فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه

كتاب الحرث والمزارعة
( بسم الله الرحمن الرحيم) .
( كتاب الحرث) أي الزرع ( والمزارعة) وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها ويكون البذر من مالكها فإن كان من العامل فهي مخابرة وهما إن أفردتا عن المساقاة باطلتان للنهي عن المزارعة في مسلم وعن المخابرة في الصحيحين، ولأن تحصيل منفعة الأرض ممكنة بالإجارة فلم يجز العمل عليها ببعض ما يخرج منها كالمواشي بخلاف الشجر فإنه لا يمكن عقد الإجارة عليها فجوّزت المساقاة، واختار في الروضة تبعًا لابن المنذر وابن خزيمة والخطابي صحتهما وحمل أخبار النهي على ما إذا شرط لأحدهما زرع قطعة معينة وللآخر أخرى وعلى الأوّل فيشترط تقديم المساقاة على المزارعة بأن يقول: ساقيتك وزارعتك، فلو قال: زارعتك وساقيتك أو فصل بينهما لم يصح لانتفاء التبعية فإن خابره تبعًا لم يصح كما لو أفردها وفارقت المزارعة بأن المزارعة أشبه بالمساقاة وورد الخبر بصحتها بخلاف المخابرة.


باب فَضْلِ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ.
وَقَوْلِهِ الله: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 63 - 65]
( باب فضل الزرع والغرس) قال في القاموس: زرع كمنع طرح البذر كازدرع وأصله ازترع أبدلوها دالاً لتوافق الزاي والله أنبت وغرس الشجر أثبته في الأرض كأغرسه والغرس المغروس ( إذا كل منه) قيد في فضيلة كل منهما ولأبي ذر كتاب الحرث بفح الحاء وسكون الراء المهملتين آخره مثلثة وله عن الحموي في الحرث وإسقاط كتاب، وله أيضًا عن الكشميهني كتاب المزارعة مع تأخير البسملة فيها وسقط له قوله ما جاء في الحرث والمزارعة، وقوله باب وما بعده ثابت عنده وحينئذٍ

فيكون قوله فضل الزرع مرفوعًا على ما لا يخفى، وهذا ما في الفرع وأصله وفي فتح الباري، عن النسفيّ كالكشميهني باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه بسم الله الرحمن الرحيم.
وزاد النسفيّ فقال: باب ما جاء في الحرث والمزارعة وفضل الزرع، ومثله للأصيلي وكريمة إلا أنهما حذفا لفظ كتاب المزارعة، وللمستملي: كتاب الحرث، وقدم الحموي البسملة وقال في الحرث بدل كتاب الحرث.

( وقوله تعالى) بالجرّ عطفًا على السابق، ولأبي ذر وقول الله تعالى بالرفع على الاستئناف: ( { أفرأيتم ما تحرثون} ) تبذرون حبه ( { أأنتم تزرعونه} ) تنبتونه ( { أم نحن الزارعون} ) المنبتون ( { لو نشاء لجعلناه حطامًا} ) [الواقعة: 16] هشيمًا وإنما نسب سبحانه وتعالى الحرث إلينا والزرع إليه جلّ جلاله، وإن كانت الأفعال كلها له سبحانه حرثًا وبذرًا وغير ذلك لأن المراد بالزرع هنا الإنبات لا البذر وذلك خصائص القدرة القديمة، ووجه الاستدلال بهذه الآية على إباحة الحرث أن الله تعالى امتنّ علينا بإنبات ما نحرثه فدلّ على أن الحرث جائز إذ لا يمتنّ بممنوع.


[ قــ :2223 ... غــ : 2320 ]
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ح.

وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ».
وقال لنا مسلمٌ حدثنا أبانُ حدثنا قتادة حدثنا أنسٌ عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
[الحديث 2320 - طرفه في: 6012] .

وبه قال: ( حدّثنا قتيبة بن سعيد) قال: ( حدّثنا أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري ( ح) مهملة وينطق بها كذلك علامة لتحويل السند قال المؤلّف بالسند:
( وحدّثني عبد الرحمن بن المبارك) بن عبد الله العيشي بعين مهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فشين معجمة منسوب إلى بني عائش قال: ( حدّثنا أبو عوانة عن قتادة) بن دعامة ( عن أنس) ولأبي ذر: أنس بن مالك ( -رضي الله عنه-) أنه ( قال: قال رسول الله) ولأبي ذر: النبي ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( ما من مسلم يغرس غرسًا) بمعنى المغروس أي شجرًا ( أو يزرع زرعًا) مزروعًا وأو للتنويع لأن الزرع غير الغرس ( فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة) بالرفع اسم كان والتعبير بالمسلم يخرج الكافر فيختص الثواب في الآخرة بالمسلم دون الكافر لأن القرب إنما تصح من المسلم فإن تصدق الكافر أو فعل شيئًا من وجوه البر لم يكن له أجر في الآخرة.
نعم ما أكل من زرع الكافر يثاب عليه في الدنيا كما ثبت دليله، وأما من قال يخفف عنه بذلك من عذاب الآخرة فيحتاج إلى دليل.


