فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الجاسوس

باب الْجَاسُوسِ
وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: { لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] .
التَّجَسُّسُ: التَّبَحُّثُ.

( باب) حكم ( الجاسوس) أي إذا كان من جهة الكفار ومشروعيته من جهة المسلمين وهو بالجيم والمهْملتين بوزن فاعول ( التجسس) ولأبي ذر: والتجسس هو ( التبحث) كذا فسره أبو عبيدة وهو التفتيش عن بواطن الأمور.
( وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على الجاسوس ولأبي ذر: عز وجل بدل: قوله تعالى: ( { لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء} ) [الممتحنة: 1] .
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وأولياء مفعول ثانٍ لقوله: لا تتخذوا.


[ قــ :2874 ... غــ : 3007 ]
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا -رضي الله عنه- يَقُولُ: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا.
فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ.
فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ.
فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ.
فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ صَدَقَكُمْ.
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ.
قَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ".
قَالَ سُفْيَانُ: وَأَىُّ إِسْنَادٍ هَذَا.
[الحديث 3007 - أطرافه في: 3081، 3983، 4274، 4890، 6259، 6939] .

وبه قال: ( حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: ( حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: ( حدّثنا عمرو بن دينار) المكي ( سمعته) بضمير النصب ولأبي ذر: سمعت ( منه مرتين قال: أخبرني) بالإفراد ( حسن بن محمد) أي ابن الحنفية قال: ( أخبرني) بالإفراد أيضًا ( عبيد الله) بضم العين ( ابن رافع) أسلم مولى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( قال: سمعت عليًّا -رضي الله عنه-) هو ابن أبي طالب ( يقول: بعثني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنا والزبير والمقداد) زاد في رواية غير أبي ذر بن الأسود وقوله أنا تأكيد للضمير المنصوب
ولا منافاة بين هذا وبين رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بعثني وأبا مريد الغنوي والزبير بن العوام لاحتمال أن يكون وقع البعث لهم جميعًا ( قال) : ولأبي ذر: وقال:
( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ) بخاءين معجمتين بينهما ألف لا بمهملة ثم جيم موضع بين مكة والمدينة على اثني عشر ميلاً من المدينة ( فإن بها ظعينة) بفتح الظاء المعجمة وكسر العين المهملة وفتح النون المرأة في الهودج واسمها سارة على المشهور وكانت مولاة عمرو بن هشام بن عبد المطلب أو اسمها كنود كما قاله البلاذري وغيره وتكنى أم سارة ( ومعها كتاب) من حاطب ( فخذوه منها) ( فانطلقنا تعادى) بحذف إحدى التاءين تخفيفًا إذ الأصل تتعادى أي تجري ( بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة) المذكورة ( فإذا نحن بالظعينة) ، سارة المذكورة ( فقلنا) : لها ( أخرجي الكتاب) بفتح الهمزة وكسر الراء الذي معك ( فقالت: ما معي من كتاب.
فقلنا)
: ( لتخرجن الكتاب) ، بضم المثناة الفوقية وكسر الراء والجيم ( أو لنلقين) نحن ( الثياب) كذا في الفرع وأصله بضم النون وكسر القاف وفتح المثناة التحتية ونون التوكيد الثقيلة وللأصيلي وأبي الوقت كما في الفرع وأصله أو لتلقن بالفوقية المضمومة وحذف التحتية، وفي بعض الأصول: أو لتلقين بتحتية مكسورة أو مفتوحة بعد القاف، والصواب في العربية أو لتلقين بدون ياء لأن النون الثقيلة إذا اجتمعت مع الياء الساكنة حذفت الياء لالتقاء الساكنين، لكن أجاب الكرماني وتبعه البرماوي وغيره بأن الرواية إذا صحّت تؤوّل الكسرة بأنها لمشاكلة لتخرجن وباب المشاكلة واسع والفتح بالحمل على المؤنث الغائب على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.

( فأخرجته) أي الكتاب ( من عقاصها) بكسر العين المهملة وبالقاف والصاد المهملة الخيط الذي يعتقص به أطراف الذوائب أو الشعر المضفور، وقال المنذري: هو ليّ الشعر بعضه على بعض على الرأس وتدخل أطرافه في أصوله وقيل هو السير الذي تجمع به شعرها على رأسها ( فأتينا به) أي بالكتاب، وللمستملي بها أي بالصحيفة ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وقول الكرماني أو بالمرأة معارض بما رواه الواحدي بلفظ وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب إلى المشركين فخذوه وخلوا سبيلها فإن لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها ( فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة) بالحاء والطاء المكسورة المهملتين ثم موحدة وبلتعة بموحدة مفتوحة ولام ساكنة فمثناة فوقية وعين مهملة مفتوحتين واسمه عامر وتوفي حاطب سنة ثلاثين ( إلى أناس من المشركين من أهل مكة) هم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل كما رواه الواقدي بسند له مرسل ( يخبرهم ببعض أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولفظ الكتاب كما في تفسير يحيى بن سلام أما بعد: يا معشر قريش فإن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاءكم بجيش الليل يسير كالسيل فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده فانظروا لأنفسكم والسلام.

( فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) : ( يا حاطب ما هذا) ؟ ( قال يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأَ ملصقًا في قريش) بفتح الصاد أي مضافًا إليهم ولا نسب لي فيهم من إلصاق الشيء بغيره وليس منه
أو حليفًا لقريش ( ولم أكن من أنفسها) بضم الفاء في اليونينية وفي الفرع بفتحها مصلحًا.
وعند ابن إسحاق ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة.
وقال السهيلي: كان حاطب حليفًا لعبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى ( وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذا) أي حين ( فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا) أي نعمة ومنّة عليهم ( يحمون بها قرابتي) وفي رواية ابن إسحاق وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه وأن في قوله أن أتخذ مصدرية في محل نصب مفعول أحببت ( وما فعلت) ذلك ( كفرًا ولا ارتدادًا) أي عن ديني ( ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) : ( لقد صدقكم) بتخفيف الدال أي قال الصدق وزاد في فضل من شهد بدرًا من المغازي ولا تقولوا إلا خيرًا.
ولأبي ذر: وقد صدقكم فأسقط اللام التي قبل قاف قد ( فقال عمر) : بن الخطاب ( -رضي الله عنه-: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق) :
واستشكل إطلاق عمر عليه النفاق بعد شهادته عليه الصلاة والسلام بأنه ما فعل ذلك كفرًا ولا ارتدادًاً ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام.
وهذه الشهادة نافية للنفاق قطعًا.
وأجيب: بأنه إنما قال ذلك لما كان عنده من القوة في الدين وبغض المنافقين وظن أن فعله هذا يوجب قتله لكنه لم يجزم بذلك فلذا استأذن في قتله وأطلق عليه النفاق لكونه أبطن خلاف ما أظهر وعذره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه كان متأوّلاً إذ لا ضرر فيما فعله.

( قال) : عليه الصلاة والسلام مرشدًا إلى علّة ترك قتله ( وإنه قد شهد بدرًا) وكأنه قال: وهل أسقط عنه شهوده بدرًا هذا الذنب العظيم؟ فأجاب بقوله: ( وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطّلع على أهل بدر) الذين حضروا وقعتها واستعمل لعل استعمال عسى فأتى بأن.
قال النووي ومعنى الترجي هنا راجع إلى عمر لأن وقوع هذا الأمر محقق عند الرسول ( فقال) : تعالى مخاطبًا لهم خطاب تشريف وإكرام "اعملوا ما شئتم" في المستقبل "فقد غفرت لكم" عبّر عن الآتي بالواقع مبالغة في تحققه وعند الطبراني من طريق معمر عن الزهري عن عروة غافر لكم وفي مغازي ابن عائذ من مرسل عروة: اعملوا ما شئتم فسأغفر لكم.
قال القرطبي: وهذا الخطاب قد تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السابقة وتأهلوا أن تغفر لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت منهم، وما أحسن قول بعضهم:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
وليس المراد أنهم نجزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة بل لهم صلاحية أن يغفر لهم ما عساه أن يقع، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء وجود ذلك الشيء وحمله البرماوي على أنهم لم يقع منهم ذنب في المستقبل ينافي عقيدة الدين بدليل قبوله عليه الصلاة والسلام عذره لما علم من صحة عقيدته وسلامة قلبه وقيل المراد غفران الماضي لا المستقبل، وتعقب بأن هذا الصادر من
حاطب إنما وقع في المستقبل لأنه صدر منه بعد بدر فلو كان للماضي لم يحصل التمسك به هنا، وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله عليه الصلاة والسلام في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدرو شيء من أحد منهم لبادر إلى التوبة ولازم الطريقة المثلى كما لا يخفى والمراد الغفران لهم في الآخرة وإلاّ فلو توجه على أحد منهم حدّ مثلاً استوفي منه بلا ريب.

( قال سفيان) : بن عيينة ( وأيّ إسناد هذا) ! أي عجبًا لجلالة رجاله لأنهم الأكابر العدول الأيقاظ والثقات الحفاظ.