فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن

باب لاَ يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ
هذا ( باب) بالتنوين ( لا يتوضأ) بفتح أوّله، وفي رواية ابن عساكر باب من لا يتوضأ ( من الشك) أي لأجله كقوله: وذلك من نبأ جاءني.
والشك عند الفقهاء هو التردّد على السواء ( حتى يستيقن) .


[ قــ :136 ... غــ : 137 ]
- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّىْءَ فِي الصَّلاَةِ.
فَقَالَ: «لاَ يَنْفَتِلْ -أَوْ لاَ يَنْصَرِفْ- حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
[الحديث 137 - طرفاه في: 177، 2056] .


وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا عليّ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابن عبد الله المديني ( قال: حدّثنا سفيان) بن عيينة
( قال: حدّثنا الزهري) محمد بن مسلم ( عن سعيد بن المسيب) بفتح الياء ( وعن عباد بن تميم) بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة ابن يزيد الأنصاري المدني عدّه الذهبي في الصحابة وغيره في التابعين، ووقع في رواية كريمة سقوط واو العطف من قوله وعن عباد وهو خطأ لأنه لا رواية لسعيد بن المسيب عن عباد أصلاً، وحينئذ فالعطف على قوله عن سعيد بن السيب هو الصحيح لأن الزهري يروي عن سعيد وعباد وكلاهما ( عن عمه) عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني قتل في ذي الحجة بالحرّة في آخر سنة ثلاث وستين، له في البخارى تسعة أحاديث.

( أنه شكا) بالألف أي عبد الله بن زيد كما صرّح به ابن خزيمة ( إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرجل) بالنصب على المفعولية، وفي رواية أنه شكي بضم أوّله مبنيًّا للمفعول موافقة لمسلم كما ضبطه النووي رحمه الله تعالى الرجل بالضم، قال في التنقيح: وعلى هذين الوجهين أي في شكا يجوز في الرجل الرفع والنصب، وتعقبه البدر الدماميني بأن الوجهين محتملان على الأوّل وحده، وذلك أن ضمير أنه يحتمل أن يكون ضمير الشأن، وشكا الرجل فعل وفاعل مفسر للشأن، ويحتمل أن يعود إلى الراوي وشكا مسند إلى ضمير يعود إليه أيضًا والرجل مفعول به ( الذي يخيل إليه) بضم المثناة التحتية وفتح المعجمة مبنيًّا لما لم يسمّ فاعله أي يشبه له ( أنّه يجد الشيء) أي الحدث خارجًا من دبره وهو ( في الصلاة، فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( لا ينفتل أو لا ينصرف) بالجزم فيهما على النهي وبالرفع على النفي، والشك من الراوي وكأنه من شيخ المؤلف عليّ ( حتى) أي إلى أن ( يسمع صوتًا) من دبره ( أو يجد ريحًا) منه، والمراد تحقق وجودهما حتى أنه لو كان أخشم لا يشم أو أصم لا يسمع كان الحكم كذلك وذكرهما ليس لقصر الحكم عليهما، فكل حدث كذلك إلا أنه وقع جوابًا لسؤال، والمعنى إذا كان أوسع من الاسم أن الحكم للمعنى، وهذا كحديث إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه إذ لم يرد تخصيص الاستهلال دون غيره من أمارات الحياة كالحركة والنبض ونحوهما، وهذا الحديث فيه قاعدة لكثير من الأحكام وهي استصحاب اليقين وطرح الشك الطارئ، والعلماء متفقون على ذلك فمن تيقن الطهارة وشك في الحدث عمل بيقين الطهارة أو تيقن الحدث وشك في الطهارة عمل بيقين الحدث فلو تيقنهما وجهل السابق منهما كما لو تيقن بعد طلوع الشمس حدثًا وطهارة ولم يعلم السابق فأوجه، أصحها إسناد الوهم لما قبل الطلوع فإن كان قبله محدثًا فهو الآن متطهر لأنه تيقن أن الحدث السابق ارتفع بالطهارة اللاحقة وشك هل ارتفع أم لا؟ والأصل بقاؤه وإن كان قبله متطهرًا نظر.
إن كان ممن يعتاد تجديد الوضوء فهو الآن محدث لأن الغالب أنه بنى وضوءه على الأوّل فيكون الحدث بعده، وإن لم يعتد فهو الآن متطهر لأن طهارته بعد الحدث وإن لم يتذكر ما قبلهما توضأ للتعارض، واختار في المجموع لزوم الوضوء بكل حال احتياطًا.

وذكر في شرح المهذب والوسيط أن الجمهور أطلقوا المسألة وأن المقيد لها المتولي والرافعيّ مع أنه نقله في أصل الروضة عن الأكثرين.
قال في المهمات: وعليه الفتوى وقد أخذ بهذه القاعدة وهي العمل بالأصل جمهور العلماء خلافًا لمالك حيث روي عنه النقض مطلقًا أو خارج الصلاة دون داخلها.
وروي هذا التفصيل عن الحسن البصري والأول مشهور مذهب مالك قاله القرطبي وهو رواية ابن القاسم عنه، وروى ابن نافع عنه لا وضوء عليه مطلقًا كقول الجمهور، وروى ابن وهب عنه أحبّ إليّ أن يتوضأ ورواية التفصيل لم تثبت عنه وإنما هي لأصحابه.
وقال القرافيّ: ما ذهب إليه مالك أرجح لأنه احتاط للصلاة وهي مقصد وألغى الشك في السبب المبرئ وغيره احتياط
للطهارة وهي وسيلة وألغى الشك في الحدث الناقض لها والاحتياط للمقاصد أولى من الاحتياط للوسائل.
وجوابه: أن ذلك من حيث النظر أقوى لكنه مغاير لمدلول الحديث لأنه أمر بعدم الانصراف إلا أن يتحقق، والله سبحانه أعلم بالصواب.


