فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين. ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} [آل عمران: 43] " يقال: يكفل يضم، (كفلها) ضمها، مخففة، ليس من كفالة الديون وشبهها "

باب { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 42] يُقَالُ: { يَكْفُلُ} : يَضُمُّ.
كَفَلَهَا: ضَمَّهَا، مُخَفَّفَةً, لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَا.

هذا ( باب) بالتنوين من غير ترجمة وهو كالفصل من سابقه ( { وإذ قالت الملائكة} ) جبريل وحده لدلالة ما في سورة مريم على أن المتكلم معها جبريل حيث قال الله: { فأرسلنا إليها روحنا} [مريم: 17] ( { يا مريم إن الله اصطفاك} ) بأن قبلك للنذيرة ولم يقبل أنثى غيرك وتفريغك للعبادة وإغنائك برزق الجنة عن الكسب ( { وطهّرك} ) مما يستقذر من النساء ( { واصطفاك} ) بالهداية وإرسال جبريل إليك وتخصيصك بالكرامات السنية كالولد من غير أب وتبرئتك مما قذفتك اليهود بإنطاق الطفل ( { على نساء العالمين} ) وقد دلت هذه الآية على أنها أفضل من سائر النساء ( { يا مريم اقنتي لربك} ) اعبديه { واسجدي} صلي، وتسمية الشيء بأشرف أجزائه مجاز مشهور ( { واركعي مع الراكعين} ) لم يقل مع الراكعات لأن الاقتداء بالرجل حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء، وقدم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم أو أن الواو لا تقتضي ترتيبًا ( { ذلك} ) مبتدأ أي ما ذكر من القصص خبره ( { من أنباء الغيب} ) وجملة ( { نوحيه إليك} ) مستأنفة والضمير في نوحيه إليك عائد على الغيب أي الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والإخبار، ولذلك أتى بالمضارع في نوحيه ( { وما كنت لديهم} ) بحضرتهم ( { إذ يلقون أقلامهم} ) أي سهامهم للاقتراع أو أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة تبركًا ينظرون أو يقولون ( { أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} ) [آل عمران: 42 - 43 - 44] تنافسًا في كفالتها إما لأن أباها عمران كان رئيسًا لهم، أو لأن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيته، وسقط لأبي ذر من قوله { وطهرك} إلى آخر قوله { أقلامهم} وقال بعد ( اصطفاك) الآية إلى قوله ( أيهم) .

( يقال: { يكفل} ) أي ( يضم كفلها) أي ( ضمها) زكريا إلى نفسه حال كون كفلها ( مخففة) وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير وابن عامر، وقراءة الكوفيين بالتشديد أي كفلها الله تعالى ولا مخالفة بين القراءتين لأن الله تعالى لما كفلها إياه كفلها ( ليس من كفالة الدّيون) بالجمع وفي نسخة الدين ( وشبهها) .
قال في اللباب: الكفالة الضمان في الأصل ثم يستعار للضم والأخذ يقال منه كفل يكفل وكفل كعلم يعلم كفالة، وكفلاً فهو كافل وكفيل والكافل هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله.


[ قــ :3275 ... غــ : 3432 ]
- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا -رضي الله عنه- يَقُولُ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ».
[الحديث 3432 - طرفه في: 3815] .

وبه قال: ( حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا ( أحمد بن أبي رجاء) بالجيم عبد الله بن أيوب الحنفي الهروي قال: ( حدّثنا النضر) بالضاد المعجمة ابن شميل ( عن هشام) أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( أبي) عروة بن الزبير بن العوّام ( قال: سمعت عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب ( قال: سمعت عليًا -رضي الله عنه- يقول: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) :
( خير نسائها) أي خير نساء أهل الدنيا في زمانها ( مريم ابنة عمران) وليس المراد أن مريم خير نسائها لأنه يصير كقولهم: يوسف أحسن إخوته، وقد صرحوا بمنعه لأن أفعل التفضيل إذ أضيف وقصد به الزيادة على من أضيف له اشترط أن يكون منهم مثل: زيد أفضل الناس فإن لم يكن منهم فلا يجوز كما في يوسف أحسن إخوته لخروجه عنهم بإضافتهم إليه.

وقال الزركشي: في قوله هنا خير فيه وجهان.
أحدهما: أن يجعل خير بمعنى الخير لا على جهة التفضيل، وثانيهما: وهو الأصح أن الضمير راجع إلى الدنيا كما في زيد أفضل أهل الدنيا، ويجوز أن يكون على تقدير مضاف محذوف أي خير نساء زمانها مريم فيعود الضمير على مريم، وإنما جاز أن يرجع الضمير للدنيا وإن لم يجر لها ذكر لأنه يفسره الحال والمشاهدة.
وقد رواه النسائي من حديث ابن عباس بلفظ: أفضل نساء أهل الجنة، وحينئذٍ فالمعنى خير نساء أهل الجنة مريم، وفي رواية خير نساء العالمين وهو كقوله تعالى: { واصطفاك على نساء العالمين} [آل عمران: 42] وظاهره: أنها أفضل من جميع النساء، وقول من قال على عالمي زمانها ترك للظاهر.

قال القرطبي: خص الله تعالى مريم بما لم يؤته أحدًا من النساء، وذلك أن روح القدس كلمها وطهرها ونفخ في درعها، وليس هذا لأحد من النساء وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية عندما بشرت كما سأل زكريا عليه الصلاة والسلام عن الآية، ولذلك سماها الله تعالى صديقة فقال: { وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12] فشهد لها بالصديقية والتصديق والقنوت، ويحتمل أن يكون المراد كما قال الكرماني نساء بني إسرائيل أو من فيه مضمرة كما قال القاضي عياض:
( وخير نسائها) أي هذه الأمة ( خديجة) أم المؤمنين.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في فضل خديجة ومسلم في الفضائل والترمذي والنسائي في المناقب.