فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب

باب الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ, مَعَ أَهْلِ الذمة والْحَرْبِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] يعْنِي أَذِلاَّءُ.
وَمَا جَاءَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ.

     وَقَالَ  ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ:.

قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ.

( بسم الله الرحمن الرحيم) وسقطت البسملة لأبي ذر.

( باب الجزية) بكسر الجيم وهي مال مأخوذ من أهل الذمة لإسكاننا إياهم في دارنا أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم أو لكفنا عن قتالهم ( والموادعة) والمراد بها متاركة أهل الحرب مدة معينة لمصلحة ( مع أهل الذمة والحرب) لف ونشر مرتب لأن الجزية مع أهل الذمة والموادعة مع أهل الحرب ( وقول الله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} ) كإيمان الموحدين ( { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} ) يعني الخمر والميسر ( { ولا يدينون دين الحق} ) لا يتدينون بدين الإسلام ( { من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية} ) إن لم يسلموا ( { عن يد} ) أي عن قهر وغلبة ( { وهم صاغرون} ) [التوبة: 29] قال البخاري مفسرًا لقوله: { صاغرون} ( أذلاء) ولأبي ذر يعني أذلاء وزاد أبو ذر وابن عساكر والمسكنة مصدر المسكين يقال: فلان أسكن من فلان أي أحوج منه فهو من المسكنة ولم يذهب أي البخاري إلى السكون، ووجه ذكره المسكنة هنا أنه فسر الصغار بالذلة وجاء في وصف أهل الكتاب ضربت عليهم الذلة والمسكنة فناسب ذكرها عند ذكر الذلة وساق في رواية أبي ذر وابن عساكر إلى قوله: { ولا يحرمون} ثم قال إلى قوله: { وهم صاغرون} ( وما جاء في أخذ الجزية من اليهود والنصارى) أهل الكتاب ( والمجوس) الذين لهم
شبهة كتاب ( والعجم) وهذا قول أبي حنيفة تؤخذ الجزية من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين.
وعند الشافعي وأحمد: لا تؤخذ إلا ممن له كتاب أو شبهة كتاب فلا تؤخذ من عبدة الأوثان والشمس والقمر ومن في معناهم ولا من المرتد لأن الله تعالى أمر بقتل جميع المشركين إلى أن يسلموا بقوله: { اقتلوا المشركين} [التوبة: 5] الآية السابقة وتؤخذ أيضًا ممن زعم أنه متمسك بصحف إبراهيم وزبور داود ومن أحد أبويه كتابي والآخر وثني وعن مالك تقبل من جميع الكفار إلا من ارتد.

( وقال ابن عيينة) سفيان مما وصله عبد الرزاق ( عن ابن أبي نجيح) بفتح النون وكسر الجيم وبعد التحتية الساكنة حاء مهملة عبد الله ( قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام) أي من أهل الكتاب ( عليهم) أي في الجزية ( أربعة دنانير وأهل اليمن) من أهل الكتاب ( عليهم) فيها ( دينار؟) واحد ( قال: جعل ذلك من قبل اليسار) بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهة اليسار وفيه جواز التفاوت في الجزية وأقلها عند الشافعية والجمهور دينار في كل حول ومن متوسط الحال ديناران ومن الموسر أربعة استحبابًا.


[ قــ :3014 ... غــ : 3156 ]
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرًا قَالَ: "كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ -عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ- عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الأَحْنَفِ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ.
وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ".

