فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قوله: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم

باب .

     قَوْلُهُ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 171] .

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: { كَلِمَتُهُ} كُنْ فَكَانَ.
.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ: { وَرُوحٌ مِنْهُ} : أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحًا { وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ} .

( باب قوله عز وجل) : وفي نسخة: باب قوله تعالى: ( { يا أهل الكتاب} ) قال القاضي عياض: وقع في رواية الأصيلي هنا ( قل يا أهل الكتاب) ولغيره بحذف ( قل) وهو الصواب أي في هذه الآية.
نعم ثبت في آية المائدة { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق} [المائدة: 77] والمراد هنا آية النساء ( { لا تغلوا في دينكم} ) الخطاب للنصارى أي لا تجاوزوا الحد في تعظيم المسيح، وذلك أن الملكانية اتخذوه إلهًا، واليعقوبية يقولون: إنه ابن الله، والمرقوسية يقولون: ثالث ثلاثة أو الخطاب مع الفريقين، وذلك أن اليهود بالغوا في الحط حتى قالوا: إنه غير رشيد وذلك في الدين حرام ( { ولا تقولوا على الله إلاّ الحق} ) استثناء مفرغ فالنصب على المفعولية لتضمنه معنى القول نحو: قلت خطبة أو نعت مصدر محذوف أي إلا القول الحق.
أي نزهوه عن الصاحبة والولد والشريك والحلول والاتحاد ( { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم} ) أوصلها إليها، المسيح مبتدأ وعيسى بدل منه أو عطف بيان وابن مريم صفة ورسول الله خبر المبتدأ وكلمته عطفًا عليه، وألقاها جملة في موضع الحال من الضمير المستتر في كلمته العائد على عيسى ( { وروح منه} ) أي وذو روح صدرت منه بأمره لجبريل أن ينفخ في درع مريم فحملت به، أو لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب ( { فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة} ) خبر مبتدأ مضمر أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، والجملة في موضع نصب بالقول: { انتهوا} عن التثليث ( { خيرًا لكم} ) ثم أكد التوحيد بقوله: ( { إنما الله إله واحد} ) بالذات لا تعدد فيه بوجه ما ثم نزه نفسه عن الولد بقوله: ( { سبحانه أن يكون له ولد} ) وتقديره من أن يكون أي نزهوه من أن يكون له ولد فإنه يكون لمن يعادله مثل ويتطرق إليه فناء ( { له ما في السماوات وما في الأرض} ) ملكًا وخلقًا وعيسى ومريم في جملة ذلك ( { وكفى بالله وكيلاً} ) كافيًا في تدبير المخلوقات وحفظ المحدثات لا يحتاج معه إلى آخر يعينه مستغنيًا
عمن يخلفه من ولد أو غيره، وسقط قوله: { ولا تقولوا} الخ لأبي ذر وقال بعد قوله { في دينكم} إلى { وكيلاً} .

( قال أبو عبيد) القاسم بن سلام ( { كلمته} ) في قوله تعالى: { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته} [النساء: 171] هي قوله جل وعلا: ( كن فكان) من غير واسطة أب ولا نطفة.
( وقال غيره) : غير أبي عبيد القاسم ( { وروح منه} ) [النساء: 171] أي ( أحياه فجعله روحًا) وهذا قول أبي عبيدة معمر بن المثنى وسبق قريبًا غيره { ولا تقولوا ثلاثة} [النساء: 171] أي آلهة ثلاثة الله والمسيح ومريم ويشهد له قوله تعالى: { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إليهن من دون الله} [المائدة: 116] أو أنهم يقولون إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم فيجعلون كل أقنوم إلهًا، ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعنون بالأقانيم الأب وابن وروح القدس، ويريدون بالأب الوجود، وبالروح الحياة، وبالمسيح العلم، أو الأب الذات والابن العلم والروح الحياة في كلام لهم فيه تخبيط، ومحصله يؤول إلى التمسك بأن عيسى إليه كان يجري الله تعالى على يديه من الخوارق وقالوا: قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفًا بالإلهية فيقال لهم: لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلاً به كان تخليصه من أعدائه من مقدوراته وليس كذلك، فإن اعترفوا بذلك سقط استدلالهم وإن لم يسلموا فلا حجة لهم أيضًا لأنهم معارضون بخوارق العادات الجارية على أيدي غيره من الأنبياء كفلق البحر وقلب العصا حيّة لموسى.
وبه قال:

[ قــ :3278 ... غــ : 3435 ]
- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ».

