فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب {منه آيات محكمات} [آل عمران: 7]

باب
{ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} .

     وَقَالَ  مُجَاهِدٌ: الْحَلاَلُ، وَالْحَرَامُ { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} وَكَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: { وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} { زَيْغٌ} شَكٌّ.
{ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} الْمُشْتَبِهَاتِ { وَالرَّاسِخُونَ} يَعْلَمُونَ.
{ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} .

هذا (باب) بالتنوين ثبت باب لأبي ذر عن الكشميهني والمستملي في قوله تعالى: ({ منه آيات محكمات} وقال مجاهد): مما أخرجه عبد بن حميد هي (الحلال والحرام: { وأخر متشابهات} ) [آل عمران: 7] أي (يصدّق بعضه بعضًا كقوله تعالى: { وما يضل به إلا الفاسقين} ) [البقرة: 26] و (كقوله جل ذكره: { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} ) [يونس: 100] وكقوله تعالى: ({ والذين اهتدوا زادهم هدى} ) [محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 17] زاد أبو ذر عن الكشميهني والمستملي وآتاهم تقواهم هذا تفسير للمتشابه وذلك أن المفهوم من الآية الأولى أن الفاسق وهو الضال تزيد ضلالته وتصدقه الآية الأخرى حيث يجعل الرجس للذي لا يعقل وذلك حيث تزيد للمهتدي الهداية قاله الكرماني.
وقال بعضهم: المحكم ما وضح معناه فيدخل فيه النص والظاهر، والمتشابه ما ترددت فيه الاحتمالات فيدخل فيه المجمل والمؤول.
وقال الزمخشري: محكمات أحكمت عباراتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه.

قال الزجاج فيما حكاه الطيبي: المعنى أحكمت في الإبانة فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى التأويل وقسم الراغب المتشابه إلى قسمين.
أحدهما ما يرجع إلى ذاته، والثاني إلى أمر ما يعرض له.

والأول على ضروب ما يرجع إلى جهة اللفظ مفردًا ما لغرابته نحو وفاكهة وأبا أو لمشاركته الغير نحو اليد والعين أو مركبًا أما للاختصار نحو: { واسأل القرية} أو للإطناب نحو { ليس كمثله شيء} أو لإغلاق اللفظ نحو فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما الآية.

وثانيها ما يرجع إلى المعنى أما من جهة دقته كأوصاف الباري عز وجل وأوصاف القيامة أو من جهة ترك الترتيب ظاهرًا نحو: { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} إلى قوله: { لعذبنا الذين كفروا} [الفتح: 25] وثالثها: ما يرجع إلى اللفظ والمعنى معًا وأقسامه بحسب تركيب بعض وجوه اللفظ مع بعض وجوه المعنى نحو غرابة اللفظ مع دقة المعنى ستة أنواع، لأن وجوه اللفظ ثلاثة، ووجوه المعنى اثنان ومضروب الثلاثة في اثنين ستة.

والقسم الثاني من المتشابه وهو ما يرجع إلى ما يعرض في اللفظ وهو خمسة أنواع.

الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص.

الثاني من طريق الكيفية كالوجوب والندب.

الثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ.

الرابع من جهة المكان كالمواضع والأمور التي نزلت فيها نحو: { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} [البقرة: 189] وقوله تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37] فإنه يحتاج في معرفة ذلك إلى معرفة عاداتهم في الجاهلية.

الخامس من جهة الإضافة وهي الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط العبادات والأنكحة والبيوع.

وقد يقسم المتشابه والمحكم بحسب ذاتهما إلى أربعة أقسام.

المحكم من جهة اللفظ والمعنى كقوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات.

الثاني متشابه من جهتهما معًا قوله تعالى: { فمن يرد الله أن يهديه} [الأنعام: 125] الآية.

الثالث متشابه في اللفظ محكم في المعنى قوله تعالى: { وجاء ربك} الآية.

الرابع متشابه في المعنى محكم في اللفظ نحو: الساعة والملائكة.

وإنما كان فيه المتشابه لأنه باعث على تعلم علم الاستدلال لأن معرفة المتشابه متوقفة على معرفة علم الاستدلال فتكون حاملة على تعلمه فتتوجه الرغبات إليه ويتنافس فيه المحصلون فكان كالشيء النافق بخلافه إذا لم يوجد فيه المتشابه فلم يحتج إليه كل الاحتياج فيتعطل ويضيع ويكون كالشيء الكاسد قاله الطيبي.