وبه قال: ( حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: ( حدّثنا سفيان) بن عيينة ( قال: سمعت عمرًا) هو ابن دينار ( قال: كنت جالسًا مع جابر بن زيد) أي الشعثاء البصري ( وعمرو بن أوس) بفتح العين وأوس بفتح الهمزة وسكون الواو بعدها سين مهملة الثقفي المكي ( فحدثهما بجالة) بفتح الموحدة والجيم المخففة واللام بعدها هاء تأنيث ابن عبدة بالمهملتين بينهما موحدة مفتوحات التميمي البصري التابعي وليس له في البخاري إلا هذا ( سنة سبعين) بالموحدة بعد السين ( عام حج مصعب بن الزبير) بن العوّام ( بأهل البصرة) وحج معه بجالة كما عند أحمد وكان مصعب أميرًا على البصرة من قبل أخيه عبد الله بن الزبير ( عند درج زمزم قال: كنت كاتبًا لجزء بن معاوية) بفتح الجيم وبعد الزاي الساكنة همزة عند المحدثين وقيده أهل النسب بكسر الزاي بعدها تحتية ساكنة ثم همزة ( عم الأحنف) بن قيس وكان معدودًا في الصحابة ( فأتانا كتاب عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- ( قبل موته) أي موت عمر ( بسنة) سنة اثنتين وعشرين ( فرّقوا بين كل ذي محرم) بينهما زوجية ( من المجوس) .
فإن قلت: السنة أن لا يكشفوا عن بواطن أمورهم وعما يستحلون به من مذاهبهم في الأنكحة وغيرها؟ أجاب الخطابي بأن أمر عمر -رضي الله عنه- بالتفرقة بين
الزوجين المراد منه أن يمنعوا من إظهاره للمسلمين والإشارة به في مجالسهم التي يجتمعون فيها للملاك كما يشترط على النصارى أن لا يظهروا صليبهم ولا يفشوا عقائدهم.




[ قــ :3014 ... غــ : 3157 ]
- حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرٍ".

( ولم يكن عمر) -رضي الله عنه- ( أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها من مجوس هجر) بفتح الهاء والجيم بالصرف ولأبي ذر بعدمه.
قال الجوهري: اسم بلد مذكر مصروف.
وقال الزجاجي: يذكر ويؤنث وفي الترمذي فجاءنا كتاب عمر انظر مجوس من قبلك فخذ منهم الجزية فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني فذكره، وفي الموطأ بإسناد رواته ثقات إلا أنه منقطع عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس.
فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
قال ابن عبد البر: أي في الجزية فقط، واستدلّ بقوله سنة أهل الكتاب على أنهم ليسوا أهل كتاب.
نعم روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن عليّ: كان المجوس أهل كتاب يقرؤونه وعلم يدرسونه فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم وقال: إن آدم كان ينكح أولاده بناته فأطاعوه وقتل من خالفه فأسرى على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه فلم يبق عندهم منه شيء.

وحديث الباب أخرجه وأبو داود أيضًا في الخراج والترمذي في السنن وكذا النسائي.




[ قــ :3015 ... غــ : 3158 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الأَنْصَارِيَّ -وَهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَىٍّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا صَلَّى بِهِمِ الْفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَآهُمْ.

     وَقَالَ : أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَىْءٍ , قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".

