فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ما جاء في قول الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27]

كتاب بدء الخلق
سقطت البسملة لأبي ذر.
( كتاب بدء الخلق) قال في القاموس: بدأ به كمنع ابتدأ والشيء فعله ابتداء كابتدأه وأبدأه والله الخلق خلقهم والخلق بمعنى المخلوق، ورقم في اليونينية رقم علامة أبي ذر عن المستملي بثبوت كتاب بدء الخلق.
وقال العيني كالحافظ ابن حجر: وقع في رواية النسفي ذكر بدء الخلق بدل كتاب بدء الخلق.


باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيهِ} [الروم: 27] قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَالْحَسَنُ كُلٌّ عَلَيْهِ هَيِّنٌ.
هَيْنٌ وَهَيِّنٌ: مِثْلُ لَيْنٍ وَلَيِّنٍ، وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ، وَضَيْقٍ وَضَيِّقٍ.
{ أَفَعَيِينَا} : أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا.
حِينَ أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ.
{ لُغُوبٌ} : النَّصَبُ.
{ أَطْوَارًا} : طَوْرًا كَذَا، وَطَوْرًا كَذَا، عَدَا طَوْرَهُ: أَىْ قَدْرَهُ
( ما جاء) ولأبي ذر باب: ما جاء ( في قول الله تعالى: { وهو الذي يبدأ الخلق} ) أي المخلوق ( { ثم يعيده} ) بعد الإهلاك ثانيًا للبعث ( { وهو أهون عليه} ) [الروم: 27] .
أي الإعادة أسهل عليه من الأصل بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم وإلا فهما عليه سواء لا تفاوت عنده سبحانه بين الإبداء والإعادة وتذكير هو لأهون وسقط لغير أبي ذر وهو أهون عليه.

( قال) ولأبي ذر: وقال ( الربيع) بفتح الراء ( ابن خثيم) بضم الخاء المعجمة وفتح المثلثة وسكون التحتية الثوري الكوفي التابعي مما وصله الطبري أيضًا من طريق منذر الثوري عنه ( و) قال ( الحسن) البصريّ مما وصله الطبري أيضًا من طريق قتادة عنه ( كل عليه هين) بتشديد الياء ( هين) بسكونها ولأبي ذر: وهين بالواو مع التخفيف أيضًا ( وهين) بالتشديد يريد أنهما لغتان كما
جاء في ألفاظ أخر وهي ( مثل لين ولين، وميت وميت، وضيق وضيق) ثم أشار المؤلّف إلى قوله تعالى: ( { أفعيينا} ) [ق: 15] .
بالخلق الأول أي ( أفأعيا علينا حين أنشأكم وأنشأ خلقكم) أي ما أعجزنا الخلق الأول حين أنشأناكم وأنشأنا خلقكم حتى نعجز عن الإعادة من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه علمه والهمزة فيه للإنكار وعدل عن التكلم في قوله أنشأكم إلى الغيبة التفاتًا.
قال الكرماني: والظاهر أن لفظ حين أنشأكم إشارة إلى آية أخرى مستقلة وأنشأ خلقكم إلى تفسيره وهو قوله تعالى: { إذ أنشأكم من الأرض} [النجم: 32] .
فنقله البخاري بالمعنى حيث قال: حين أنشأكم بدل إذ أنشأكم أو هو محذوف في اللفظ واستغنى بالمفسر عن المفسر.

( { لغوب} ) [ق: 38] .
( النصب) يشير إلى قوله تعالى: { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّنا من لغوب} [ق: 38] .
من تعب ولا نصب ولا إعياء وهو ردّ لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.

وقد أجمع علماء الإسلام قاطبة على أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كما دل عليه القرآن.
نعم اختلفوا في هذه الأيام أهي كأيامنا هذه أو كل يوم كألف سنة على قولين والجمهور على أنها كأيامنا هذه.

وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك وكعب أن كل يوم كألف سنة مما تعدون.
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وحكى ابن جرير في أول الأيام ثلاثة أقوال: فروي عن محمد بن إسحاق أنه قال: يقول أهل التوراة ابتدأ الله الخلق يوم الأحد ويقول أهل الإنجيل ابتدأ الله الخلق يوم الاثنين، ونقول نحن المسلمون فيما انتهى إلينا عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابتدأ الله الخلق يوم السبت، ويشهد له حديث أبي هريرة خلق الله التربة يوم السبت والقول بأنه الأحد رواه ابن جرير عن السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن جماعة من الصحابة وهو نص التوراة، ومال إليه طائفة آخرون وهو أشبه بلفظ الأحد فبهذا كمل الخلق في ستة أيام فكان آخرهن الجمعة فاتخذه المسلمون عيدهم في الأسبوع.

( { أطوارًا} ) [نوح: 14] .
أشار إلى قوله تعالى: { وقد خلقكم أطوارًا} أي ( طورًا كذا، وطورًا كذا) .
مرتين أي خلقهم تارات إذ خلقهم أولاً عناصر ثم مركبات ثم أخلاطًا ثم نطفًا ثم علقًا ثم مضغًا ثم عظامًا ولحومًا ثم أنشأهم خلقًا آخر فإنه يدل على أنه يمكن أن يعيدهم تارة أخرى ويقال فلان ( عدا طوره أي قدره) أي: جاوزه وسقط لابن عساكر لفظة ( أي) .


[ قــ :3044 ... غــ : 3190 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا بَنِي تَمِيمٍ أَبْشِرُوا.
فقَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا.
فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ.
فَجَاءَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْيَمَنِ اقْبَلُوا
الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ.
قَالُوا: قَبِلْنَا.
فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُ بَدْءَ الْخَلْقِ وَالْعَرْشِ.
فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ رَاحِلَتُكَ تَفَلَّتَتْ.
لَيْتَنِي لَمْ أَقُمْ".
[الحديث 3190 - أطرافه في: 3191، 4365، 4386، 7418] .

وبه قال: ( حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي قال: ( أخبرنا سفيان) الثوري ( عن جامع بن شداد) بالمعجمة وتشديد الدال المهملة الأولى أبي صخر المحاربي ( عن صفوان بن محرز) بضم الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الراء بعدها زاي المازني البصري ( عن عمران بن الحصين) بضم أوله ( -رضي الله عنهما-) أنه ( قال: جاء نفر) عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة سنة تسع ( من بني تميم إلى النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال) :
( يا بني تميم أبشروا) .
بهمزة قطع بما يقتضي دخول الجنة وذلك حيث عرّفهم أصول العقائد التي هي المبدأ والمعاد وما بينهما ولما لم يكن جل اهتمامهم إلاّ بشأن الدنيا والاستعطاء ( قالوا) : ولأبي ذر: فقالوا ( بشرتنا) وإنما جئنا للاستعطاء ( فأعطنا) من المال قيل من القائلين الأقرع بن حابس وإن فيه بعض أخلاق البادية والفاء فصيحة ( فتغير وجهه) عليه السلام أسفًا عليهم كيف آثروا الدنيا أو لكونه لم يكن عنده ما يعطيهم فيتألفهم به ( فجاءه أهل اليمن) ، وهم الأشعريون قوم أبي موسى ( فقال) عليه الصلاة والسلام: ( يا أهل اليمن أقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا: قبلنا) ها ( فأخذ) أي شرع ( النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحدّث بدء الخلق) نصب بنزع الخافض ( والعرش.
فجاء رجل)
لم يسم ( فقال: يا عمران) يعني ابن حصين ( راحلتك) بالرفع على الابتداء، ولابن عساكر وأبي الوقت: إن راحلتك ( تفلتت) بالفاء أي تشرّدت قال عمران ( ليتني لم أقم) من مجلس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى لم يفتني سماع كلامه.

وهذا الحديث أخرجه في المغازي وبدء الخلق والتوحيد والترمذي في المناقب والنسائي في التفسير.




[ قــ :3045 ... غــ : 3191 ]
- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ.
فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ.
قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا ( مَرَّتَيْنِ) .
ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ.
قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ.
قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ.
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ.
وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ.
فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ الْحُصَيْنِ.
فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ.
فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا".

