فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك

باب إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ "إِذَا شِئْتُ أَخْرَجْتُكَ"
هذا ( باب) بالتنوين ( إذا اشترط) صاحب الأرض ( في) عقد ( المزارعة إذا شئت أخرجتك) .


[ قــ :2607 ... غــ : 2730 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَبُو غَسَّانَ الْكِنَانِيُّ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَمَّا فَدَعَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ.

     وَقَالَ : نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهَمَتُنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ.
فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَامَلَنَا عَلَى الأَمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُن بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ.
فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ.
فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ.
فَأَجْلاَهُمْ عُمَرُ، وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ مَالاً وَإِبِلاً وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ".

رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَحْسِبُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، اخْتَصَرَهُ.

وبه قال: ( حدّثنا أبو أحمد) غير مسمى ولا منسوب، ولأبي ذر وابن السكن عن الفربري أبو أحمد مرار بن حمويه بفتح الميم وتشديد الراء الأولى وأبوه بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم الهمداني بفتح الميم والمعجمة النهاوندي وليس له كشيخه في البخاري سوى هذا الحديث، ويقال إنه محمد بن يوسف البيكندي، ويقال إنه محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: ( حدّثنا محمد بن يحيى) بن علي ( أبو غسان) بفتح الغين المعجمة والسين المهملة المشددة ( الكناني) قال ( أخبرنا مالك) الإمام ( عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه ( قال: لما فدع) بالفاء والدال والعين المهملتين محركتين، وضبطه الكرماني كالصغاني بالغين المعجمة وتشديد الدال المهملة من الفدع وهو كسر الشيء المجوّف ( أهل خيبر) بالرفع على الفاعلية ومفعوله ( عبد الله بن عمر قام) أبوه ( عمر) -رضي الله عنه- ( خطيبًا فقال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان عامل يهود خيبر على أموالهم) أي التي كانت لهم قبل أن يفيئها الله على المسلمين ( وقال) لهم:
( نقركم) بضم النون وكسر القاف فيها ( ما أقركم الله) أي ما قدر الله أنا نترككم فإذا شئنا فأخرجناكم منها تبين أن الله قد أخرجكم ( وأن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هنالك) بخفض ماله ( فعُدِيَ عليه) بضم العين وكسر الدال المخففة أي ظلم على ماله ( من الليل) وألقوه من فوق بيت ( ففدعت) بضم الفاء الثانية وكسر الدال مبنيًّا للمفعول والنائب عن الفاعل قوله ( يداه ورجلاه) .

قال في القاموس: الفدع محركة اعوجاج الرسغ من اليد والرجل حتى ينقلب الكف أو القدم إلى إنسيها أو هو المشي على ظهر القدم أو ارتفاع أخمص القدم حتى لو وطئ الأفدع عصفورًا ما آذاه، أو هو عوج في المفاصل كأنها قد زالت عن موضعها، وأكثر ما يكون في الأرساغ خلقة أو زيغ بين القدم وبين عظم الساق، ومنه حديث ابن عمر أن يهود خيبر دفعوه من بيت ففدعت قدمه.

( وليس لنا هناك عدوّ غيرهم هم عدونا وتهمتنا) بضم الفوقية وفتح الهاء، ولأبي ذر: وتهمتنا بسكون الهاء أي الذين نتهمهم ( وقد رأيت إجلاءهم) بكسر الهمزة وسكون الجيم ممدودًا إخراجهم من أوطانهم ( فلما أجمع عمر على ذلك) أي عزم عليه ( أتاه أحد بني أبي الحقيق) بضم الحاء المهملة وفتح الأولى وسكون التحتية رؤساء اليهود ( فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا) بهمزة الاستفهام الإنكاري ( وقد أقرّنا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الواو في وقد للحال ( وعاملنا على الأموال) بفتح الميم واللام من وعاملنا ( وشرط ذلك) أي إقرارنا في أوطاننا ( لنا؟ فقال) له ( عمر: أظننت) بهمزة الاستفهام الإنكاري ( أني نسيت قول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
كيف بك إذا أخرجت)
بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول وتاء الخطاب ( من خيبر تعدو) بعين مهملة أي تجري ( بك قلوصك ليلة بعد ليلة) بفتح القاف وضم اللام والصاد المهملة بينهما واو ساكنة الناقة الصابرة على السير أو الأنثى أو الطويلة القوائم، وأشار -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى إخراجهم من خيبر فهو من أعلام النبوّة ( فقال) أحد بني أبي الحقيق: ( كانت هذه) وللحموي والمستملي كان ذلك ( هزيلة من أبي القاسم) بضم الهاء وفتح الزاي تصغير هزلة ضدّ الجد وفي اليونينية هزيلة بكسر الزاي أي لم تكن حقيقة وكذب عدوّ الله ( قال) عمر، ولأبي ذر: فقال ( كذبت يا عدوّ الله فأجلاهم عمر وأعطاهم) بعد أن أجلاهم ( قيمة ما كان لهم من الثمر) بالمثلثة وفتح الميم ( مالاً وإبلاً وعروضًا) نصب تمييزًا للقيمة ( من أقتاب وحبال وغير ذلك) والأقتاب جمع قتب وهو أكاف الجمل، وإنما ترك عمر مطالبتهم بالقصاص لأنه فادع ليلاً وهو نائم فلم يعرف عبد الله من فدعه فأشكل الأمر.

( رواه) أي الحديث ( حماد بن سلمة) فيما وصله أبو يعلى ( عن عبيد الله) مصغرًا العمري ( أحسبه عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اختصره) حماد وشك في وصله رواه الوليد بن صالح عن حماد بغير شك فيما قاله البغوي.


باب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ، وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ
(باب) بيان (الشروط في الجهاد و) بيان (المصالحة مع أهل الحروب) وفي الفرع كأصله أيضًا الحرب بفتح الحاء وسكون الراء (وكتابة الشروط) زاد أبو ذر عن المستملي مع الناس بالقول.
قال في الفتح: وهي زيادة مستغنى عنها لأنها تقدمت في ترجمة مستقلة إلا أن تحمل الأولى على الاشتراط بالقول خاصة وهذه على الاشتراط بالقول والفعل معًا انتهى.
فليتأمل مع قوله: وكتابة الشروط.

731 , 73 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ -يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ- قَالاَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ.
فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ.
فَأَلَحَّتْ.
فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ.
وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ.
ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا.
ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ.
قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ.
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ -وَكَانُوا عَبيةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ- فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ الْعُودُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ.
وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا.
وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ.
فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ.
قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا.
فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرُونَا عَنْهُ بِشَىْءٍ.
.

     وَقَالَ  ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ.
قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا.
فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَىْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى.
قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لاَ.
قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عليكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ.
قَالُوا ائْتِهِ.
فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ.
فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَىْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، فَإِنِّي وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لأَرَى أْشَوَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟
فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ.
قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ.
قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ.

     وَقَالَ  لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ.
فَقَالَ: أَىْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ.
وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ.
ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَيْنَيْهِ.
قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، فإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ.
فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَىْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِيكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ يتَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّموا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ.
وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ.
فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَذَا فُلاَنٌ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ.
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ.
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ.
فَقَالُوا: ائْتِهِ.
فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَذَا مِكْرَزٌ، وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ.
فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو.
قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ.
قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا.
فَدَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فقَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا "الرَّحْمَنُ" فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هِيَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ".
كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ".
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اكْتُبْ «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ».
ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ"، فَقَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ".
قَالَ الزُّهْرِيُّ: لِقَوْلِهِ: «لاَ يَسْأَلُونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ.
فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ -وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ- إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا.
قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ.

فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ.
قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا.
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَأَجِزْهُ لِي، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: بَلَى فَافْعَلْ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ.
قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ.
قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ.
قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى.
قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى.
قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهْوَ نَاصِرِي.
قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ.
قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ.
قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى.
قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى.
قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهْوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ.
قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لاَ.
قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ.
قَالَ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً.
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا.
قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ.
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ.
فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ: نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ.
فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا.
ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ -حَتَّى بَلَغَ- بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ.
ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهْوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ ثُمَّ جَرَّبْتُ.
فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَآهُ: لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ.
فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ.

قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ.
قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا.
فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ.
فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُنَاشِدُهُ اللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ -حَتَّى بَلَغَ- الْحَمِيَّةَ، حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 4] وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْت".

قال أبو عبد الله معرة العر: الجرب.
تزيلوا: انمازوا.
وحميت القوم: منعتهم حماية.
وأحميت الحمى: جعلته حمى لا يدخل.
وأحميت الرجل إذا أغضبته إحماء.

وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدثنا (عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدثنا عبد الرزاق) بن همام اليماني قال: (أخبرنا معمر) بفتح الميمين وسكون المهملة بينهما ابن راشد (قال: أخبرني) بالإفراد (الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (قال: أخبروني) بالإفراد أيضًا (عروة بن الزبير) بن العوام (عن المسور بن مخرمة ومروان) بن الحكم وروايتهما مرسلة لأن مروان لا صحبة له ومسورًا وإن كان له صحبة لكنه لم يحضر القصة وإنما سمعناها من جماعة من الصحابة شهدوها (يصدق كل واحد منهما) من المسور ومروان (حديث صاحبه) والجملة حالية (قالا: خرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من المدينة (زمن الحديبية) بالتخفيف يوم الاثنين لهلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة في بضع عشرة مائة فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث بسرًا
بضم الموحدة وسكون السين المهملة ابن سفيان عينًا لخبر قريش (حتى كانوا) ولأبي ذر حتى إذا كانوا (ببعض الطريق قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن خالد بن الوليد بالغميم) بفتح الغين المعجمة وكسر الميم بوزن عظيم وفي المشارق بضم الغين وفتح الميم.
قال ابن حبيب: موضع قريب من مكة بين رابغ والجحفة (في خيل لقريش) وكانوا كما عند ابن سعد مائتي فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل حال كونهم (طليعة) وهي مقدمة الجيش ولأبي ذر طليعة بالرفع (فخذوا ذات اليمين) وهي بين ظهري الحمض في طريق تخرجه على ثنية المرار بكسر الميم وتخفيف الراء مهبط الحديبية من أسفل مكة قال ابن هشام فسلك الجيش ذلك الطريق فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش وهو معنى قوله (فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش) بفتح القاف والمثناة الفوقية وسكنها في الفرع غباره الأسود (فانطلق) خالد حال كونه (يركض يضرب برجله دابته استعجالاً للسير حال كونه (نديرًا) منذرًا (لقريش) بمجيء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وسار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى إذا كان بالثنية) أي ثنية المرار بكسر الميم (التي يهبط) بضم أوّله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول أي على قريش (منها بركت به) عليه الصلاة والسلام (راحلته فقال الناس: حل حل) بفتح الحاء المهملة وسكون اللام فيهما زجر للراحلة إذا حملها على السير.

وقال الخطابي إن قلت: حل واحدة فبالسكون وإن أعدتها نوّنت الأولى وسكنت الثانية، وحكي السكون فيهما والتنوين كنظيره في بخ بخ وهو معنى قوله في القاموس حل حل منوّنتين أو حل واحدة اهـ.
لكن الرواية بالسكون فيهما.

(فألحت) بتشديد الحاء المهملة وفتح الهمزة أي تمادت في البروك فلم تبرح من مكانها (فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء) مرتين وخلأت بفتح الخاء المعجمة واللام والهمزة والقصواء بفتح القاف وسكون الصاد المهملة وفتح الواو مهموزًا ممدودًا اسم لناقته عليه الصلاة والسلام أي حزنت وتصعبت (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (ما خلأت القصواء) أي ما حزنت (وما ذاك لها بخلق) بضم الخاء المعجمة واللام أي ليس الخلاء لها بعادة كما حسبتم (ولكن حبسها) أي القصواء (حابس الفيل) زاد ابن إسحاق عن مكة أي حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن مكة لأنهم لو دخلوا مكة على تلك الهيئة وصدّهم قريش عن ذلك لوقع بينهم ما يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال لكن سبق في العلم القديم أنه يدخل في الإسلام منهم جماعات.

(ثم قال) عليه الصلاة والسلام (والذي نفسي بيده لا يسألوني) أي قريش ولأبي ذر لا يسألونني بنونين على الأصل (خطة) بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة أي خصلة (يعظمون فيها حرمات الله) يكفون بسببها عن القتال في الحرم تعظيمًا له (إلا أعطيتهم إياها) أي أجبتهم إليها وإن كان في ذلك تحمل مشقة (ثم زجرها) أي زجر عليه الصلاة والسلام الناقة (فوثبت) بالمثلثة وآخره مثناة أي
قامت (قال فعدل) عليه الصلاة والسلام (عنهم) وفي رواية ابن سعد فولى راجعًا (حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد) بفتح الثاء والميم آخره دال مهملة (قليل الماء) قال في القاموس: الثمد ويحرك وككتاب الماء القليل لا مادة له أو ما يبقى في الجلد أو ما يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف اهـ.

وقوله قليل الماء قيل تأكيد لدفع توهم أن يراد لغة من يقول إن الثمد الماء الكثير وعورض بأنه إنما يتوجه أن لو ثبت في اللغة أن الثمد الماء الكثير، واعترض في المصابيح قوله تأكيد بأنه لو اقتصر على قليل أمكن أما مع إضافته إلى الماء فيشكل وذلك لأنك لا تقول هذا ماء قليل الماء.
نعم قال الداودي: الثمد العين وقال غيره: حفرة فيها ماء فإن صح فلا إشكال.

(يتبرضه) بالموحدة المفتوحة بعد المثناتين التحتية والفوقية فراء مشددة فضاد معجمة أي يأخذه (الناس تبرضًا) نصب على أنه مفعول مطلق من باب التفعل للتكلف أي قليلاً قليلاً وقال صاحب العين التبرض جمع الماء بالكفّين (فلم يلبثه) بضم أوله وفتح اللام وتشديد الموحدة وسكون المثلثة في الفرع وأصله وغيرهما مصححًا عليه، ونسبه في الفتح وتبعه في العمدة لقول ابن التين، وضبطناه بسكون اللام مضارع ألبث أي لم يتركوه يلبث أي يقيم (الناس حتى نزحوه) لم يبقوا منه شيئًا يقال نزحت البئر على صيغة واحدة في التعدي واللزوم.