وبه قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة ( عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه ( قال: حدّثني) بالإفراد ( عروة بن الزبير) بن العوّام ( عن المسور بن مخرمة أنه أخبره أن عمرو بن عوف) بفتح العين وسكون الميم ( الأنصاري) عدة ابن
إسحاق وابن سعد ممن شهد بدرًا من المهاجرين وهو موافق لقوله هنا ( وهو حليف لبني عامر بن لؤي) لأنه يشعر بكونه مكيًّا ويحتمل أن يكون أصله من الأوس والخزرج ثم نزل مكة وحالف بعض أهلها فبهذا الاعتبار يكون أنصاريًّا مهاجريًّا ( وكان شهد بدرًا أخبره أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث أبا عبيدة بن الجراح) هو عامر بن عبد الله بن الجراح أمين هذه الأمة ( إلى البحرين) البلد المشهور بالعراق ( يأتي بجزيتها) ، أي بجزية أهلها وكان أكثر أهلها إذ ذاك المجوس ( وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو صالح أهل البحرين) في سنة الوفود سنة تسع من الهجرة ( وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي) الصحابي المشهور ( فقدم أبو عبيدة) بن الجراح ( بمال من البحرين) ، وكان فيما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن حميد بن هلال مائة ألف وهو أوّل خراج قدم به عليه ( فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت) من الموافاة ولأبي ذر عن الكشميهني فوافقت بالقاف بعد الفاء من الموافقة ( صلاة الصبح) ولابن عساكر فوافت الصبح ( مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما صلّى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين رآهم وقال) :
( أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء قالوا: أجل) .
أي نعم ( يا رسول الله قال: فأبشروا) بهمزة قطع ( وأملوا) بهمزة مفتوحة فميم مكسورة مشددة من غير مدّ من التأميل.
وقال الزركشي: الأمل الرجاء يقال أملته فهو مأمول.
قال الدماميني: مقتضاه أن تكون وأملوا بهمزة وصل وميم مضمومة اهـ.
وضبطها الصغاني بالوجهين ( ما يسركم) ففيه البشرى من الإمام لأتباعه وتوسيع أملهم ( فوالله لا الفقر أخشى عليكم) بنصب الفقر مفعول أخشى ( ولكن أخشى عليكم أن تبسط) بضم أوله وفتح ثالثه وأن مصدرية أي بسط ( عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم) وسقط لابن عساكر لفظة كان ( فتنافسوها كما تنافسوها) ولغير الكشميهني: فتنافسوا كما تنافسوا بإسقاط الهاء فيهما والذي في الفرع بإسقاطها في الأولى فقط وكذا في أصله ( وتهلككم كما أهلكتهم) فيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى الهلاك في الدين.




[ قــ :3016 ... غــ : 3159 ]
- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: "بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الأَمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ، فَقَالَ: إِنِّي مُسْتَشِيرُكَ فِي مَغَازِيَّ هَذِهِ.
قَالَ: نَعَمْ، مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلاَنِ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلاَنِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ.
فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلاَنِ وَالرَّأْسُ.
وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتِ الرِّجْلاَنِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ.
فَالرَّأْسُ كِسْرَى وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ وَالْجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ.
فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى.
.

     وَقَالَ  بَكْرٌ وَزِيَادٌ جَمِيعًا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ.
حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَامَ تُرْجُمَانٌ فَقَالَ:
لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ.
فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ.
قَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلاَءٍ شَدِيدٍ.
نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنَ الْجُوعِ.
وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ.
وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ.
فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرَضِينَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ- إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ.
وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ.
وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ" [الحديث 3159 - طرفه في: 7530] .