باب التَّخْفِيفِ فِي الْوُضُوءِ
هذا ( باب) جواز ( التخفيف في الوُضوء) .



[ قــ :136 ... غــ : 138 ]
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ صَلَّى -وَرُبَّمَا قَالَ اضْطَجَعَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى.
ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا - يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ- وَقَامَ يُصَلِّي، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ- فَحَوَّلَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ.
ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِي فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قُلْنَا لِعَمْرٍو: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ.
قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات: 10] .


وبالسند إلى المؤلف قال: ( حدّثنا) بالجمع وفي رواية الكشميهني حدّثني ( علّي بن عبد الله) المديني ( قال: حدّثنا سفيان) بن عيينة ( عن عمرو) أي ابن دينار أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( كريب) بضم الكاف وفتح الراء وسكون المثناة التحتية آخره موحدة ابن أبي مسلم القرشي مولى عبد الله بن عباس المكنّى بأبي رشدين بكسر الراء وسكون المعجمة وكسر المهملة وسكون المثناة التحتية آخره نون، المتوفى بالمدينة سنة ثمان وتسعين ( عن ابن عباس) رضي الله عنهما:
( أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نام) مضطجعًا ( حتى) أي إلى أن ( نفخ ثم صلى) وفي رواية ابن عساكر بإسقاط ثم صلى ( وربما قال) سفيان ( اضطجع) عليه الصلاة والسلام ( حتى) أي إلى أن ( نفخ ثم قام فصلى) أي قالها بدون قوله نام وبزيادة قام قال علي بن المديني ( ثم حدّثنا به سفيان) بن عيينة تحديثًا ( مرة بعد مرة) أي كان يحدّثهم تارة مختصرًا وتارة مطوّلاً ( عن عمرو) أي ابن دينار ( عن كريب) مولى ابن عباس ( عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه ( قال بتّ) بكسر الموحدة ( عند خالتي) أم المؤمنين ( ميمونة) بنت الحرث الهلالية ( ليلة) بالنصب على الظرفية ( فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مبتدئًا ( من الليل) وفي رواية ابن السكن فنام من النوم، وصوّبها القاضي عياض لقوله: ( فلما كان في) وفي رواية الحموي والمستملي من ( بعض الليل قام النبي) وللأربعة رسول الله ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتوضأ من شنّ) بفتح الشين المعجمة وتشديد النون أي من قربة خلقة ( معلق) بالجر صفة لشنّ على تأويله بالجلد أو الوعاء وفي رواية معلقة بالتأنيث ( وضوءًا خفيفًا) بالنصب على المصدرية في الأولى والصفة في الأخرى ( يخففه عمرو) ابن دينار بالغسل الخفيف مع الإسباغ ( ويقلله) بالاقتصار على المرة الواحدة، فالتخفيف من باب الكيف والتقليل من باب الكمّ وذلك أدنى ما تجوز به الصلاة ( وقام) عليه الصلاة والسلام ( يصلي)
وفي رواية فصلى ( فتوضأت) وضوءًا خفيفًا ( نحوًا مما توضأ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي رواية تأتي إن شاء الله تعالى فقمت فصنعت مثل ما صنع وهي تردّ على الكرماني حيث قال هنا لم يقل مثلاً لأن حقيقة مماثلته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقدر عليها أحد غيره انتهى.
ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل وجه.


( ثم جئت فقمت عن يساره وربما قال سفيان) بن عيينة ( عن شماله) وهو إدراج من ابن المديني ( فحوّلني) عليه الصلاة والسلام ( فجعلني عن يمينه ثم صلى) عليه الصلاة والسلام ( ما شاء الله ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم أتاه المنادي فآذنه) بالمد أي أعلمه وفي رواية يؤذنه بلفظ المضارع من غير فاء وللمستملي فناداه ( بالصلاة فقام) المنادي ( معه) عليه السلام ( إلى الصلاة فصلى) عليه السلام ( ولم يتوضأ) من النوم.
قال سفيان بن عيينة: ( قلنا لعمرو) أي ابن دينار ( إن ناسًا يقولون: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تنام عينه ولا ينام قلبه) ليعي الوحي إذا أُوحي إليه في المنام ( قال عمرو) المذكور ( سمعت عبيد بن عمير) بالتصغير فيهما ابن قتادة الليثي الكي التابعي ( يقول: رؤيا الأنبياء وحي) رواه مسلم مرفوعًا، ( ثم قرأ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 10] واستدلاله بهذه الآية من جهة أن الرؤيا لو لم تكن وحيًا لما جاز لإبراهيم عليه السلام الإقدام على ذبح ولده.