فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم؟

باب هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ؟ وَمُعَامَلَتِهِمْ
هذا ( باب) بالتنوين ( هل يستشفع) بضم أوله وفتح الفاء ( إلى أهل الذمة ومعاملتهم) بالجر عطفًا على الجملة المضاف إليها لفظ الباب، ووقع في رواية ابن شبويه عن الفربري وهو عند الإسماعيلي تأخير باب جوائز الوفد عن باب: هل يستشفع وهو أوجه لأن ما ساقه من الحديث مطابق لترجمة جوائز الوفد لأنه قال فيه وأجيزوا الوفد وكأنه كتب باب جوائز الوفد ثم بيض له ليسوق فيه حديثًا يليق به فلم يقع له ذلك، وأسقط النسفيّ هذه الترجمة أصلاً واقتصر على ترجمة هل يستشفع.


[ قــ :2916 ... غــ : 3053 ]
- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: "يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ.
ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ
الْحَصْبَاءَ فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَقَالَ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا.
فَتَنَازَعُوا، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ.
فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ.
وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ".
.

     وَقَالَ  يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَقَالَ: مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ.
.

     وَقَالَ  يَعْقُوبُ: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ.

وبه قال: ( حدّثنا قبيصة) بن عقبة قال: ( حدّثنا ابن عيينة) سفيان ولم يقع لقبيصة في هذا الكتاب رواية عن ابن عيينة إلا هذه وروايته فيه عن سفيان الثوري كثيرة جدًّا، وحكى الجياني عن رواية ابن السكن عن الفربري في هذا قتيبة بدل قبيصة، وقد أخرجه المؤلّف في المغازي عن قتيبة ومسلم في الوصايا عن سعيد بن منصور وقتيبة وابن أبي شيبة والناقد عن ابن عيينة ( عن سليمان) بضم أوله وفتح ثانيه ( الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: يوم الخميس) .
قال الكرماني: خبر المبتدأ المحذوف أو بالعكس نحو يوم الخميس يوم الخميس نحو: أنا أنا والغرض منه تفخيم أمره في الشدة والمكروه وهو امتناع الكتاب فيما يعتقده ابن عباس ( وما يوم الخميس) ؟ أي أيّ يوم هو تعجب منه لما وقع فيه من وجعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( ثم بكى حتى خضب) بفتح الخاء والضاد المعجمتين والموحدة أي رطب وبلل ( دمعه الحصباء.
فقال: اشتد برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجعه)
الذي توفي فيه ( يوم الخميس فقال) :
( ائتوني بكتاب) أي ائتوني بأدوات كتاب كالقلم والدواة أو أراد بالكتاب ما من شأنه أن يكتب فيه نحو الكاغد والكتف ( اكتب لكم) بجزم أكتب جوابًا للأمر ويجوز الرفع على الاستئناف وهو من باب المجاز أي آمر أن يكتب لكم ( كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا فتنازعوا) في باب كتابة العلم من كتابه قال عمر: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط ( ولا ينبغي عند نبي) من الأنبياء ( تنازع) في كتاب العلم قال أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع ففيه التصريح بأنه من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا من قول ابن عباس، والظاهر أن هذا الكتاب الذي أراده إنما هو في النص على خلافة أبي بكر، لكنهم لما تنازعوا واشتدّ مرضه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عدل عن ذلك معوّلاً على ما أصله من استخلافه في الصلاة.

وعند مسلم عن عائشة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ادعي لي أبا بكر وأخاك أكتب كتابًا فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر".

وعند البزار من حديثها لما اشتد وجعه عليه الصلاة والسلام قال: "ائتوني بدواة وكتف أو قرطاس أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف الناس عليه" ثم قال: "معاذ الله أن يختلف الناس على أبي
بكر" فهذا نص صريح فيما ذكرناه وأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما ترك كتابًا معوّلاً على أنه لا يقع إلا كذلك وهذا يبطل قول من قال: إنه كتاب بزيادة أحكام وتعليم وخشي عمر عجز الناس عن ذلك.

( فقالوا: هجر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح الهاء والجيم من غير همز في أوله بلفظ الماضي، وقد ظن ابن بطال أنها بمعنى اختلط، وابن التين أنها بمعنى هذى وهذا غير لائق بقدره الرفيع إذ يقال إن كلامه غير مضبوط في حالة من الحالات بل كل ما يتكلم به حق صحيح لا خلف فيه ولا غلط سواء كان في صحة أو مرض أو نوم أو يقظة أو رضًا أو غضب.
ويحتمل أن يكون المراد أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هجركم من الهجر الذي هو ضد الوصل لما قد ورد عليه من الواردات الإلهية، ولذا قال في الرفيق الأعلى.
وقال النووي: وإن صح بدون الهمزة فهو لما أصابه الحيرة والدهشة لعظيم ما شاهده من هذه الحالة الدالة على وفاته وعظم المصيبة أجرى الهجر مجرى شدة الوجع.
قال الكرماني: فهو مجاز لأن الهذيان الذي للمريض مستلزم لشدة وجعه فأطلق الملزوم وأراد اللازم، وللمستملي والحموي: أهجر بهمزة الاستفهام الإنكاري أي أهذى إنكارًا على من قال: لا تكتبوا أي لا تجعلوه كأمر من هذى في كلامه أو على من ظنه بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك الوقت لشدة المرض عليه.