وبه قال: ( حدّثنا الفضل بن يعقوب) البغدادي قال: ( حدّثنا عبد الله بن جعفر الرقي) بفتح الراء وكسر القاف المشددتين نسبة إلى الرقة مدينة بالقرب من الفرات قال: ( حدّثنا المعتمر بن سليمان) بسكون العين المهملة وفتح الفوقية وكسر الميم وليس هو المعمر بفتح المهملة وتشديد الميم المفتوحة ولا المعمر بسكون العين ابن راشد قال: ( حدّثنا سعيد بن عبيد الله) بضم العين وفتح الموحدة مصغرًا ابن جبير بن حيّة ( الثقفي) قال: ( حدّثنا بكر بن عبد الله) بسكون الكاف ( المزني) البصري ( وزياد بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة وهو عم سعيد بن عبيد الله كلاهما ( عن) والد زياد ( جبير بن حية) بفتح الحاء المهملة والتحتية المشددة ابن مسعود الثقفي أنه ( قال: بعث عمر) بن الخطاب -رضي الله عنهما- ( الناس في أفناء الأمصار) بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح النون ممدودًا والأمصار بالميم ولم أره بالنون في أصل من الأصول والمصر المدينة العظيمة ( يقاتلون المشركين) فلما كانوا بالقادسية أتاهم في الجيش الذين أرسلهم يزدجرد إلى قتال المسلمين فوقع بينهم قتال عظيم لم يعهد مثله مستهل المحرم سنة أربع عشرة وأبلى في ذلك اليوم جماعة من الشجعان كطليحة الأسدي وعمرو بن معد يكرب وضرار بن الخطاب، وأرسل الله تعالى في ذلك اليوم ريحًا شديدة أرمت خيام الفرس من أماكنها وهرب رستم مقدم الجيش وأدركه المسلمون وقتلوه وانهزمت الفرس، وقتل المسلمون منهم خلقًا كثيرًا ولم يزل المسلمون وراءهم إلى أن دخلوا مدينة الملك وهي المدائن التي فيها إيوان كسرى وكان الهرمزان بضم الهاء وسكون الراء وضم الميم وتخفيف الزاي واسمه رستم من جملة الهاربين ووقعت بينه وبين المسلمين وقعة ثم وقع الصلح بينه وبينهم ثم نقضه، فجمع أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- الجيش وحاصروه فسأل الأمان إلى أن يحمل إلى عمر -رضي الله عنه- فوجهه أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- مع أنس إليه ( فأسلم الهرمزان) طائعًا وصار عمر يقربه ويستشيره ( فقال) له: ( إني مستشيرك في مغازي هذه) بتشديد ياء مغازي أي فارس وأصبهان وأذربيجان كما عند ابن أبي شيبة أي بأيها نبدأ لأن الهرمزان كان أعلم بشأنها من غيره.
( قال) الهرمذان: ( نعم مثلها) أي الأرض التي دل عليها السياق ( ومثل من فيها من الناس من عدوّ المسلمين مثل طائر له رأس) برفع مثل خبر المبتدأ الذي هو مثلها وما بعده عطف عليه ( وله جناحان وله رجلان فإن كسر) بضم الكاف مبنيًّا للمفعول ( أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس) بالرفع عطفًا على الرجلان ولأبي ذرّ والرأس بالجر عطفًا على بجناح ( فإن
كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس وإن شدخ)
بضم الشين المعجمة بعد الدال المهملة المكسورة خاء معجمة أي كسر ( الرأس ذهبت الرجلان والجناحان والرأس) فإذا فات الرأس فات الكل ( فالرأس كسرى) بكسر الكاف وتفتح ( والجناح قيصر) غير منصرف صاحب الروم ( والجناح الآخر فارس) غير منصرف اسم الجبل المعروف من العجم، وتعقب هذا بأن كسرى لم يكن رأسًا للروم.
وأجيب: بأن كسرى كان رأس الكل لأنه لم يكن في زمانه ملك أكبر منه لأن سائر ملوك البلاد كانت تهادنه وتهاديه ولم يقل في الحديث والرجلان اكتفاء بالسابق للعلم به فرجل قيصر الفرنج مثلاً لاتصالها به وكسرى الهند مثلاً قاله الكرماني ( فمر المسلمين فلينفروا) بكسر الفاء ( إلى كسرى) فإنه الرأس وبقطعها يبطل الجناحان.