وبه قال: ( حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) بضم العين قال: ( حدّثنا أبي) حفص النخعي الكوفي قاضي بغداد أوثق أصحاب الأعمش قال: ( حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال: ( حدّثنا جامع بن شداد) المحاربي ( عن صفوان بن محرز) بضم الميم المازني ( أنه حدثه عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما-) أنه ( قال: دخلت على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال) عليه الصلاة والسلام لهم:
( اقبلوا البشرى يا بني تميم) أي أقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا بالجنة من التفقه في الدين ( قالوا: قد بشرتنا) للتفقه ( فأعطنا مرتين) أي من المال ( ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن) وهم الأشعريون وسقط قوله أهل لأبي ذر ( فقال) عليه الصلاة والسلام لهم: ( اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم) ولأبي ذر: إن لم ( يقبلها بنو تميم قالوا) : قد ( قبلنا) ها ( يا رسول الله.
قالوا: جئناك)
بكاف الخطاب مرقومًا عليها علامة الكشميهني وفي الفتح حذفها له وإثباتها لغيره ( نسألك) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: لنسألك ( عن هذا الأمر) كأنهم سألوه عن أحوال هذا العالم ( قال) عليه الصلاة والسلام مجيبًا لهم: ( كان الله) في الأزل منفردًا متوحدًا ( ولم يكن شيء غيره) وهذا مذهب الأخفش فإنه جوز دخول الواو في خبر كان وأخواتها نحو كان زيد وأبوه قائم على جعل الجملة خبرًا مع الواو أو ولم يكن شيء غيره حال أي كان الله حال كونه لم يكن شيء غيره، وأما ما وقع في بعض الكتب في هذا الحديث كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان.
فقال ابن تيمية: هذه زيادة ليست في شيء من كتب الحديث ( وكان عرشه على الماء) .

استشكل بأن الجملة الأولى تدل على عدم من سواه والثانية على وجود العرش والماء فالثانية مناقضة للأولى.
وأجيب: بأن الواو في وكان بمعنى ثم فليس الثانية من تمام الأولى بل مستقلة بنفسها وكان فيهما بحسب مدخولها ففي الأولى بمعنى الكون الأزلي، وفي الثانية بمعنى الحدوث بعد العدم.

وعند الإمام أحمد عن أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي أنه قال: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: "في عماء ما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء".

ورواه عن يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به ولفظه: أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه وباقيه سواء.
وأخرجه الترمذي عن أحمد بن منيع وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح ثلاثتهم عن يزيد بن هارون.
وقال الترمذي: حسن.

وفي كتاب صفة العرش للحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن بعض السلف أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء بعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة واتساعه خمسون ألف سنة وبعدما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة، وقد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة وربما سموه الفلك التاسع والفلك الأطلس.
قال ابن كثير: وهذا ليس بجيد لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة
والفلك لا يكون له قوائم ولا يحمل وأيضًا فإن العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك وليس هو فلك والقرآن إنما نزل بلغة العرب فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وكالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات اهـ.

وأشار بقوله: "وكان عرشه على الماء" إلى أنهما كانا مبدأ العالم لكونهما خلقا قبل كل شيء.

وفي حديث أبي رزين العقيلي مرفوعًا عند الإمام أحمد وصححه الترمذي أن الماء خلق قبل العرش وعن ابن عباس كان الماء على متن الريح.

وعند الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة قلت: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرّت عيني أنبئني عن كل شيء.
قال: "كل شيء خلق من الماء"، وهذا يدل على أن الماء أصل لجميع المخلوقات ومادّتها وأن جميع المخلوقات خلقت منه.

وروى ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن الله عز وجل كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانًا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسمي سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فكان ذلك الدخان من نفس الماء حين تنفس ثم جعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سماوات.
وقال الله تعالى: { والله خلق كل دابة من ماء} [النور: 45] .
وقول من قال إن المراد بالماء النطفة التي يخلق منها الحيوانات بعيد لوجهين.

أحدهما: أن النطفة لا تسمى ماء مطلقًا بل مقيدًا كقوله: { خُلِقَ من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب} [الطارق: 6] .
والثاني: أن من الحيوانات ما يتولد من غير نطفة كدود الخل والفاكهة فليس كل حيوان مخلوقًا من نطفة، فدلّ القرآن على أن كل ما يدب وكل ما فيه حياة من الماء ولا ينافي هذا قوله: { والجان خلقناه من قبل من نار السموم} [الحجر: 7] .
وقوله عليه الصلاة والسلام: "خلقت الملائكة من نور" فقد دلّ ما سبق أن أصل النور والنار الماء ولا يستنكر خلق النار من الماء بانحداره يصير بخارًا والبخار ينقلب هواء والهواء ينقلب نارًا.

