فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب مسح الرأس كله

باب مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا.

وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ؟ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْد.

( باب مسح الرأس كله) في الوضوء، وفي رواية المستملي الاقتصار على مسح الرأس وإسقاط لفظ كله ( لقول الله تعالى) وفي رواية ابن عساكر سبحانه وتعالى، وفي رواية الأصيلي عز وجل: ( { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ) [المائدة: 6] أي امسحوا رؤوسكم كلها فالباء زائدة عند المؤلف كمالك ( وقال ابن المسيب) سعيد: ( المرأة بمنزلة الرجل تمسح على رأسها) وهذا وصله ابن أبي شيبة ولفظه: المرأة والرجل في المسح سواء، وعن أحمد يكفي المرأة مسح مقدم رأسها.

( وسئل مالك) الإمام الأعظم والسائل له إسحاق بن عيسى بن الطباع ( أيجزئ) بضم المثناة التحتية من الإجزاء وهو الأداء الكافي لسقوط التعبد به وبفتح الياء من جزى ويجزي أي كفى والهمزة فيه للاستفهام ( أن يمسح بعض) وفي رواية ابن عساكر ببعض ( الرأس) وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي رأسه؟ ( فاحتج) أي مالك على أنه لا يجزي ( بحديث عبد الله بن زيد) هذا الآتي إن شاء الله تعالى.



[ قــ :182 ... غــ : 185 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ -وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى- أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ.
فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.
[الحديث 185 - أطرافه في: 186، 191، 192، 197، 199] .


وبالسند قال: ( حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي ( قال: أخبرنا) وفي رواية الأصيلي حدّثنا ( مالك) إمام الأئمة ( عن عمرو بن يحيى) بن عمارة بضم العين وتخفيف الميم ( المازني عن أبيه) يحيى بن عمارة بن أبي حسن.

( أن رجلاً) هو عمرو بن أبي حسن كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث الآتي من طريق وهيب ( قال لعبد الله بن زيد) الأنصاري ( وهو) أي الرجل المفسر بعمرو بن أبي حسن ( جد عمرو بن يحيى) المازني المذكور مجازًا لا حقيقة لأنه عمّ أبيه، وإنما أطلق عليه الجدودة لكونه في منزلته: ( أتستطيع أن تريني) أي هل تستطيع الإراءة إياي ( كيف كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوضأ) كأنه أراد أن يريه بالفعل ليكون أبلغ في التعليم ( فقال عبد الله بن زيد) أي الأنصاري ( نعم) أستطيع أن أريك ( فدعا بماء) عقب قوله ذلك ( فأفرغ) أي صبّ من الماء ( على يديه) بالتثنية، وفي رواية الأربعة على يده بالإفراد على إرادة الجنس ( فغسل مرتين) وفي رواية الأربعة فغسل يديه مرتين كذا في رواية مالك وعند غيره من الحفاظ ثلاثًا فهي مقدمة على رواية الحافظ الواحد لا يقال أنهما واقعتان لاتحاد مخرجهما، والأصل عدم التعدد، لأن في رواية مسلم من طريق حبّان بن واسع عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ وفيه وغسل يده اليمنى ثلاثًا ثم الأخرى ثلاثًا، فيحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديثين غير متحد، ( ثم مضمض واستنثر ثلاثًا) أي بثلاث غرفات كما في رواية وهيب، وللكشميهني واستنشق ثلاثًا.
والرواية الأولى تستلزم الثانية من غير عكس قاله ابن حجر، وعورض بأن ابن الأعرابي وابن قتيبة جعلاهما واحدًا وقد مرّ في المضمضة والاستنشاق.
( ثم غسل وجهه ثلاثًا ثم غسل يديه مرتين مرتين) بالتكرار ( إلى) أي مع ( المرفقين) بالتثنية مع فتح الميم وكسر الفاء، وفي رواية الأصيلي بكسر الميم وفتح الفاء، وفي رواية المستملي والحموي إلى الرفق بالإفراد على إرادة الجنس وهو مفصل الذراع والعضد وسمي به لأنه يرتفق به في الاتكاء ويدخل في غسل اليدين خلافًا لزفر لأن إلى في قوله تعالى: { إلى المرفقين} بمعنى مع كالحديث كقوله تعالى: { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] أو متعلقة بمحذوف تقديره مضافة إلى المرافق.
قال البيضاوي: ولو كان كذلك لم يبق معنى للتحديد ولا لذكره مزيد فائدة لأن مطلق اليد يشتمل عليها.
وقيل: ( إلى) تفيد الغاية مطلقًا وأما بدخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وإنما يعلم من خارج، ولم يكن في الآية وكأن الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطًا.
وقيل: ( إلى) من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها وإلا لم تكن غاية كقوله: { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} وقوله: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] لكن لما لم تتميز الغاية هاهنا من ذي الغاية وجب دخولها احتياطًا اهـ.

ووقف زفر مع المتيقن.
وقال إسحاق بن راهويه: يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وبمعنى مع فبينت السُنّة أنها بمعنى مع.
وقال الإمام الشافعي في الأُم: لا أعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، قال ابن حجر: فعلى هذا فزفر محجوج بالإجماع.


