فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب: الغنيمة لمن شهد الوقعة

باب الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ
هذا ( باب) بالتنوين ( الغنيمة لمن شهد الوقعة) لا لمن غاب عنها.


[ قــ :2984 ... غــ : 3125 ]
- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه-: "لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْبَرَ".

وبه قال: ( حدّثنا صدقة) هو ابن الفضل المروزي قال: ( أخبرنا عبد الرحمن) هو ابن مهدي
البصري ( عن مالك) الإمام ( عن زيد بن أسلم) مولى عمر بن الخطاب ( عن أبيه) أسلم أنه ( قال: قال عمر -رضي الله عنه-: لولا آخر المسلمين) الذين لم يوجدوا بعد ( ما فتحت قرية إلا قسمتها) أي أرضها خاصة ( بين أهلها) الفاتحين لها لأن ذلك حقهم بطريق الأصالة، لكنه رضي الله عنه رأى أنه إذا فعل ذلك لم يبق شيء لمن يجيء بعد ممن يسد من الإسلام مسدًّا، فاقتضى حسن نظره -رضي الله عنه- أن يفعل في ذلك أمرًا يسع أولهم وآخرهم فوقفها وضرب عليها الخراج للغانمين ولمن يجيء بعدهم من المسلمين ومنه بيعها وأن الحكم في أرض العنوة أن تقسم ( كما قسم النبي خيبر) أي بين من شهدها كما تقسم الغنائم.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: الإمام بالخيار إن شاء خمسها وقسم أربعة أخماسها وإن شاء تركها أرض خراج، واحتج لهم بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن قسم خيبر بكمالها ولكنه قسم طائفة منها على ما احتج به عمر -رضي الله عنه- في هذا الحديث، وترك طائفة منها فلم يقسمها على ما روي عن ابن عباس وابن عمر وجابر، والذي كان قسمه منها هو الشق والنطاة وترك سائرها.
وعن سهل بن أبي حثمة فيما رواه الطحاوي قال: قسم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيبر نصفين نصفًا لنوائبه وحاجته ونصفًا بين المسلمين ففيه أنه كان وقف نصفها لنوائبه وحاجته وقسم بقيتها بين من شهدها، وأن الذي وقفه منها هو الذي كان دفعه إلى اليهود مزارعة على ما في حديث ابن عمر وجابر.
قال الطحاوي: فعلمنا من ذلك أنه قسم وله أن يقسم وترك وله أن يترك فثبت بذلك أن هذا حكم الأراضي المفتتحة للإمام أن يقسمها إن رأى ذلك صلاحًا للمسلمين كما قسم عليه الصلاة والسلام ما قسم من خيبر وله تركها إن رأى ذلك صلاحًا للمسلمين، وقد فعل عمر ذلك في أرض السواد بإجماع الصحابة فتركها للمسلمين أرض خراج لينتفع بها من كان في عصره من المسلمين ومن بعدهم.

وأجاب الشافعي فيما قاله ابن المنذر: بأن عمر استطاب أنفس الغانمين الذين فتحوا أرض السواد، وتعقب بأنه مخالف لتعليل عمر بقوله: لولا آخر المسلمين.

وأجيب: وبأن معناه لولا آخر المسلمين ما استطبت أنفس الغانمين.

وروى الطحاوي عن عبد الله بن عمر بن العاصي أن أباه لما فتح أرض مصر جمع من كان معه من الصحابة واستشارهم في قسمة أرضها بين من شهدها كما قسم بينهم غنائمها وكما قسم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيبر بين من شهدها أو يوقفها حتى يراجع عمر -رضي الله عنه- فقال نفر منهم فيهم ابن الزبير بن العوّام: والله ما ذاك إليك ولا إلى عمر إنما هي أرض فتحها الله عز وجل علينا وأوجفنا عليها خيلنا ورجالنا وحوينا ما فيها، وقال نفر منهم: لا تقسمها حتى نراجع أمير المؤمنين فيها فاتفق رأيهم على أن يكتبوا إلى عمر في ذلك، فكتب إليهم عمر بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فقد وصل إليّ ما كان من إجماعكم على أن تفيئوا عطايا المسلمين ومؤن من يغزو العدوّ من أهل الكفر وإني إن قسمتها عليكم لم يكن لمن بعدكم من المسلمين مادة يغزون بها عدوّهم ولولا ما أحمل عليه في سبيل الله عز وجل وأدفع عن المسلمين من مؤنهم وأجري على
ضعفائهم وأهل الديوان منهم لقسمتها بينكم فأوقفوها فيئًا على من بقي من المسلمين حتى تنقرض آخر عصابة تغزو من المؤمنين والسلام عليكم.

ولما وضع عمر الخراج على أرض العراق وطلبوا منه أن يقسمها بينهم واحتجوا عليه بقوله تعالى: { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} إلى قوله: { وابن السبيل} [الحشر: 7] ثم قال: { للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8] فأدخلهم معهم، ثم قال: { والذين تبوؤوا الدار والإيمان} يريد الأنصار فأدخلهم معهم احتج عليهم بقوله تعالى: { والذين جاؤوا من بعدهم} فأدخل فيهم من يجيء من بعدهم.

فإن قلت: لم لا يكون قوله: { والذين جاؤوا من بعدهم} استئنافًا والخبر في قوله تعالى: { يقولون ربنا اغفر لنا} [الحشر: 9 - 10] يكون الفرق بين هؤلاء الذين لم يوجدوا بعد وبين الدين تبوؤوا الدار وهم الأنصار وكانوا يحضرون الوقائع فيستحقون كالمهاجرين، وأما هؤلاء فلا يوجد فيهم الاستحقاق ولم تدع ضرورة إلى العطف لإمكان الاستئناف؟ أجيب: بأن الاستئناف هنا لا يصح لأنه حينئذٍ يكون خبرًا عن كل من جاء بعد الصحابة أن يستغفر لهم وقد وقع خلاف هذا من أكثر الرافضة وغيرهم من السابين غير المستغفرين، فلو كان خبرًا لزم الخلف وهو باطل، فإذا جعلنا ذلك معطوفًا أدخلنا الذين جاؤوا من بعدهم في الاستحقاق للغنيمة وجعلنا قوله يقولون جملة حالية كالشرط للاستحقاق كأنه قال: يستحقون في حالة الاستغفار وبشرطه، ولهذا قال مالك: لا حق لمن سب السلف في الفيء وحينئذٍ فلا يلزم خلف، والذي تقرر أن مذهب الحنفية والحنابلة أن الإمام مخير فيما فتح عنوة بين قسمة أرضه كالمنقولات ووقفها، وأن مذهب الشافعية قسمتها على من حضر الوقعة وعن المالكية أنها تصير وقفًا بنفس الظهور، وقال الشافعية في أرض الفيء: يقفها الإمام لتبقى الرقبة مؤيدة وينتفع بغلتها المستحق كل عام بخلاف المنقول فإنه معرض للهلاك وبخلاف الغنيمة فإنها بعيدة عن نظر الإمام واجتهاده لتأكد حق الغانمين وأن الإمام إن رأى قسمة أرض الفيء أو بيعها وقسمة ثمنها جاز لكن لا يقسم سهم المصالح بل يقوف وتصرف غلته في المصالح أو يباع ويصرف ثمنه إليها.