( وكتب) أي قدر ( في) محل ( الذكر) وهو اللوح المحفوظ ( كل شيء) من الكائنات ( وخلق السماوات والأرض فنادى مناد) لم يسم ( ذهبت ناقتك يا ابن الحصين فانطلقت) خلفها ( فإذا هي يقطع دونها السراب) رفع على الفاعلية وهو بالمهملة الذي تراه نصف النهار كأنه ماء والمعنى فإذا هي يحول بيني وبين رؤيتها السراب ( فوالله لوددت) بكسر الدال الأولى ( أني كنت تركتها) ولم أقم لأنه قام قبل أن يكمل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديثه فتأسف على ما فاته من ذلك.




[ قــ :3045 ... غــ : 319 ]
- وَرَوَى عِيسَى عَنْ رَقَبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: "سَمِعْتُ عُمَرَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ".

( وروى) ولابن عساكر ورواه ( عيسى) هو ابن موسى البخاري بالموحدة والخاء المعجمة التيمي الملقب بغنجار بغين معجمة مضمومة فنون ساكنة فجيم وبعد الألف راء لاحمرار خدّيه المتوفى سنة سبع أو ست وثمانين ومائة وليس له في البخاري إلا هذا الموضع ( عن رقبة) بفتح الراء والقاف والموحدة ابن مصقلة بالصاد المهملة والقاف العبدي الكوفي كذا للأكثر وسقط منه رجل بين عيسى ورقبة وهو أبو حمزة محمد بن ميمون السكري كما جزم به أبو مسعود.

وقال الطرقي: سقط أبو حمزة من كتاب الفربري وثبت في رواية حماد بن شاكر ولا يعرف لعيسى عن رقبة نفسه شيء، وقد وصله الطبراني من طريق عيسى عن أبي حمزة عن رقبة ( عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب) الأحمسي الكوفي أنه ( قال: سمعت عمر) بن الخطاب ( -رضي الله عنه- يقول: قام فينا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقامًا) يعني على المنبر ( فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم) .

قال الطيبي: حتى غاية أخبرنا أي أخبرنا مبتدئًا من بدء الخلق حتى انتهى إلى دخول أهل الجنة الجنة ووضع الماضي موضع المضارع للتحقق المستفاد من قول الصادق الأمين ودلّ ذلك على أنه أخبر بجميع أحوال المخلوقات منذ ابتدأت إلى أن تفنى إلى أن تبعث، وهذا من خوارق العادات ففيه تيسير القول الكثير في الزمن القليل.

وفي حديث أبي زيد الأنصاري عند أحمد ومسلم قال: صلّى بنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاة الصبح وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر ثم نزل فصلّى بنا الظهر ثم صعد المنبر فخطبنا ثم العصر كذلك حتى غابت الشمس، فحدّثنا بما كان وما هو كائن فبين في هذا المقام المذكور زمانًا ومكانًا في حديث عمر -رضي الله عنه-، وأنه كان على المنبر من أول النهار إلى أن غابت الشمس.
( حفظ ذلك من حفظه ونسيه) ولأبي ذر: أو نسيه ( من نسيه) .




[ قــ :3046 ... غــ : 3193 ]
- حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَشْتُمنِي ابْنُ آدَمَ.
وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتِمَنِي وَيُكَذِّبنِي وَمَا يَنْبَغِي لَهُ.
أَمَّا شَتْمُهُ فَ.

     قَوْلُهُ : إِنَّ لِي وَلَدًا.
.
وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَ.

     قَوْلُهُ : لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي".
[الحديث 3193 - طرفاه في: 4974، 4975] .