(وشكي) بضم أوله مبنيًّا للمفعول (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العطش) بالرفع نائبًا عن الفاعل (فانتزع سهمًا من كنانته) بكسر الكاف جعبته التي فيها النبل (ثم أمرهم أن يجعلوه) أي السهم (فيه) في الثمد، وروى ابن سعد من طريق أبي مروان حدّثني أربعة عشر رجلاً من الصحابة أن الذي نزل البئر ناجية بن الأعجم، وقيل هو ناجية بن جندب، وقيل البراء بن عازب، وقيل عباد بن خالد حكاه عن الواقدي، ووقع في الاستيعاب خالد بن عبادة قاله في المقدمة.
وقال في الفتح: ويمكن الجمع بأنهم تعاونوا على ذلك بالحفر وغيره (فوالله ما زال يجيش) بفتح أوله وكسر الجيم آخره شين معجمة بعد تحتية ساكنة يفور ويرتفع (لهم بالري) بكسر الراء (حتى صدروا عنه) أي رجعوا رواء بعد ورودهم، وزاد ابن سعد حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسًا على شفير البئر، (فبينما) بالميم ولأبي ذر عن الكشميهني فبينا بإسقاطها (هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء) بضم الموحدة وفتح الدال المهملة مصغرًا وأبوه بفتح الواو وسكون الراء وبالقاف ممدودًا (الخزاعي) بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي وبعد الألف عين مهملة الصحابيّ المشهور (في نفر من قومه من خزاعة) منهم عمرو بن سالم، وخراش بن أمية فيما قاله الواقدي، وخارجة بن كرز، ويزيد بن أمية كما في رواية أبي الأسود عن عروة (وكانوا) أي بديل والنفر الذين معه (عيبة نصح رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح العين المهملة وسكون التحتية وفتح الموحدة ويصح بضم النون أي موضع سرّه وأمانته فشبّه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع خير الثياب وكانت خزاعة (من أهل تهامة) بكسر المثناة الفوقية مكة وما حولها زاد ابن إسحاق في روايته، وكانت خزاعة عيبة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئًا كان بمكة (فقال) بديل (إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي) بضم اللام وفتح الهمزة
وتشديد الياء فيهما (نزلوا أعداد مياه الحديبية) بفتح الهمزة وسكون العين المهملة جمع عد بالكسر والتشديد وهو الماء الذي لا انقطاع لمادّته كالعين والبئر وفيه أنه كان بالحديبية مياه كثيرة وأن قريشًا سبقوا إلى النزول عليها، ولذا عطش المسلمون حتى نزلوا على الثمد المذكور وذكر أبو الأسود في روايته عن عروة وسبقت قريش إلى الماء ونزلوا عليه (ومعهم العوذ) بضم العين المهملة وسكون الواو وآخره ذال معجمة جمع عائذ أي النوق الحديثات النتاج ذات اللبن (المطافيل) بفتح الميم والطاء المهملة وبعد الألف فاء مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فلام الأمهات التي معها أطفالها ومراده أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزوّدوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه.
وقال ابن قتيبة: يريد النساء والصبيان ولكنه استعار ذلك يعني أنهم خرجوا معهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام وليكون أدعى إلى عدم الفرار، ويحتمل إرادة المعنى الأعم وعند ابن سعد معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان (وهم مقاتلوك وصادّوك) أي مانعوك (عن البيت) الحرام (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إنّا لم نجيء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وأن قريشًا قد نهكتهم الحرب) بفتح أوله وبفتح الهاء وكسرها في الفرع كأصله أي أبلغت فيهم حتى أضعفت قوّتهم وهزلتهم أو أضعفت أموالهم (وأضرّت بهم فإن شاؤوا ماددتهم) أي جعلت بيني وبينهم (مدة) معينة أترك قتالهم فيها (ويخلوا بيني وبين الناس) أي من كفار العرب وغيرهم زاد أبو ذر عن المستملي والكشميهني إن شاؤوا (فإن أظهر) بالجزم (فإن شاؤوا) شرط معطوف على الشرط الأول (أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس) من طاعتي وجواب الشرطين قوله (فعلوا وإلا) أي وإن لم أظهر (فقد جمعوا) بفتح الجيم وتشديد الميم المضمومة أي استراحوا من جهد القتال، ولابن عائذ من وجه آخر عن الزهري: فإن ظهر الناس عليّ فذلك الذي يبغون فصرّح بما حذفه هنا من القسم الأول والتردد في قوله فإن أظهر ليس شكًّا في وعد الله أنه سينصره ويظهره بل على طريق التنزيل وفرض الأمر على ما زعم الخصم (وإن هم أبوا) امتنعوا (فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي) بالسين المهملة وككسر اللام أي حتى تنفصل رقبتي أي حتى أموت أو حتى أموت وأبقى منفردًا في قبري (ولينفذن الله أمره) بضم المثناة التحتية وسكون النون وبالذال المعجمة وتشديد النون وضبطه في المصابيح كالتنقيح بتشديد الفاء المكسورة أي ليمضين الله أمره في نصر دينه.

(فقال بديل: سأبلغهم) بفتح الموحدة وتشديد اللام (ما تقول.
قال فانطلق) بديل (حتى أتى قريشًا قال: إنّا جئناكم من هذا الرجل) يعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا.
فقال سفهاؤهم) قال في الفتح: سمى الواقدي منهم عكرمة بن أبي جهل، والحكم بن أبي وقاص: (لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء.
وقال ذو الرأي منهم: هات) بكسر التاء أي أعطني (ما سمعته يقول قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدّثهم بما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقام عروة بن مسعود) هو ابن معتب بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الفوقية المشددة الثقفي أسلم ورجع إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام فقتلوه (فقال: أي قوم) أي يا قوم (ألستم بالوالد) أي مثل الأب في الشفقة لولده؟
(قالوا: بلى.
قال: أو لستم بالولد) مثل الابن في النصح لوالده؟ (قالوا: بلى) وعند ابن إسحاق عن الزهري أن أم عروة هي سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف فأراد بقوله ألستم بالوالد إنكم قد ولدتموني في الجملة لكون أمي منكم، ولأبي ذر فيما قاله الحافظ ابن حجر ألستم بالولد وألست بالوالد والأول هو الصواب وهو الذي في رواية أحمد وابن إسحاق وغيرهما (قال: فهل تتهموني)؟ ولأبي ذر تتهمونني بنوني على الأصل أي هل تنسبونني إلى التهمة (قالوا: لا).
نتهمك (قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ) بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وآخره ظاء معجمة غير منصرف لأبي ذر ولغيره بالتنوين أي دعوتهم للقتال نصرة لكم (فلما بلحوا علّي) بالموحدة وتشديد اللام المفتوحتين ثم حاء مهملة مضمومة امتنعوا أو عجزوا (جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني.
قالوا: بلى.
قال: فإن هذا) يعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وقد عرض لكم) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي عليكم (خطة رشد) بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة أي خصلة خير وصلاح وإنصاف (اقبلوها ودعوني) اتركوني (آتيه) بالمد والياء على الاستئناف أي أنا آتيه، ولأبي ذر: آته مجزومًا بحذف الياء على جواب الأمر والهاء مكسورة أي أجيء إليه (قالوا ائته) بهمزة وصل فهمزة قطع ساكنة فمثناة فوقية مكسورة فهاء مكسورة أمر من أتى يأتي (فأتاه) عليه الصلاة والسلام عروة (فجعل يكلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لعروة (نحوًا من قوله لبديل) السابق.