( ثم مسح رأسه) زاد ابن الطباع في روايته كله كما في حديثه الروي عند ابن خزيمة في صحيحه ( بيديه) بالتثنية ( فأقبل بهما وأدبر) بهما ولمسلم مسح رأسه كله وما أقبل وما أدبر وصدغيه ( بدأ بمقدم رأسه) بفتح الدال المشددة من بمقدم بأن وضع يديه عليه وألصق مسبحته بالأخرى وإبهاميه على صدغيه ( حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردّهما إلى المكان الذي بدأ منه) ليستوعب جهتي الشعر بالمسح، وعلى هذا يختص ذلك بمن له شعر ينقلب وإلاّ فلا حاجة إلى الرد، فلو ردّ لم يحسب ثانية لأن الماء صار مستعملاً.
وهذا التعليل يقتضي أنه لو ردّ ماء المرة الثانية حسب ثالثة بناء على الأصح من أن المستعمل في النفل طهور إلا أن يقال السنّة كون كل مرة بماء جديد، والجملة من قوله بدأ عطف بيان لقوله فأقبل بهما وأدبر، ومن ثم لم تدخل الواو على قوله بدأ، والظاهر أنه ليس مدرجًا من كلام مالك بل هو من الحديث، ولا يقال هو بيان للمسح الواجب كما قال به مالك وابن علية وأحمد في رواية وأصحاب مالك غير أشهب فبيانه واجب لأنه يلزم منه وجوب الرد إلى المكان الذي بدأ منه، ولا قائل بوجوبه.
ويلزم أن يكون تثليث الغسل وتثنيته واجبين لأنهما بيان أيضًا، فالحديث ورد في الكمال ولا نزاع فيه بدليل أن الإقبال والإدبار لم يذكرا في غير هذا الحديث، وقد وقع في رواية خالد بن عبد الله الآتية قريبًا في باب من تمضمض واستنشق من غرفة واحدة ومسح برأسه ما أقبل وما أدبر كآية المائدة بالباء، واختلف فيها فقيل: زائدة للتعدية وتمسك به من أوجب الاستيعاب، وقيل للتبعيض.
وعورض بأن بعض أهل العربية أنكر كونها للتبعيض.
قال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء عن أهل اللغة بما لا يعرفونه.
وأجيب: بأن ابن هشام نقل التبعيض عن الأصمعي والفارسي والقتيبي وابن مالك والكوفيين وجعلوا منه { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] انتهى.

وقال بعضهم: الحكم في الآية مجمل في حق المقدار فقط لأن الباء للإلصاق باعتبار أصل الوضع، فإذا قرنت بآلة المسح يتعدى الفعل بها إلى محل المسح فيتناول جميعه كما تقول: مسحت الحائط بيدي ومسحت رأس اليتيم بيدي فيتناول مسح الحائط كله، وإذا قرنت بمحل المسح يتعدى الفعل بها إلى الآلة فلا تقتضي الاستيعاب، وإنما تقتضي التصاق الآلة بالمحل وذلك لا يستوعب الكل عادة فمعنى التبعيض إنما ثبت بهذا الطريق.
وقال الشافعي احتمل قوله: { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جميع الرأس أو بعضه، فدلّت السُّنّة أن بعضه يجزئ.
وروى الشافعي أيضًا من حديث عطاء أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ فحسر العمامة عن رأسه قال ابن حجر: وهو مرسل لكنه اعتضد من وجه آخر موصولاً أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل لا يعرف حاله فقد اعتضد كلٌّ من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة، وهذا مثال لا ذكره الشافعي من أن الرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند، وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس قاله ابن المنذر وغيره ولم يصح من أحد من الصحابة إنكار ذلك قاله ابن جزم، وهذا كله مما يقوى به المرسل انتهى.


وقد روى مسلم من حديث المغيرة بن شعبة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة، فلو
وجب الكل لما اقتصر علي الناصية، وأما استدلال الحنفية على إيجاب مسح الربع بمسحه عليه الصلاة والسلام بالناصية وأنه بيان للإجمال في الآية لأن الناصية ربع الرأس.
فأجيب عنه بأنه لا يكون بيانًا إلا إذا كان أوّل مسحه كذلك بعد الآية، وبأن قوله بناصيته يحتمل بعضها كما سبق نظيره في برؤوسكم، وقد ثبت وجوب أصل المسح فجاحده كافر لأنه قطعي واختلف في مقداره فجاحده لا يكفّر لأنه ظني.

( ثم غسل رجليه) أطلق الغسل فيهما ولم يذكر فيه تثليثًا ولا تثنية كما سبق في بعض الأعضاء إشعارًا بأن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة وبعضه بمرتين وبعضه بثلاث، وإن كان الأكمل التثليث في الكل ففعله بيانًا للجواز والبيان بالفعل أوقع في النفوس منه بالقول وأبعد من التأويل.
ورواة هذا الحديث الستة كلهم مدنيون إلا شيخ البخاري وقد دخلها، وفيه رواية الابن عن الأب والتحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف في الطهارة ومسلم فيها والترمذي مختصرًا والنسائي وابن ماجة.