( حدّثنا صدقة بن الفضل) المروزي قال: ( حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا ( الوليد) بن مسلم الدمشقي ( عن الأوزاعي) عبد الرَّحمن أنه قال: ( حدثني) بالإفراد ( عمير بن هانئ) بضم العين وفتح الميم مصغرًا وهانئ مهموز العنسي بعين وسين مهملتين بينهما نون ساكنة الدمشقي الداراني ( قال: حدثني) بالإفراد أيضًا ( جنادة بن أمية) بضم الجيم وتخفيف النون الأزدي ( عن عبادة) بن الصامت ( -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله) زاد ابن المديني وابن أمته ( ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) ذكر عيسى تعريضًا بالنصارى وإيذانًا بأن إيمانهم مع القول بالتثليث شرك محض لا يخلصهم من النار وأنه رسوله تعريضًا باليهود في إنكارهم رسالته وانتمائهم إلى ما لا يحل من قذفه وقذف أمه وأنه ابن أمته
تعريضًا بالنصارى أيضًا وتقريرًا لعبديته أي هو عبد الله وابن أمته، فكيف ينسبونه إلى الله عز وجل بالنبوة ( والجنة) كذا ( حق والنار) كذا ( حق) أخبر عنهما بالمصدر مبالغة في الحقية، وأنهما عين الحق كزيد عدل تعريضًا بمنكري داري الثواب والعقاب ( أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) .

فيه أن عصاة أهل القبلة لا يخلدون في النار لعموم قوله: مَن شهد أن لا إله لا الله وأنه تعالى يعفو عن السيئات قبل التوبة واستيفاء العقوبة، لأن قوله على ما كان من العمل حال من قوله أدخله الله الجنة، ولا ريب أن العمل غير حاصل حينئذٍ بل الحاصل حال إدخاله استحقاق ما يناسب عمله من الثواب والعقاب لا يقال إن ما ذكر يستدعي أن لا يدخل أحد من العصاة لأن اللازم منه عموم العفو وهو لا يستلزم عدم دخول النار لجواز أن يعفو عن بعضهم بعد الدخول وقبل استيفاء العذاب.

"وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر".

وحديث الباب أخرجه مسلم في الإيمان والنسائي في التفسير وفي اليوم والليلة.

وقال الطيبي: التعريف في العمل للعهد والإشارة به إلى الكبائر يدل له نحو قوله "وإن زنى وإن سرق" في حديث أبي ذر، وقوله: على ما كان حال، والمعنى من شهد أن لا إله إلا الله يدخل الجنة في حال استحقاقه العذاب بموجب أعماله من الكبائر أي حال هذا مخالف للقياس في دخول الجنة، فإن القياس يقتضي أن لا يدخل الجنة من شأنه هذا كما زعمت المعتزلة: وإلى هذا المعنى ذهب أبو ذر في قوله "وإن زنى وإن سرق"؟ وردّ بقوله
( قال الوليد) : هو ابن مسلم بالإسناد السابق ( حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: وحدّثني ( ابن جابر) هو عبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر الأزدي ( عن عمير) هو ابن هانئ ( عن جنادة) هو ابن أبي أمية بالحديث السابق عن عبادة ( وزاد) بعد قوله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ( من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء) .
بنصب أيّ وجره الداخل أو شاء الله تعالى من الباب المعدّ لذلك العمل.