( قال) عليه الصلاة والسلام: ( دعوني) أي اتركوني ( فالذي أنا فيه) من المراقبة والتأهب للقاء الله والتفكّر في ذلك ( خير مما تدعوني إليه) من الكتابة ونحوها ( وأوصى) عليه الصلاة والسلام ( عند موته بثلاث) فقال: ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وفي ما بين عدن إلى ريف العراق طولاً ومن جدة إلى أطراف الشام عرضًا قاله الأصمعي فيما رواه عنه أبو عبيد، وقال الخليل: سميت جزيرة العرب لأن بحر فارس وبحر الحبش والعراق ودجلة أحاطت بها وهي أرض العرب ومعدنها ولم يتفرغ أبو بكر -رضي الله عنه- لذلك فأجلاهم عمر -رضي الله عنه-، وقيل إنهم كانوا أربعين ألفًا ولم ينقل عن أحد من الخلفاء أنه أجلاهم من اليمن مع أنها من جزيرة العرب.
( وأجيزوا الوفد بنحو ما) ولأبي الوقت بنحو مما ( كنت أجيزهم) قال ابن المنير: والذي بقي من هذا الرسم ضيافات الرسل وإقطاعات الأعرابي ورسومهم في أوقات منه إكرام أهل الحجاز إذا وفدوا.
قال ابن عيينة كما عند الإسماعيلي هنا والبخاري في الجزية أو سليمان الأحول كما في مسند الحميدي أو سعيد بن جبير كما عند النووي في شرح مسلم ( ونسبت الثالثة) .
هي إنفاذ جيش أسامة، وكان المسلمون اختلفوا في ذلك على أبي بكر فأعلمهم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عهد بذلك عند موته أو هي قوله: "لا تتخذوا قبري وثنًا" قال في المقدمة: ووقع في صحيح ابن حبان ما يرشد إلى أنها الوصية بالأرحام.

( وقال يعقوب بن محمد) الزهري فيما وصله إسماعيل القاضي في أحكامه ( سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب فقال) : هي ( مكة والمدينة واليمامة واليمن) .
وهذا موافق لما روي عن مالك إمام دار الهجرة.

( وقال يعقوب) : بن محمد المذكور ( والعرج) بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها جيم قرية جامعة من الفرع على نحو ثمانية وسبعين ميلاً من المدينة ( أول تهامة) .
بكسر المثناة الفوقية.
وقد استدلّ بهذا الحديث إمامنا الشافعي من العلماء على منع إقامة الكافر ذميًّا كان أو حربيًّا بمكة والمدينة واليمامة وقراهن وما تخلل ذلك من الطرق فلا يقر في شيء منها بجزية ولا بغيرها لشرفها.
نعم لا يمنع من ركوب بحر الحجاز لأنه ليس موضع إقامة بخلاف جزائره وقرى الأماكن المذكورة، وكذا لا يمنع من الإقامة باليمن لأنه ليس من الحجاز وإن كان من جزيرة العرب لأن عمر أجلى أهل الذمة من الحجاز وأقرّهم فيما عداه من اليمن ولم يخرجهم هو ولا أحد من الخلفاء منه، وإنما أخرج أهل نجران من جزيرة العرب وليست من الحجاز لنقضهم العهد بأكلهم الربا المشروط عليهم تركه وكذا يمنع من دخول الحرم المكي فلا يدخله لمصلحة ولا لغيرها لقوله تعالى: { فلا يقربوا المسجد الحرام} والمراد جميع الحرم لقوله تعالى: { وإن خفتم عيلة} [التوبة: 28] أي فقرًا بمنعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم من قدومهم من المكاسب { فسوف يغنيكم الله من فضله} ومعلوم أن الجلب إنما يجلب إلى البلد لا إلى المسجد نفسه فلو دخل كافر بغير إذن الإمام أخرجه وعزره إن علم أنه ممنوع ومنه وإن أذن الإمام أو نائبه له في الدخول للحجاز خارج الحرم لمصلحة لنا من رسالة أو عقد هدنة أو حمل ميرة أو متاع نحتاجه فلا يقيم فيه أكثر من أربعة أيام ولا يمنع من دونها وليس حرم المدينة كحرم مكة فيما ذكر لاختصاصه بالنسك وثبت أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أدخل الكفار مسجده وكان ذلك بعد نزول سورة براءة، وجوّز أبو حنيفة -رحمه الله- دخولهم حرم مكة.
وقال العيني: مذهب أبي حنيفة أنه لا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم كفار رواه أبو داود، والآية محمولة على منعهم أن يدخلوه مستولين عليه ومستعلين على أهل الإسلام من حيث القيام بعمارة المسجد.