وزاد ابن إسحاق وأخبره أنه لم يأت يريد حربًا (فقال عروة عند ذلك) أي عند قوله لأقاتلنّهم (أي محمد) أي يا محمد (أرأيت) أي أخبرني (إن استأصلت أمر قومك) أي استهلكتهم بالكلية (هل سمعت بأحد من العرب اجتاح) بتقديم الجيم على الحاء المهملة أهلك (أهله قبلك) بالكلية ولأبي ذر في نسخة أصله كذا في الفرع كأصله وضبب على الأولى (وإن تكن الأخرى) قال الكرماني وتبعه العيني: وإن تكن الدولة لقومك فلا يخفى ما يفعلون بكم فجواب الشرط محذوف وفيه رعاية الأدب مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث لم يصرح إلا بشق غالبيته، وقال في المصابيح: التقدير وإن تكن الأخرى لم ينفعك أصحابك، وأما قول الزركشي: التقدير وإن كانت الأخرى كانت الدولة للعدوّ وكان الظفر لهم عليك وعلى أصحابك فقال في المصابيح: هذا التقدير غير مستقيم لما يلزم عليه من اتحاد الشرط والجزاء لأن الأخرى هي انتصار العدوّ وظفرهم فيؤل التقدير إلى أنه إن انتصر أعداؤك وظفروا كانت الدولة لهم وظفروا.

(فإني والله لا أرى وجوهًا) أي أعيان الناس (وإني لأرى أشوابًا من الناس) بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وتقديمها على الواو أخلاطًا من الناس من قبائل شتى ولأبي ذر عن الكشميهني: أو شابًّا بتقديم الواو على المعجمة ويروى أوباشًا بتقديم الواو والموحدة أخلاطًا من السفلة (خليقًا) بالخاء المعجمة والقاف حقيقًا (أن يفروا) أي بأن يفروا (ويدعوك) يتركوك لأن العادة جرت أن الجيوش المجمعة لا يؤمن عليها الفرار بخلاف من كان من قبيلة واحدة فإنهم يأنفون الفرار في العادة وما علم عروة أن مودة الإسلام أبلغ من مودة القرابة (فقال له أبو بكر -رضي الله عنه-)
ولأبي ذر: أبو بكر الصديق وكان خلف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاعدًا فيما ذكره ابن إسحاق (امصص) بهمزة وصل فميم ساكنة فصادين مهملتين الأولى مفتوحة بصيغة الأمر من مصص يمصص من باب علم يعلم، ولأبي ذر وحكاه ابن التين عن رواية القابسي امصص بضم الصاد وخطأها (ببظر اللات) بفتح الموحدة بعد الجارة وسكون المعجمة قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة.
وقال الداودي: البظر فرج المرأة.
قال السفاقسي: والذي عند أهل اللغة أنه ما يخفض من فرج المرأة أي يقطع عند خفاضها.

وقال في القاموس: البظر ما بين اسكتي المرأة الجمع بظور كالبيظر والبنظر بالنون كقنفذ والبظارة وتفتح وأمة بظراء طويلته والاسم البظر محركة واللام اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها، وقد كانت عادة العرب الشتم بذلك تقول: ليمصص بظر أمه فاستعار ذلك أبو بكر -رضي الله عنه- في اللات لتعظيمهم إياه فقصد المبالغة في سبّ عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبته إلى الفرار ولأبي ذر: بظر بإسقاط حرف الجر (أنحن نفرّ عنه وندعه)؟ استفهام إنكاري، (فقال) أي عروة (من ذا)؟ أي المتكلم (قالوا: أبو بكر.
قال) عروة (أما) بالتخفيف حرف استفتاح (والذي نفسي بيده لولا يد) أي نعمة ومنّة (كانت لك عندي لم أجزك) بفتح الهمزة وسكون الجيم وبالزاي أي لم أكافئك (بها لأجبتك) وبين عبد العزيز الإمامي عن الزهري في هذا الحديث أن اليد المذكورة أن عروة كان تحمل بدية فأعانه فيها أبو بكر بعون حسن وفي رواية الواقدي عشر قلائص قاله الحافظ ابن حجر.

(قال وجعل) عروة (يكلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكلما تكلم) زاد أبو ذر عن الحموي والكشميهني كلمة والذي في اليونينية كلمه بدل قوله تكلم.
وفي نسخة فكلما كلمه (أخذ بلحيته) الشريفة على عادة العرب من تناول الرجل لحية من يكلمه لا سيما عند الملاطفة (ومغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعه سيف) قصدًا لحراسته (وعليه) أي على المغيرة (المغفر) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء ليستخفي من عروة عمه (فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضرب يده) إجلالاً للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعظيمًا (بنعل السيف) وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها (وقال له: أخّر يدك عن لحية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد عروة بن الزبير فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه (فرفع عروة رأسه فقال: من هذا)؟ الذي يضرب يدي (قالوا) ولأبي ذر قال (المغيرة بن شعبة) وعند ابن إسحاق فتبسم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة.
قال في الفتح.
وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من حديث المغيرة بن شعبة نفسه بإسناد صحيح وأخرجه ابن حبان.

(فقال) عروة مخاطبًا للمغيرة (أي غدرًا) بضم الغين المعجمة وفتح الدال أي يا غدر معدول عن غادر مبالغة في وصفه بالغدر (ألست أسعى في غدرتك) أي ألست أسعى في دفع شرّ خيانتك ببذل المال (وكان المغيرة) قبل إسلامه (صحب قومًا في الجاهلية) من ثقيف من بني مالك لما خرجوا زائرين المقوقس بمصر فأحسن إليهم وقصر بالمغيرة فحصلت له الغيرة منهم لأنه ليس من القوم فلما كانوا
بالطريق شربوا الخمر فلما سكروا وناموا غدر بهم (فقتلهم) جميعًا (وأخذ أموالهم) فلما بلغ ثقيفًا فعل المغيرة تداعوا للقتال فسعى عروة عم المغيرة حتى أخذوا منه ديّة ثلاثة عشر نفسًا واصطلحوا فهذا هو سبب قوله أي غدر (ثم جاء) إلى المدينة (فأسلم) فقال له أبو بكر: ما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قال: قتلتهم وجئت بأسلابهم إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لتخمس أو ليري رأيه فيها (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أما الإسلام) بالنصب على المفعولية (فأقبل) بلفظ المضارع أي أقبله (وأما المال فلست منه في شيء) أي لا أتعرض له لكونه أخذه غدرًا لأن أموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا يحلّ أخذها عند الأمن، فإذا كان الإنسان مصاحبًا لهم فقد أمّن كل واحد منهما صاحبه فسفك الدماء وأخذ الأموال عند ذلك غدر والغدر بالكفار وغيرهم محظور وإنما تحل أموالهم بالمحاربة والمغالبة ولعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك المال في يده لإمكان أن يسلم قومه فيردّ إليهم أموالهم.