وقوله تعالى: { فأما الذين في قلوبهم} ({ زيغ} ) أي (شك).
وضلال وخروج عن الحق إلى الباطل: { فيتبعون ما تشابه منه} ({ ابتغاء الفتنة} ) مصدر مضاف لمفعوله منصوب له أي لأجل طلب (المشتبهات) بضم الميم وسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة ليفتنوا الناس عن دينهم لتمكنهم من تحريفها إلى مقاصدهم الفاسدة كاحتجاج النصارى بأن القرآن نطق بأن عيسى روح الله وكلمته وتركوا الاحتجاج بقوله: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه، وأن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، وهذا بخلاف المحكم فلا نصيب لهم فيه وحجة عليهم، وتفسير الفتنة بالمشتبهات لمجاهد وصله عبد بن حميد ({ والراسخون} ) يعلمون) ولأبي ذر عن المستملي والكشميهني { والراسخون في العلم} يعلمون ({ يقولون} ) خبر المبتدأ الذي هو والراسخون أو حال أي والراسخون يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك أو خبر مبتدأ مضمر أي هم يقولون
({ آمنا به} ) [آل عمران: 7] زاد في نسخة عن المستملي والكشميهني كل من عند ربنا أي كل من المتشابه والمحكم من عنده وما يذكر إلا أولو الألباب وسقط جميع هذه الآثار من أول السورة لي هنا عن الحموي.


[ قــ :4296 ... غــ : 4547 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الآيَةَ { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] .
قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ».

وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (حدّثنا يزيد بن إبراهيم) أبو سعيد (التستري) بالسين المهملة (عن ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبد الرحمن (عن القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصديق (عن عائشة -رضي الله عنها-) إنها (قالت: تلا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الآية { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب} ) قال الزمخشري أي أصل الكتاب تحمل المشتبهات عليها.
قال الطيبي: وذلك أن العرب تسمي كل جامع يكون مرجعًا لشيء أما قال القاضي البيضاوي والقياس أمهات الكتاب وأفرد على أن الكل بمنزلة آية واحدة أو على تأويل كل واحدة ({ وأُخر مشابهات} ) عطف على آيات ومتشابهات نعت لآخر وفي الحقيقة أخر نعت لمحذوف تقديره وآيات أخر متشابهات ({ فأما الذين في قلوبهم زيغ} ) قال الراغب: الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ومنه زاغت الشمس عن كبد السماء وزاغ البصر والقلب، وقال بعضهم: الزيغ أخص من مطلق الميل، فإن الزيغ لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل والمراد أهل البدع ({ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} ) على ما يشتهونه ({ وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} ).

قال في الكشاف: أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله، وتعقبه في الانتصاف بأنه لا يجوز إطلاق الاهتداء على الله تعالى لما فيه من إيهام سبق جهل وضلال تعالى الله وتقدس عن ذلك لأن اهتدى مطاوع هدى ويسمى من تجدد إسلامه مهتديًا وانعقد الإجماع على امتناع إطلاق الألفاظ الموهمة عليه تعالى قال: وأظنه سها فنسب الاهتداء إلى الراسخين في العلم وغفل عن شمول ذلك الحق جل جلاله.

({ يقولون آمنا به} ) وفي مصحف ابن مسعود: ويقول الراسخون في العلم آمنا به بواو قبل يقول وثبت ذلك من قراءة ابن عباس كما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح وهو يدل على أن الواو للاستئناف.
قال صاحب المرشد: لا إنكار لبقاء معنى في القرآن استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه
فالوقف على إلا الله على هذا تام ولا يكاد يوجد في التنزيل أما وما بعدها رفع إلا ويثنى ويثلث كقوله تعالى: { أما السفينة} { وأما الغلام} { وأما الجدار} الآيات، فالمعنى وأما الراسخون فحذف لدلالة الكلام عليه.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن يجاء في الجواب بالفاء وليس بعد والراسخون الفاء، فجوابه: أن أما لما حذفت ذهب حكمها الذي يختص بها فجرى مجرى الابتداء والخبر ({ كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} ) وسقط قوله: { وما يعلم تأويله} إلا الله الخ لغير أبي ذر وقالوا بعد قوله وابتغاء تأويله إلى قوله وما يذكر إلا أولو الباب.

(قالت) عائشة رضي الله تعالى عنها: (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) بكسر تاء رأيت وكاف أولئك على خطاب عائشة وفتحهما لأبي ذر على أنه لكل أحد ولأبي ذر عن الكشميهني فاحذرهم بالإفراد أي احذر أيها المخاطب الإصغاء إليهم وأول ما ظهر ذلك من اليهود كما عند ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة وإن عددها بالجمل بقدر مدة هذه الأمة ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج.

وحديث الباب أخرجه مسلم في القدر وأبو داود في السنة والترمذي في التفسير.