَةٌ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ؟ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لاَ يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّي الصَّلاَةَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا».

قَالَ عُرْوَةُ: الآيَةُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}.
[البقرة: 159] .

( وعن إبراهيم) بن سعد السابق أوّل الباب وهو معطوف على قوله حدّثني إبراهيم بن سعد ( قال: قال صالح بن كيسان) بفتح الكاف وسكون المثناة التحتية ( قال: ابن شهاب) الزهري.

( ولكن عروة) بن الزبير بن العوّام ( يحدث عن حمران) هذا استدراك من ابن شهاب، يعني أن شيخيه اختلفا في روايتهما له عن حمران عن عثمان رضي الله عنه فحدّثه عطاء على صفة وعروة على صفة، وليس ذلك اختلافًا وإنما هما حديثان متغايران، فأما صفة تحديث عطاء فتقدمت وأما صفة تحديث عروة عنه فأشار إليها بقوله: ( فلما توضأ عثمان) رضي الله عنه عطف على محذوف تقديره عن حمران أنه رأى عثمان رضي الله عنه دعا بإناء فأفرغ على كفّيه إلى أن قال: فغسل رجليه إلى الكعبين، فلما توضأ ( قال: ألا أحدّثكم) وفي رواية الأربعة لأحدّثنكم أي والله لأحدّثنكم ( حديثًا لولا آية) ولابن عساكر لولا آية ثابتة في كتاب الله تعالى ( ما حدّثتكموه) أي ما كنت حريصًا على تحديثكم به ( سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه ( يقول: لا يتوضأ) وفي رواية لا يتوضأن بنون التوكيد الثقيلة ( رجل يحسن) وفي رواية الأربعة فيحسن ( وضوءه) بأن ويأتي به كاملاً بآدابه وسننه، والفاء بمعنى ثم لأن إحسان الوضوء ليس متأخرًا عن الوضوء حتى يعطف عليه بالفاء التعقيبية، بل هي لبيان الرتبة دلالة على أن الإجادة في الوضوء أفضل وأكمل من الاقتصار فيه على الواجب، ( ويصلي الصلاة) المفروضة ( إلا) رجل ( غفر له) بضم الغين وكسر الفاء ( ما بينه وبين الصلاة) التي تليها كما في مسلم من رواية هشام بن عروة أي من الصغائر ( حتى يصليها) أي يفرغ منها، فحتى غاية يحصل المقدر في الظرف إذ الغفران لا غاية له.
وقال في الفتح: حتى يصليها أي يشرع في الصلاة الثانية.

( قال عروة الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا}.
[البقرة: 159] ولابن عساكر {مَا أَنْزَلْنَا مِنَ

البَيِّنَاتِ)
، وفي رواية "مَا أَنْزَلْنَا" الآية أي التي في سورة البقرة إلى قوله: {ويلعنهم اللاعنون} كما في مسلم.
وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب فهي تحثّ على التبليغ، ومن ثم استدلّ بها في هذا المقام لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على ما عرف في محله، ثم إن ظاهر الحديث يقتضي أن المغفرة لا تحصل بما ذكر من إحسان الوضوء بل حتى تنضاف إليه الصلاة.

قال ابن دقيق العيد: الثواب الموعود به يترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور، وصلاة الركعتين بعده به والمترتب على مجموع أمرين لا يترتب على أحدهما إلا بدليل خارج، وقد أدخل قوم هذا الحديث في فضل الوضوء وعليهم في ذلك هذا السؤال.
ويجاب بأن كون الشيء جزءًا فيما يترتب عليه الثواب العظيم كافٍ في كونه ذا فضل فيحصل المقصود من كون الحديث دليلاً على فضيلة الوضوء، ويظهر بذلك الفرق بين حصول الثواب المخصوص وحصول مطلق الثواب، فالثواب المخصوص يترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور والصلاة الموصوفة، وفضيلة الوضوء قد تحصل بما دون ذلك انتهى.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح "إذا توضأ العبد خرجت خطاياه" الحديث.

وفيه أن الخطايا تخرج مع آخر الوضوء حتى يفرغ من الوضوء نقيًّا من الذنوب وليس فيه ذكر الصلاة.
وأجيب: بأن يحمل حديث أبي هريرة عليها لكن يبعده أن في رواية لمسلم من حديث عثمان رضي الله عنه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة.
وأجيب باحتمال أن يكون ذلك باختلاف الأشخاص، فربَّ متوضئ يحضره من الخشوع ما يستقل وضوءه بالتفكير وآخر عند تمام الصلاة، والله تعالى أعلم.