وفي حديث عائشة عند مسلم قلت: يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه إن لم يقل يومًا ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين" يعني لم يكن مصدقًا بالبعث ومن لم يصدق به كافر ولا ينفعه عمل.
ونقل عياض الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذابًا من بعضهم بحسب جرائمهم.

وأما حديث أبي أيوب الأنصاري عند أحمد مرفوعًا: ما من رجل يغرس غرسًا وحديث ما من عبد فظاهرهما يتناول المسلم والكافر لكن يحمل المطلق على المقيد والمراد بالمسلم الجنس فتدخل المرأة المسلمة.

( وقال لنا مسلم) هو ابن إبراهيم الفراهيدي البصري قال العيني كابن حجر: كذا بإثبات لنا للأصيلي وكريمة وأبي ذر وفي رواية النسفيّ وآخرين وقال مسلم بدون لفظة لنا ( حدّثنا أبان) ابن يزيد العطار قال: ( حدّثنا قتادة) بن دعامة قال: ( حدّثنا أنس) -رضي الله عنه- ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لم يسق متن هذا السند لأن غرضه منه التصريح بالتحديث من قتادة عن أنس، وقد أخرجه مسلم عن عبد بن حميد عن مسلم بن إبراهيم المذكور بلفظ: أن نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى نخلاً لأم مبشر امرأة من الأنصار فقال: "من غرس هذا النخل أمسلم أم كافر"؟ قالوا: مسلم بنحو حديثهم كذا عند مسلم فأحال به على ما قبله، وقد بيّنه أبو نعيم في المستخرج من وجه آخر عن مسلم بن إبراهيم، وباقيه: لا يغرس مسلم غرسًا فيأكل منه إنسان أو طير أو دابّة إلا كان له صدقة، وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طرق عن جابر قال في بعضها فيأكل منه سبع أو طائر أو شيء إلا كان له فيه أجر، وفي أخرى: فيأكل منه إنسان ولا دابّة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة.
ومقتضاه أن ثواب ذلك مستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولاً منه ولو مات غارسه أو زارعه ولو انتقل ملكه إلى غيره.

قال ابن العربي: في سعة كرم الله أن يثيب على ما بعد الحياة كما كان يثيب ذلك في الحياة وذلك في ستة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو غرس، أو زرع، أو رباط فللمرابط ثواب عمله إلى يوم القيامة انتهى.

ونقل الطيبي عن محيي السُّنّة أنه روى أن رجلاً مرّ بأبي الدرداء وهو يغرس جوزة فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير وهذه لا تطعم إلا في كذا وكذا عامًا.
قال: ما عليّ أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري.
قال: وذكر أبو الوفاء البغدادي أنه مرّ أنو شروان على رجل يغرس شجر الزيتون فقال له: ليس هذا أوان غرسك الزيتون وهو شجر بطيء الأثمار، فأجابه غرس من قبلنا فأكلنا ونغرس ليأكل من بعدنا.
فقال أنو شروان: زه أي أحسنت، وكان إذا قال زه يعطي من قيلت له أربعة آلاف درهم فقال: أيها الملك كيف تعجب من شجري وإبطاء ثمره فما أسرع ما أثمر.
فقال: زه فزيد أربعة آلاف درهم أخرى.
فقال: كل شجر يثمر في العام مرة وقد أثمرت شجرتي في ساعة

مرتين.
فقال: زه فزيد مثلها فمضى أنو شروان فقال: إن وقفنا عليه لم يكفه ما في خزائننا.

ثم إن حصول هذه الصدقة المذكورة يتناول حتى من غرسه لعياله أو لنفقته لأن الإنسان يُثاب على ما سرق له وإن لم ينوِ ثوابه ولا يختصّ حصول ذلك بمن يباشر الغراس أو الزراعة بل يتناول من استأجر لعمل ذلك والصدقة حاصلة حتى فيما عجز عن جمعه كالسنبل المعجوز عنه بالحصيدة فيأكل منه حيوان فإنه مندرج تحت مدلول الحديث.

واستدلّ به على أن الزراعة أفضل المكاسب وقال به كثيرون، وقيل الكسب باليد، وقيل التجارة، وقد يقال كسب اليد أفضل من حيث الحلّ والزرع من حيث عموم الانتفاع، وحينئذٍ فينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الحال فحيث احتيج إلى الأقوات أكثر تكون الزراعة أفضل للتوسعة على الناس، وحيث احتيج إلى المتجر لانقطاع الطرق تكون التجارة أفضل، وحيث احتيج إلى الصنائع تكون أفضل والله أعلم.

وهذا الحديث أخرجه المصنف أيضًا في الأدب والترمذي في الأحكام.