فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب لا يقول فلان شهيد

باب لاَ يَقُولُ فُلاَنٌ شَهِيدٌ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ».

هذا ( باب) بالتنوين ( لا يقول فلان شهيد) على سبيل القطع بذلك إلا إن ورد به الوحي.

( وقال أبو هريرة) فيما وصله في باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال: ( الله أعلم بمن يجاهد في سبيله) ولأبي ذر: ( والله أعلم بمن يكلم) بضم أوّله وفتح ثالثه أي يجرح ( في سبيله) فلا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله.


[ قــ :2770 ... غــ : 2898 ]
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ، قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ.
فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ
لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ".
[الحديث 2898 - أطرافه في: 4202، 4207، 6493، 6607] .

وبه قال: ( حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: ( حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن) بن محمد القاريّ بتشديد الياء الإسكندراني ( عن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمة بن دينار الأعرج ( عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التقى هو والمشركون) في حديث أبي هريرة الآتي إن شاء الله تعالى في باب: إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر التصريح بوقوع ذلك في خيبر لكن في اتحاد القصتين نظر لما وقع بينهما من الاختلاف في بعض الألفاظ، وقد جزم ابن الجوزي بأن قصة سهل هذه وقعت باُحُد، ويؤيده أن في حديث الباب عند أبي يعلى الموصلي أنه قيل لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أُحُد ما رأينا مثل ما أبلى فلان.
الحديث.
وفي ذلك شيء يأتي إن شاء الله تعالى في المغازي ( فاقتتلوا فلما مال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى عسكره) أي رجع بعد فراغ القتال في ذلك اليوم ( ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجل) هو قزمان بضم القاف وسكون الزاي بعدها ميم فألف فنون ( لا يدع لهم) أي للمشركين ( شاذة) بشين معجمة وبعد الألف ذال معجمة مشدّدة ( ولا فاذة) بالفاء والذال المعجمة أيضًا والأولى التي تكون مع الجماعة ثم تفارقهم والأخرى التي لم تكن قد اختلطت بهم أصلاً أي أنه لا يرى شيئًا إلا أتى عليه فقتله.
والتأنيث إما أن يكون للمبالغة كعلاّمة ونسّابة أو نعت لمحذوف أي لا يترك لهم نسمة شاذة ( إلاّ اتبعها يضربها بسيفه فقال) أي قائل، وعند الكشميهني في المغازي فقلت فإن كانت محفوظة فهو سهل الساعدي ( ما أجزأ) بجيم وزاي فهمزة أي ما أغنى ( منا اليوم أحد كما أجزأ فلان) أي قزمان ( فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بوحي من الله:
( أما) بتخفيف الميم استفتاحية فتكسر الهمزة من قوله ( إنه من أهل النار) لنفاقه في الباطن ( فقال رجل من القوم) : هو أكثم بن أبي الجون الخزاعي ( أنا صاحبه) ، أي أصحبه وألازمه لأنظر السبب الذي يصير به من أهل النار فإن فعله في الظاهر جميل وقد أخبره-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه من أهل النار فلا بدّ له من سبب عجيب ( قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه قال: فجرح الرجل جرحًا شديدًا فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه) أي طرفه الذي يضرب به ( بين ثدييه) بفتح المثلثة تثنية ثدي ( ثم تحامل) أي مال ( على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل) أكثم ( إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: أشهد أنك رسول الله قال) : عليه الصلاة والسلام ( وما ذاك) ؟ ( قال الرجل: الذي ذكرت آنفًا) بمد الهمزة وكسر النون أي الآن ( أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه ثم جرح جرحًا) بضم الجيم ( شديدًا، فاستعجل الموت فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه) .

واستشكل القطع بكونه من أهل النار بمجرد عصيانه بقتل نفسه والمؤمن لا يكفر بالمعصية.
وأجيب: باحتمال أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علم بالوحي أنه ليس مؤمنًا أو أنه سيرتد ويستحل قتل نفسه، وفي
حديث أكثم بن أبي الجون عند الطبراني فقلنا: يا رسول الله فلان يجزي في القتال؟ قال: "هو في النار".
قلنا: يا رسول الله إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار فأين نحن؟ قال: "ذاك إخبات النفاق".

( فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند ذلك: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو) أي يظهر ( للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو) أي يظهر ( للناس وهو من أهل الجنة) .
قال النووي: فيه التحذير من الاغترار بالأعمال وإنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها ولا يركن إليها مخافة من انقلاب الحال للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط ولغيره أن لا يقنطه من رحمة الله تعالى.

ومطابقة الحديث للترجمة من حيث أنهم شهدوا برجحانه في أمر الجهاد فلو كان قتل لم يمتنع أن يشهدوا له بالشهادة فلما ظهر أنه لم يقاتل الله وإنما قاتل غضبًا علم أنه لا يطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد لاحتمال أن يكون مثل هذا.
نعم أطلقها السلف والخلف بناء على الظاهر، أما من استشهد معه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كشهداء أُحُد وبدر ونحوهم فلا خفاء به ظاهر أو الظاهر أن من بعدهم كذلك، وقد أجع الفقهاء على أن شهيد المعركة لا يغسل وللفقيه إذا سئل عن مؤمن قتل كذلك أن يقول هو شهيد، والذي منعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يطلقه الإنسان جزمًا على الغيب وهذا ممنوع حتى في زمانه عليه الصلاة والسلام إلاّ بوحي خاص.
قاله ابن المنير.

وهذا الحديث أيضًا في المغازي ومسلم في الإيمان والقدر.