( وقال بكر) هو ابن عبد الله المزني ( وزياد) هو ابن جبير ( جميعًا عن جبير بن حيّة فندبنا) بفتح الدال والموحدة أي طلبنا ودعانا ( عمر) -رضي الله عنه- للغزو ( واستعمل علينا النعمان بن مقرن) بالميم المضمومة والقاف المفتوحة وبعد الراء المشددة المكسورة نون المزني الصحابي أميرًا ( حتى إذا) أي سرنا حتى إذا ( كنا بأرض العدوّ) وهي نهاوند وكان قد خرج معهم فيما رواه ابن أبي شيبة الزبير وحذيفة وابن عمرو الأشعث وعمرو بن معد يكرب ( وخرج) بالواو وسقطت لأبي ذر وابن عساكر ( علينا عامل كسرى) بندار كما عند الطبراني من رواية مبارك بن فضالة وعند ابن أبي شيبة ذو الجناحين ( في أربعين ألفًا) من أهل فارس وكرمان ومن غيرهما كنهاوند وأصبهان مائة ألف وعشرة آلاف ( فقام ترجمان) بفتح أوّله وضمه لهم لم يسم ( فقال: ليكلمني رجل منكم) بالجزم على الأمر ( فقال المغيرة) : أي ابن شعبة الصحابي ( سل عما) بألف ولأبي ذر وابن عساكر عم ( شئت؟ قال) : أي الترجمان ولأبوي الوقت وذر فقال ( ما أنتم؟) بصيغة من لا يعقل احتقارًا ( قال) : أي المغيرة ( نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد نمص الجلد) بفتح الميم في الفرع وأصله ( والنوى من الجوع ونلبس الوبر والشعر ونعبد الشجر والحجر فبينا) بغير ميم ( نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين) بفتح الراء ( تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبيًّا من أنفسنا نعرف أباه وأمه) زاد في رواية ابن أبي شيبة في شرف منا أوسطنا حسبًا وأصدقنا حديثًا ( فأمرنا نبينا رسول ربنا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدّوا الجزية) وهذا موضع الترجمة وفيه دلالة على جواز أخذها من المجوس لأنهم كانوا مجوسًا.
( وأخبرنا نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن رسالة ربنا أنه من قتل منا) أي في الجهاد ( صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها) أي الجنة ( قط.
ومن بقي منا ملك رقابكم)
.
بالأسر وفيه كما قاله الكرماني فصاحة المغيرة من حيث إن كلامه مبين لأحوالهم فيما يتعلق بدنياهم من المطعوم والملبوس وبدينهم من العبادة وبمعاملتهم مع الأعداء من طلب التوحيد أو الجزية ولمعادهم في الآخرة إلى كونهم في الجنة وفي الدنيا إلى كونهم ملوكًا ملاكًا للرقاب.




[ قــ :3016 ... غــ : 3160 ]
- فَقَالَ النُّعْمَانُ: رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُنَدِّمْكَ وَلَمْ يُخْزِكَ وَلَكِنِّي
شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ".

( فقال النعمان) بن مقرن للمغيرة بن شعبة لما أنكر عليه تأخير القتال وذلك أن المغيرة كان قصد الاشتغال بالقتال أوّل النهار بعد الفراغ من المكالمة مع الترجمان: ( ربما أشهدك الله) أي أحضرك ( مثلها) مثل هذه الوقعة ( مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وانتظر بالقتال إلى الهبوب ( فلم يندمك) على التأني والصبر ( ولم يخزك) بالخاء المعجمة بغير نون، ولأبي ذر عن الكشميهني: ولم يحزنك بالحاء المهملة والنون والأوّل أوجه لوفاق سابقه فطلبك العجلة لأنك لم تضبط، ( ولكني شهدت القتال مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وضبطت ( كان إذا لم يقاتل في أوّل النهار انتظر) بالقتال ( حتى تهب الأرواح) جمع ريح بالياء وأصله روح بالواو بدليل الجمع الذي غالب حاله أن يردّ الشيء إلى أصله فقلبت واو المفرد ياء لسكونها وانكسار ما قبلها وحكى ابن جني في جمعه أرياح قال الزركشي لما رآهم قالوا رياح.
قال في المصابيح: إن اعتماد صاحب هذا القول على رياح وهم لأن موجب قلب الواو في رياح ثابت لانكسار ما قبلها كحياض جمع حوض ورياض جمع روض والمقتضي للقلب في أرياح مفقود والمعتمد في هذا إنما هو السماع اهـ.
وفي القاموس جمع الريح أرواح وأرياح ورياح وريح كعنب وجمع الجمع أراويح وأراييح.

( وتحضر الصلوات) بعد زوال الشمس كما عند ابن أبي شيبة وزاد في رواية الطبري ويطيب القتال وعند ابن أبي شيبة: وينزل النصر.

وفيه فضيلة القتال بعد الزوال، ويطابق الترجمة أيضًا في تأخير النعمان المقاتلة وانتظار هبوب الرياح وهذه موادعة في هذا الزمان مع الإمكان للمصلحة.