(ثم وإن عروة جعل يرمق) بضم الميم أي يلحظ (أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعينيه) بالتثنية (قال: فوالله ما تنخم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نخامة) بضم النون ما يصعد من الصدر إلى الفم (إلا وقعت في كل رجل منهم فدلك بها) أي بالنخامة (وجهه وجلده) تبركًا بفضلاته وزاد ابن إسحاق ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه (وإذا أمرهم ابتدروا أمره) أي أسرعوا إلى فعله (وإذا توضأ كانوا يقتتلون على وضوئه) بفتح الواو وفضلة الماء الذي توضأ به أو على ما يجتمع من القطرات وما يسيل من الماء الذي باشر أعضاءه الشريفة عند الوضوء، (وإذا تكلم) عليه الصلاة والسلام ولأبي ذر وإذا تكلموا أي الصحابة (خفضوا أصواتهم عنده وما يحدّون) بضم التحتية مبنيًّا للمفعول في اليونينية بالحاء المهملة (إليه النظر) أي ما يتأملونه ولا يديمون النظر إليه (تعظيمًا له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم) أي يا قوم (والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر) غير منصرف للعجمة وهو لقب لكلٍّ من ملك الروم (وكسرى) بكسر الكاف وتفتح اسم لكل من ملك الفرس (والنجاشي) بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة وتشديد التحتية وتخفف لقب من ملك الحبشة، وهذا من باب عطف الخاص على العام وخصّ الثلاثة بالذكر لأنهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان (والله إن) بكسر الهمزة نافية أي ما (رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (محمدًا والله إن) بكسر الهمزة نافية أي ما (تنخم) بلفظ الماضي ولأبي ذر يتنخم (نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم) عليه الصلاة والسلام ولأبي ذر تكلموا بضمير الجمع أي الصحابة (خفضوا أصواتهم عنده) إجلالاً له وتوقيرًا (وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له وإنه) بكسر الهمزة عليه الصلاة والسلام (قد عرض عليكم خطة رشد) بضم الخاء المعجمة وتشديد المهملة أي خصلة خير وصلاح (فاقبلوها) بهمزة وصل وفتح الموحدة.

(فقال رجل من بني كنانة) هو الحليس بمهملتين مصغرًا ابن علقمة سيد الأحابيش كما ذكره الزبير بن بكار (دعوني آتيه) بتحتية قبل الهاء ولأبي ذر آته بحذفها مجزومًا مع كسر الهاء (فقالوا ائته) بهمزة ساكنة وكسر الهاء فأتى (فلما أشرف على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن) بضم الموحدة وسكون الدال المهملة جمع بدنة وهي من الإبل والبقر (فابعثوها) أي أثيروها (له) (فبعثت له واستقبله الناس) حال كونهم (يلبون) بالعمرة (فلما رأى) الكناني (ذلك) المذكور من البدن واستقبال الناس له بالتلبية (قال) متعجبًا (سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا) بضم أوله وفتح الصاد المهملة أي يمنعوا (عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال) لهم: (رأيت البدن قد قلدت) بضم القاف وكسر اللام المشددة أي علق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي (وأشعرت) بضم أوّله وسكون المعجمة وكسر المهملة أي طعن في سنامها بحيث سأل دمها ليكون علامة للهدي أيضًا (فما رأى) بفتح الهمزة (أن يصدوا عن البيت) زاد ابن إسحاق وغضب وقال: يا معشر قريش ما على هذا عاقدناكم أيصدّ عن بيت الله من جاء معظّمًا له.
فقالوا: كفّ عنّا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى.

(فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص) بكسر الميم وسكون الكاف وفتح الراء بعدها زاي ابن الأخيف بخاء معجمة فتحتية ففاء وهو من بني عامر بن لؤي (فقال: دعوني آتيه) ولأبي ذر آته بحذف التحتية (فقالوا: ائته فلما أشرف عليهم) على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (هذا مكرز وهو رجل فاجر) أي غادر لأنه كان مشهورًا بالغدر ولم يصدر منه في قصة الحديبية فجور ظاهر (فجعل) أي مكرز (يكلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبينما) بالميم (هو) أي مكرز (يكلمه) عليه الصلاة والسلام (إذ جاء سهيل بن عمرو (تصغير سهل وعمرو بفتح العين (قال معمر) هو ابن راشد بالإسناد السابق (فأخبرني) بالإفراد (أيوب) هو السختياني (عن عكرمة) مولى ابن عباس (أنه لما جاء سهيل بن عمرو) سقط لأبي ذر ابن عمرو (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (لقد) ولأبي ذر: قد (سهل لكم من أمركم) بفتح السين المهملة وضم الهاء وهذا مرسل، وله شاهد موصول عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال: بعثت قريش بسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليصالحوه، فلما رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سهيلاً قال: "قد سهل لكم من أمركم" وهذا من باب التفاؤل، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل الحسن وأتى بمن التبعيضية في قوله: من أمركم إيذانًا بأن السهولة الواقعة في هذه القصة ليست عظيمة قيل ولعله عليه الصلاة والسلام أخذ ذلك من التصغير الواقع في سهيل فإن تصغيره يقتضي كونه ليس عظيمًا.

(قال معمر) بالإسناد السابق أيضًا (قال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (في حديثه) السابق فحديث عكرمة معترض في أثنائه (فجاء سهيل بن عمرو) في رواية ابن إسحاق فلما انتهى إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب عشر سنين وأن يؤمن بعضهم بعضًا وأن يرجع عنهم عامهم (فقال) سهيل (هات) بكسر التاء (اكتب بيننا وبينكم كتابًا
فدعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكاتب) هو عليّ بن أبي طالب (فقال) له (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) (قال) ولأبي ذر فقال: (سهيل أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: ما هي بتأنيث الضمير أي كلمة الرحمن (ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب) وكان عليه الصلاة والسلام يكتب كذلك في بدء الإسلام كما كانوا يكتبونها في الجاهلية فلما نزلت آية النمل كتب بسم الله الرحمن الرحيم فأدركتم حمية الجاهلية (فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): لعلي -رضي الله عنه- (اكتب باسمك اللهم ثم قال) عليه الصلاة والسلام اكتب (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني) بتشديد المعجمة وجزاؤه محذوف (اكتب محمد بن عبد الله).
(قال الزهري): محمد بن مسلم بن شهاب بالسند السابق (وذلك) أي أجابته لسؤال سهيل حيث قال: اكتب باسمك اللهم، واكتب محمد بن عبد الله (لقوله) عليه الصلاة والسلام السابق (لا يسألوني) أي قريش، ولأبي ذر: لا يسألونني بنوني على الأصل (خطة) بضم الخاء المعجمة خصلة (يعظمون فيها حرمات الله) يكفون بها عن القتال في الحرم (إلا أعطيتهم إياها) أي أجبتهم إليها (فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (على أن تخلوا بيننا وبين البيت) العتيق (فنطوف به) بالتخفيف وبالنصب عطفًا على المنصوب السابق وفي نسخة فنطوف بالرفع على الاستئناف وفي أخرى فنطوّف بتشديد الطاء والواو وأصله نتطوّف وبالنصب والرفع (فقال سهيل: والله لا) نخلي بينك وبين البيت الحرام (تتحدث العرب أنا أخذنا) بضم الهمزة وكسر الخاء (ضغطة) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين وبالنصب على التمييز قهرًا والجملة استئنافية وليست مدخولة لا (ولكن ذلك) أي التخلية (من العام المقبل فكتب) علّي ذلك.
(فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منّا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا).
وفي رواية عقيل عن الزهري في أوّل الشروط لا يأتيك منا أحد وهي تعمّ بالرجال والنساء فيدخلن في هذا الصلح ثم نسخ ذلك الحكم فيهن أو لم يدخلن إلا بطريق العموم فخصصن.