وبه قال: ( حدّثنا) بالجمع ولغير أبي ذر: حدّثني ( عبد الله بن أبي شيبة) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة واسم أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي ( عن أبي أحمد) محمد بن عبد الله الزبيري الأزدي ( عن سفيان) الثوري ( عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه ( قال: قال رسول الله) ولغير أبي ذر قال النبي ( -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( أراه) بضم الهمزة أظنه ( يقول الله) عز وجل ( شتمني) بلفظ الماضي ولابن عساكر بلفظ
المضارع ولأبي ذر بدل قوله: أراه الخ ... ( قال الله تعالى: يشتمني ابن آدم) بلفظ المضارع المفتوح
الأول وكسر التاء والشتم الوصف بما يقتضي النقص ( وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني وما ينبغي له) .
أن يكذبني ( أما شتمه فقوله: أن لي ولدًا) لاستلزامه الإمكان المستدعي للحدوث وذلك غاية النقص في حق الباري تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
( وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني) وهذا قول منكري البعث من عباد الأوثان وهو موضع الترجمة وهو من الأحاديث الآلهيات.




[ قــ :3047 ... غــ : 3194 ]
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهْوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي».
[الحديث 3194 - أطرافه في: 7404، 741، 7453، 7553، 7554] .

وبه قال: ( حدّثنا قتيبة بن سعيد) سقط ابن سعيد لأبي ذر قال: ( حدّثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه ( قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( لما قضى الله الخلق) أي خلقه كقوله تعالى: { فقضاهن سبع سماوات} [فصلت: 1] .
أو أوجد جنسه.
وقال ابن عرفة: قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه ( كتب) أي أمر القلم أن يكتب ( في كتابه فهو عنده) أي فعلم ذلك عنده ( فوق العرش) : مكنونًا عن سائر الخلائق مرفوعًا عن حيز الإدراك ولا تعلق لهذا بما يقع في النفوس من تصوّر المكانية تعالى الله عن صفات المحدثات فإنه المباين عن جميع خلقه المتسلط على كل شيء بقهره وقدرته ( إن رحمتي) بكسر الهمزة حكاية لمضمون الكتاب وتفتح بدلاً من كتب ( غلبت) وفي رواية شعيب عن أبي الزناد في التوحيد تغلب ( غضبي) والمراد من الغضب لازمه وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب لأن السبق والغلبة باعتبار التعلق أي تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأما الغضب فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد الحادث.

وقال التوربشتي: وفي سبق الرحمة بيان أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب وأنها تنالهم من غير استحقاق وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق ألا ترى أن الرحمة تشمل الإنسان جنينًا ورضيعًا وفطيمًا وناشئًا من غير أن يصدر منه شيء من الطاعة ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من المخالفات ما يستحق ذلك.

وقال في المصابيح: الغضب إرادة العقاب والرحمة إرادة الثواب والصفات لا توصف بالغلبة ولا يسبق بعضها بعضًا، لكن جاء هذا على الاستعارة ولا يمتنع أن تجعل الرحمة والغضب من صفات الفعل لا الذات فالرحمة هي الثواب والإحسان، والغضب هو الانتقام والعقاب، فتكون الغلبة على بابها أي أن رحمتي أكثر من غضبي فتأمله.

وقال الطيبي: وهو على وزان قوله تعالى: { كتب على نفسه الرحمة} [الأنعام: 1] .
أي أوجب وعدًا أن يرحمهم قطعًا بخلاف ما يترتب عليه مقتضى الغضب والعقاب فإن الله تعالى كريم يتجاوز بفضله وأنشد:
وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إبعادي ومنجز موعدي
وفي هذا الحديث تقدم خلق العرش على القلم الذي كتب المقادير وهو مذهب الجمهور، ويؤيده قول أهل اليمن في الحديث السابق لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: جئنا نسألك عن هذا الأمر فقال:
"كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء".

وقد روى الطبراني في صفة اللوح من حديث ابن عباس مرفوعًا: إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابته نور لله في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما شاء.

وعند ابن إسحاق عن ابن عباس أيضًا قال: في صدر اللوح المحفوظ لا إله إلاّ الله وحده دينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة.
قال: اللوح لوح من درّة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه نور وأعلاه معقود بالعرش وأصله في حجر ملك.

وقال أنس بن مالك وغيره من السلف: اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل.
وقال مقاتل: هو عن يمين العرش.

وحديث الباب أخرجه مسلم في التوبة والنسائي في النعوت.