فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ما جاء في البينة على المدعي

كتاب الشهادات
( بسم الله الرحمن الرحيم) .
جمع شهادة وهي كما في القاموس خبر قاطع وقد شهد كعلم وكرم وقد تسكن هاؤه وشهده كسمعه شهودًا حضره فهو شاهد الجمع شهود وشهد ولزيد بكذا شهادة أدّى ما عنده من الشهادة فهو شاهد الجمع شهد بالفتح وجمع الجمع شهود وأشهاد واستشهده سأله أن يشهد له والشهيد وتكسر شينه الشاهد والأمين في شهادته انتهى.
والفرق بين الشهادة والرواية مع أنهما خبر إن كما في شرح البرهان للمازري أن المخبر عنه في الرواية أمر عام لا يختص بمعين نحو الأعمال بالنيات والشفعة فيما لم يقسم فإنه لا يختص بمعين بل عام في كل الخلق والأعصار والأمصار بخلاف قول العدل لهذا عند هذا دينار فإنه إلزام لمعين لا يتعداه، وتعقبه الإمام ابن عرفة بأن الرواية تتعلق بالجزئي كثيرًا كحديث: يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة انتهى.
وقد تكون مركبة من الرواية والشهادة كالإخبار عن رؤية هلال رمضان فإنه من جهة أن الصوم لا يختص بشخص معين بل عام على من دون مسافة القصر رواية، ومن جهة أنه مختص بأهل المسافة ولهذا العام شهادة قاله: الكرماني.
وقد ثبتت البسملة قبل كتاب في الفرع ونسب ذلك فى الفتح لرواية النسفيّ وابن شبويه وفي بعض النسخ سقوطها.


باب مَا جَاءَ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَنْ لاَ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ لاَ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] وَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .
( باب ما جاء في البينة على المدعي) بكسر العين ( لقوله) زاد أبو ذر تعالى ولأبي ذر أيضًا عز وجل ( { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} ) أي إذا داين بعضكم بعضًا تقول داينته إذا عاملته نسيئة معطيًا أو آخذًا ( { إلى أجل مسمى} ) معلوم بالأيام والأشهر لا بالحصاد وقدوم الحاج ( { فاكتبوه} ) قال ابن كثير: هذا إرشاد من الله تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد، ويقال مما ذكره السمرقندي مَن ادّان دينًا وا يكتب فإذا نسي دينه ويدعو الله تعالى بأن يظهره يقول الله تعالى: أمرتك بالكتابة فعصيت أمري، والجمهور على أن الأمر هنا للاستحباب ( { وليكتب بينكم كاتب بالعدل} ) أي بالقسط من غير زيادة ولا نقصان ( { ولا يأب كاتب} ) ولا يمتنع أحد من الكتاب ( { أن يكتب كما علمه الله} ) مثل ما علمه الله من كتب الوثائق ما لم يكن يعلم ( { فليكتب} ) نلك الكتابة المعلمة ( { وليملل الذي عليه الحق} ) وليكن المملل من عليه الحق لأنه المقرّ المشهود عليه ( { وليتق الله ربه} ) أي المملي أو الكاتب ( { ولا يبخس} ) ولا ينقص ( { منه شيئًا} ) أي من الحق أو الكاتب لا ينجس مما أمل عليه ( { فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا} ) ناقص العقل مبذرًّا ( { أو ضعيفًا} ) صبيًّا أو ضعيفًا مختلاًّ ( { أو لا يستطيع أن يمل هو} ) أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لخرس أو جهل باللغة ( { فليملل وليه بالعدل} ) أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبيًّا أو مختل عقل أو وكيل أو مترجم إن كان غير مستطيع وهو دليل جريان النيابة في الإقرار ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل ( { واستشهدوا} ) على حقكم ( { شهيدين من رجالكم} ) المسلمين الأحرار البالغين وقال: ابن كثير أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة ( { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} ) وهو مخصوص بالأموال عندنا ومما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة ( { ممن ترضون من الشهداء} ) لعلمكم بعد التهم ( { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} ) أي لأجل أن إحداهما إن ضلّت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى وفيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن ( { ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا} ) لأداء الشهادة عند الحاكم فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت،وإلاّ فهو فرض كفاية أو التحمل وسموا شهداء تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع وما مزيدة ( { ولا تسأموا} ) ولا تملوا من كثرة مدايناتكم ( { أن تكتبوه} ) أي الدين أو الكتاب ( { صغيرًا أو كبيرًا} ) صغيرًا كان الحق أو كبيرًا أو مختصرًا كان الكتاب أو مشبعًا ( { إلى أجلها} ) أي إلى وقت حلوله الذي أقرّ به المديون ( { ذلكم} ) الذي أمرناكم به من الكتابة ( { أقسط عند الله} ) أعدل ( { وأقوم للشهادة} ) وأثبت لها وأعون على إقامتها إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة لاحتمال أنه لولا الكتابة لنسيه كما هو الواقع غالبًا ( { وأدنى أن لا ترتابوا} ) وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والمشهور ونحو ذلك ثم استثنى من الأمر بالكتابة فقال: ( { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها} ) أي إلا أن تتبايعوا يدًا بيد فلا بأس أن لا تكتبوا لبعده عن التنازع والنسيان ( { وأشهدوا إذا تبايعتم} ) هذا التبايع أو مطلقًا لأنه أحوط ( { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد} ) فيكتب هذا خلاف ما علم ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو الضرار بهما مثل أن يعجلا عن أمر مهم ويكلفا الخروج عما حدّ لهما ولا يعطي الكاتب جعله والشاهد مؤونة مجيئه حيث كانت ( { وإن تفعلوا} ) الضرار بالكاتب والشاهد ( { فإنه فسوق بكم} ) خروج عن الطاعة لاحق بكم ( { واتقوا الله} ) في مخالفة أمره ونهيه ( { ويعلمكم الله} ) أحكامه المتضمنة لمصالحكم ( { والله بكل شيء عليم} ) [البقرة: 282] عالم بحقائق الأمور ومصالحها لا يخفى عليه شيء بل علمه محيط بجميع الكائنات ولفظ رواية أبي ذر بعد قوله: ( { فاكتبوه} ) إلى قوله: ( { واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم} ) وكذا لابن شبويه، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآية كلها قاله الحافظ ابن حجر.
( وقوله تعالى) في سورة النساء ولأبوي ذر والوقت وقول الله عز وجل: ( { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط} ) مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته ( { شهداء لله} ) بالحق تقيمون شهاداتكم لوجه الله تعالى ( { ولو} ) كانت الشهادة ( { على أنفسكم} ) بأن تقرّوا عليها لأن الشهادة بيان الحق سواء كان الحق عليه أو على غيره ( { أو الوالدين والأقربين} ) ولو على أقاربكم ( { إن يكن} ) أي المشهود عليه أو كل واحد منه ومن المشهود له ( { غنيًّا أو فقيرًا} ) فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة فلا تراعوا الغني لغناه ولا الفقير لفقره ( { فالله أولى بهما} ) بالغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم تكن الشهادة لهما أو عليهما صلاحًا لما شرعها ( { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} ) لأن تعدلوا عن الحق ( { وإن تلووا} ) ألسنتكم عن شهادة الحق أو عن حكومة العدل ( { أو تعرضوا} ) عن أدائها ( { فإن الله كان بما تعملون خبيرا} ) [النساء: 135] تهديد للشاهد لكيلا يقصر في أداء الشهادة ولا يكتمها، ولأبي ذر وابن شبويه بعد قوله: { بالقسط} إلى قوله: { بما تعملون خبيرًا} .
ووجه الاستدلال بما ذكره على الترجمة كما قاله ابن المنير أن المدعي لو كان مصدقًا بلا بيّنة لم يحتج إلى الإشهاد ولا إلى كتابة الحقوق املائها فالإرشاد إلى ذلك يدل على الحاجة إليه وفي ضمن ذلك أن البينة على المدّعي، ولأن الله تعالى حين أمر الذي عليه الحق بالإملاء اقتضى تصديقه فيما أقرّ به، وإذا كان مصدّفًا فالبينة على مَن ادّعى تكذيبه، ولم يسق المؤلّف -رحمه الله- حديثًا اكتفاء بالآيتين.