(قال المسلمون) قال في الفتح وقائل ذلك يشبه أن يكون عمر لما سيأتي، وممن قال أيضًا
أسيد بن حضير وسعد بن عبادة كما قاله الواقدي وسهل بن حنيف (سبحان الله، كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء) حال كونه (مسلمًا فبينما هم كذلك) بالميم في بينما (إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو) بالجيم والنون بوزن جعفر وسهيل بضم السين مصغرًا وعمرو بفتح العين واسم أبي جندل العاص وكان حبس حين أسلم وعذب فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين حال كونه (يرسف) بفتح أوّله وسكون الراء وضم السين المهملة آخره فاء يمشي (في قيوده) مشي المقيد المثقل (وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال) أبوه: (سهيل هذا يا محمد أوّل ما) ولأبي ذر عن الكشميهني من (أقاضيك عليه أن تردّه إليّ فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (إنّا لم نقضِ الكتاب بعد) بنون مفتوحة فقاف ساكنة فضاد معجمة أي لم نفرغ من
كتابته، ولأبي ذر عن المستملي والحموي: لن نفض بالفاء وتشديد المعجمة.
(قال) سهيل: (فوالله إذًا) بالتنوين (لم أصالحك) وفي نسخة لا أصالحك (على شيء أبدًا.
قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (فأجزه) بهمزة مفتوحة فجيم مكسورة فزاي ساكنة أي امض (لي) فعلي فيه فلا أردّه إليك (قال) سهيل: (ما أنا بمجيزه) ولأبي ذر: بمجيز ذلك (لك.
قال) عليه الصلاة والسلام: (بلى فافعل) (قال) سهيل: (ما أنا بفاعل.
قال مكرز) بكسر الميم وسكون الكاف وبعد الراء المفتوحة زاي ابن حفص وكان ممن أقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح (بل قد أجزناه) بحرف الإضراب وللكشميهني كما في الفتح بلى أي نعم.
وفي نسخة قال مكرز قد أجزناه (لك.
قال أبو جندل أي معشر المسلمين أردّ) بضم الهمزة وفتح الراء (إلى المشركين وقد جئت) حال كوني (مسلمًا ألا ترون ما قد لقيت) بفتح القاف في اليونينية فقط وفي غيرها لقيت بكسرها (وكان قد عذب عذابًا شديدًا في الله) زاد ابن إسحاق فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإنّا لا نغدر وإن الله جاعل لك فرجًا ومخرجًا".

وقول الكرماني فإن قلت: لم رد أبا جندل إلى المشركين وقد قال مكرز أجزناه لك؟ وجوابه: بأن المتصدي لعقد المهادنة هو سهيل لا مكرز فالاعتبار بقول المباشر لا بقول مكرز متعقب بما نقله في فتح الباري عن الواقدي أنه روى أن مكرزًا كان ممن جاء في الصلح مع سهيل وكان معهما حويطب بن عبد العزى، وأنه ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل بل في تأمينه من التعذيب، وأن مكرزًا وحويطبًا أخذا أبا جندل فأدخلاه فسطاطًا وكفا أباه عنه.
وقال الخطابي: إنما ردّه إلى أبيه والغالب أن أباه لا يبلغ به الهلاك.

(فقال) ولأبي ذر قال (عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه-: (فأتيت نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت) له (ألست نبي الله) بالنصب خبر ليس (حقًّا؟ قال) عليه الصلاة والسلام (بلى) (قلت ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل؟ قال) عليه الصلاة والسلام: (بلى) (قلت: فلِمَ نُعطي الدنيّة) بفتح الدال والمهملة وكسر النون وتشديد التحتية والأصل فيه الهمزة لكنه خفّف وهو صفة لمحذوف أي الحالة الدنيّة الخبيثة (في ديننا إذًا) بالتنوين أي حينئذٍ (قال): (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) فيه تنبيه لعمر- رضي الله عنه- على إزالة ما حصل عنده من القلق، وأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يفعل ذلك إلا لأمر أطلعه الله عليه من حبس الناقة وأنه لم يفعل ذلك إلا بوحي من الله.
قال عمر -رضي الله عنه- (قلت) له عليه الصلاة والسلام: (أوليس كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به) بالتخفيف وفي نسخة فنطّوّف بتشديد الطاء والواو وعند الواقدي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت فلما رأوا تأخير ذلك شقّ عليهم (قال) عليه الصلاة والسلام: (بلى فأخبرتك أنّا نأتيه العام) هذا (قال) عمر (قلت لا.
قال: فإنك آتيه ومطوّف به) بتشديد الطاء المفتوحة والواو المكسورة المشددة أيضًا.

(قال) عمر (فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًّا)؟ وفي اليونينية نبي الله بالنصب (قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قلت: فلم نعطي) الخصلة (الدنيّة) الخبيثة (في ديننا إذًا) أي حينئذٍ (قال) أبو بكر -رضي الله عنه- مخاطبًا لعمر رضي الله
عنهما (أيها الرجل إنه لرسول الله) ولأبي ذر إنه رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه) بفتح العين المعجمة وبعد الراء الساكنة زاي وهو للإبل بمنزلة الركاب للفرس أي فتمسك بأمره ولا تخالفه كما يتمسك المرء بركاب الفارس فلا يفارقه، (فوالله إنه على الحق) قال عمر: (قلت أليس كان) عليه الصلاة والسلام: (يحدّثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به) ولأبي ذر فنطوّف بالفاء بدل الواو والتشديد (قال) أبو بكر: (بلى أفأخبرك) عليه الصلاة والسلام (أنك تأتيه العام) هذا قال عمر: (قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوّف به) بالتشديد مع كسر الواو وفي ذلك دلالة على فضيلة أبي بكر ووفور عمله لكونه أجاب به الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

(قال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب بالسند السابق (قال عمر) -رضي الله عنه- (فعملت لذلك) التوقف في الامتثال ابتداء (أعمالاً) صالحة.
وعند ابن إسحاق فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذٍ مخافة كلامي الذي تكلمت به، وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر -رضي الله عنه-: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابًا وصمت دهرًا الحديث.
ولم يكن هذا شكًّا منه في الدين بل ليقف على الحكمة في القضية وتنكشف عنه الشبهة وللحثّ على إذلال الكفار كما عرف من قوّته في نصرة الدين وقول الزهري هذا منقطع بينه وبين عمر.

(قال: فلما فرغ من قضية الكتاب) وأشهد على الصلح رجالاً من المسلمين منهم أبو بكر وعمر وعليّ ورجالاً من المشركين منهم مكرز بن حفص (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه): (قوموا فانحروا) الهدي (ثم احلقوا) رؤوسكم (قال فوالله ما قام منهم رجل) رجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ليتم لهم قضاء نسكهم أو لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور (حتى قال) عليه السلام لهم (ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل) عليه السلام (على أم سلمة) -رضي الله عنها- (فذكر لها ما لقي من الناس) من كونهم لم يفعلوا ما أمرهم به (فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك)؟ وعند ابن إسحاق قالت أم سلمة: يا رسول الله لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقّة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح ويحتمل أنها فهمت من الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرهم بالتحلّل أخذًا بالرخصة في حقهم وأنه هو يستمر على الإحرام أخذًا بالعزيمة في حق نفسه فأشارت عليه أن يتحلل لينفي عنهم هذا الاحتمال فقالت: (اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك) بضم الموحدة وسكون المهملة (وتدعو حالقك) بنصب الفعل عطفًا على الفعل المنصوب قبله (فيلحقك فخرج) عليه الصلاة والسلام (فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه) بضم الموحدة وسكون المهملة وكانوا سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل في رأسه برّة من فضة ولأبي ذر عن الكشميهني هديه (ودعا حالقه) هو خراش بمعجمتين ابن أمية بن الفضل الخزاعي الكعبي (فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا) هديهم ممتثلين ما أمرهم به إذ لم تبق بعد ذلك غاية تنتظر (وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا) أي
ازدحامًا وفيه فضيلة أم سلمة ووفور عقلها، وقد قال إمام الحرمين في النهاية: قيل ما أشارت امرأة بصواب إلا أم سلمة في هذه القضية.

(ثم جاءه) عليه الصلاة والسلام (نسوة مؤمنات) بعد ذلك في أثناء مدة الصلح (فأنزل الله تعالى: { يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} ) نصب على الحال ({ فامتحنوهن} ) فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن (حتى بلغ { بعصم الكوافر} ) [الممتحنة: 10] بما تعتصم به الكافرات من عقد ونسب جمع عصمة والمراد نهي المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات وبقية الآية { الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله: { لا هنّ حلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنّ وآتوهم ما أنفقوا} أي ما دفعوا إليهن من المهور، وهذه الآية على رواية لا يأتيك منّا أحد وإن كان على دينك إلا رددته تكون مخصصة للسنة وهذا من أحسن أمثلة ذلك وعلى طريقة بعض السلف ناسخة من قبيل نسخ السنة بالكتاب، أما على رواية: لا يأتيك منا رجل فلا إشكال فيه.

(فطلق عمر) -رضي الله عنه- (يومئذٍ امرأتين) قريبة بنت أبي أمية وابنة جرول الخزاعي كما في الرواية التالية (كانتا له في الشرك) لقوله تعالى في الآية { لا هنّ حِلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنّ} [الممتحنة: 10] وقد كان ذلك جائزًا في ابتداء الإسلام (فتزوّج إحداهما) وهي قريبة (معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية) وفي الرواية اللاحقة وتزوج الأخرى أبو جهم.

(ثم رجع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة فجاءه أبو بصير) بفتح الموحدة وكسر الصاد المهملة (رجل من قريش) بدل من أبو بصير ومعنى كونه من قريش أنه منهم بالحلف وإلاّ فهو ثقفي واسمه عتبة بضم العين المهملة وسكون الفوقية ابن أسيد بفتح الهمزة على الصحيح ابن جارية بالجيم الثقفي حليف بني زهرة وبنو زهرة من قريش (وهو مسلم) جملة حالية (فأرسلوا) أي قريش (في طلبه رجلين) هما خنيس بخاء معجمة مضمومة ونون مفتوحة آخره سين مهملة مصغرًا ابن جابر وأزهر بن عوف لزهريّ إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقالوا العهد الذي جعلت لنا) يوم الحديبية أن ترد إلينا من جاء منا وإن كان على دينك وسألوه أن يردّ إليهم أبا بصير كما وقع في الصلح (فدفعه) عليه السلام (إلى الرجلين) وفاء بالعهد (فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرحلين) في رواية ابن سعد لخنيس بن جابر ولابن إسحاق للعامري (والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا فاستلّه الآخر) أي أخرج السيف صاحبه من غمده (فقال: أجل) نعم (والله إنه لجيد لقد جرّبت به ثم جرّبت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي به بدل منه أي بيده (فضربه) أبو بصير (حتى برد) بفتح الموحدة والراء أي مات (وفرّ الآخر) وعند ابن إسحاق وخرج المولى يشتد أي هربًا وهو مولى خنيس واسمه كوثر (حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو) بالعين المهملة (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين رآه) (لقد رأى هذا ذعرًا) بضم الذال المعجمة وسكون العين المهملة خوفًا (فلما انتهى إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال قتل) بضم القاف مبنيًّا للمفعول ولأبي ذر قتل بفتح
القاف والتاء أي قتل أبو بصير (والله صاحبي وإني لمقتول) أي إن لم تردّوه عني (فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك) كان القياس أن يقول والله قد أوفى الله ذمتك لكن القسم محذوف والمذكور مؤكد له ولغير أبي ذر إليك ذمتك (قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (ويل أمه) برفع اللام في رواية أبي ذر خبر مبتدأ أي هو ويل لأمه وقطع همزة أمه وتشديد ميمها مكسورة وفي نسخة ويل أمه بحذف الهمزة تخفيفًا، وفي أخرى ويل أمه بنصب اللام على أنه مفعول مطلق.
قال الجوهري: وإذا أضفته فليس فيه إلا النصب وفي اليونينية ويل أمه بكسر اللام وقطع الهمزة.
قال ابن مالك تبعًا للخليل: وي كلمة تعجب وهي من أسماء الأفعال واللام بعدها مكسورة ويجوز ضمها إتباعًا للهمزة وحذف الهمزة تخفيفًا.
وقال الفراء أصل قولهم ويل فلان وي لفلان أي حزن له فكثر الاستعمال فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها وأعربوها (مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين بالنصب على التمييز أو الحال مثل لله درّه فارسًا ولأبي ذر مسعر بالرفع أي هو مسعر وحرب مجرور بالإضافة وأصل ويل دعاء عليه واستعمل هنا للتعجب من إقدامه في الحرب والإيقاد لنارها وسرعة النهوض لها (لو كان له أحد) ينصره لإسعار الحرب لأثار الفتنة وأفسد الصلح، (فلما سمع) أبو بصير (ذلك عرف أنه) عليه السلام (سيردّه إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر) بكسر السين المهملة وسكون التحتية وبعدها فاء أي ساحله في موضع يسمى العيص بكسر العين المهملة وسكون التحتية آخره صاد مهملة على طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام.

(قال وينفلت) بالفاء والمثناة الفوقية أي ويتخلص (منهم أبو جندل بن سهيل) أي من أبيه وأهله من مكة وعبّر بصيغة الاستقبال إشارة إلى إرادة مشاهدة الحال على حدّ قوله تعالى: { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا} [الروم: 48] وفي رواية أبي الأسود عن عروة وانفلت أبو جندل في سبعين راكبًا مسلمين (فلحق بأبي بصير) بسيف البحر (فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة) بكسر العين جماعة ولا واحد لها من لفظها وهي تطلق على الأربعين فما دونها، لكن عند ابن إسحاق أنهم بلغوا نحوًا من سبعين بل جزم به عروة في المغازي وزاد وكرهوا أن يقدموا المدينة في مدة الهدنة خشية أن يعادوا إلى المشركين وسمى الواقدي منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة.
(فوالله ما يسمعون بعير) بخبر عير بكسر العين قافلة (خرجت) من مكة (لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها) وقفوا لها في طريقها بالعرض وذلك كناية عن منعهم لها من المسير، (فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش) أبا سفيان بن حرب (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تناشده بالله والرحم) تقول له سألتك بالله وبحق القرابة ولأبي ذر تناشده الله والرحم (لما) بالتشديد أي ألا (أرسل) إلى أبي بصير وأصحابه بالامتناع عن إيذاء قريش (فمن أتاه) منهم مسلمًا (فهو آمن) من الرد إلى قريش (فأرسل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليهم) زاد في رواية أبي الأسود فقدموا عليه، وفيها: فعلم الذين كانوا أشاروا بأن لا يسلم أبا جندل إلى أبيه أن طاعة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خير مما كرهوا (فأنزل الله تعالى { وهو الذي كفّ أيديهم عنكم} ) أي أيدي كفار مكة ({ وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم
عليهم}
) [الفتح: 4] أي أظهركم عليهم (حتى بلغ الحمية حمية الجاهلية) أي التي تمنع الإذعان للحق وسقط لأبي ذر قوله: { ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} وقوله: الحمية من قوله حتى بلغ الحمية (وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبيّ الله، ولم يقرّوا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت) وظاهر قوله فأنزل الله { وهو الذي كفّ أيديهم} أنها نزلت في شأن أبي بصير وفيه نظر والمشهور أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا المسلمين غرّة فطفروا بهم فعفا عنهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنزلت.
رواه مسلم وغيره زاد أبو ذر عن المستملي.

قال أبو عبد الله البخاري مفسرًا لبعض غريب في بعض الآية من المجاز لأبي عبيدة معرة مفعلة من العرّ بضم العين وتشديد الراء الجرب بالجيم يعني أن المعرة مشتقة من عرّه إذا دهاه ما يكره ويشق عليه والعر هو الجرب.
قال الجوهري: العر بالفتح الجرب وبالضم قروح مثل القوباء تخرج بالإبل متفرقة في مشافرها وقوائمها يسيل منها مثل الماء الأصفر فتكوى الصحاح لئلا تعديها المراض.

تزيلوا: انمازوا أي تميز بعضهم وقوله: انمازوا ليس في الفرع وأصله وحميت القوم منعتهم من حصول الشر والأذى إليهم ومصدره حماية على وزن فعالة بالكسر وأحميت الحمى بكسر الحاء وفتح الميم مقصورًا جعلته حمى لا يدخل فيه ولا يقرب منه وهو بضم الياء وفتح الخاء مبنيًّا للمفعول، وأحميت الحديد في النار فهو محمي وأحميت الرجل إذا أغضبته ومصدره إحماء بكسر الهمزة وسكون الحاء المهملة.


[ قــ :607 ... غــ : 733 ]
- وَقَالَ عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: "قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ.
وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لاَ يُمَسِّكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ -قَرِيبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ.
وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيِّ فَتَزَوَّجَ قَرِيبَةَ مُعَاوِيَةُ وَتَزَوَّجَ الأُخْرَى أَبُو جَهْمٍ.
فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11] وَالْعَقِبُ مَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللاَّئِي هَاجَرْنَ، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا.
وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرِ بْنَ أَسِيدٍ الثَّقَفِيَّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا فِي الْمُدَّةِ، فَكَتَبَ الأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُهُ أَبَا بَصِيرٍ" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

(وقال عقيل) بضم العين فيما تقدم موصولاً في الشروط (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال عروة) بن الزبير (فأخبرتني عائشة) -رضي الله عنها- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يمتحنهن) أي يختبر المهاجرات بالحلف والنظر في الإمارات.

قال الزهري فيما وصله ابن مردويه في تفسيره: (وبلغنا أنه لما أنزل الله تعالى أن يردّوا إلى المشركين ما أنففوا على من هاجر من أزواجهم) أي من الأصدقة (وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعِصَم الكوافر أن عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (طلق امرأتين قريبة) بضم القاف وفتح الراء وبعد التحتية موحدة وللكشميهني قريبة بفتح القاف وكسر الراء (بنت أبي أمية وابنة جرول) بفتح الجيم وسكون الراء أم عبد الله بن عمر (الخزاعي) بالخاء المضمومة والزاي المعجمتين (فتزوّج قريبة) وللحموي والمستملي قريبة بضمّ القاف (معاوية بن أبي سفيان وتزوّج الأخرى أبو جهم) بفتح الجيم وسكون الهاء عامر بن حذيفة الأموي (فلما أبى الكفار أن يقرّوا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم) المأمور به في قوله تعالى: { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} [الممتحنة: 0] أي وطالبوا بما أنفقتم من مهور نسائكم اللاحقات بالكفار وليطالبوا بما أنفقوا من مهور أزواجهن اللاتي هاجرن إلى المسلمين (أنزل الله تعالى { وإن فاتكم} ) وإن سبقكم وانفلت منكم مرتدًّا ({ شيء} ) أحد ({ من أزواجكم} ) وإيقاع شيء موقع أحد للتحقير والمبالغة في التعميم أي شيء من مهورهن ({ إلى الكفار فعاقبتم} [الممتحنة: 11] والعقب) بفتح العين وسكون القاف في اليونينية وقد تفتح هو (ما يؤدي المسلمون) من المهر (إلى من هاجرت امرأته) المسلمة (من الكفار) إلى المسلمين (فأمر) الله تعالى (أن يعطى) بضم الياء مبنيًّا للمفعول (من ذهب له زوج من المسلمين) إلى الكفار مرتدة مثل (ما أنفق) عليها من المهر مفعول ثانٍ ليعطى (من صداق نساء الكفار) الجار والمجرور متعلق بيعطى (اللاتي) أسلمن و (هاجرن) إلى المسلمين إذا تزوّجن ولا يعطى الزوج الكافر شيئًا (وما نعلم أحدًا) ولأبي ذر: وما نعلم أن أحدًا (من المهاجرات ارتدّت بعد إيمانها).

قال الزهري: (وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد) بفتح الهمزة (الثففي) بالمثلثة فالقاف فالفاء وهذا من مرسل الزهري بخلافه في رواية معمر فإنه موصول إلى المسور (قدم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (مؤمنًا) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي من منى قال الحافظ ابن حجر وهو تصحيف (مهاجرًا) حال من الأحوال المترادفة أو المتداخلة (في المدة) التي وقع الصلح عليها (فكتب الأخنس) بهمزة مفتوحة فخاء معجمة ساكنة وبعد النون المفتوحة سين مهملة (ابن شريق) بشين معجمة مفتوحة فراء مكسورة وبعد التحتية الساكنة قاف (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسأله أبا بصير) أن يردّه إليهم وفاء بالعهد (فذكر الحديث) الى آخره.

وفي الرواية السابقة فأرسلوا في طلبه رجلين وقد سماهما ابن سعد في طبقاته خنيس بمعجمة ونون مصغرًا ابن جابر ومولى له يقال له كوثر، وقال ابن إسحاق: فكتب الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتابًا وبعثا به مع مولى لهما ورجل من بني عامر استأجراه ببكرين انتهى.

قال في الفتح: والأخنس من ثقيف رهط أبي بصير وأزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير فلكلٍّ منهما المطالبة بردّه.